شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح

حذف المنادى بعد حرف النداء

          ░1▒
          فمنها: قولُ ورقةَ بنِ نَوْفلٍ: (يا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ)، فقالَ رسولُ اللهِ صلعم: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هم؟». [خ¦3]
          قالَ: يظنُّ أكثرُ الناسِ أنَّ (يا) التي تليْهَا (ليتَ) حرفُ نداءٍ، والمنادى محذوفٌ، فتقديرُ قولِ ورقةَ على هذا: يا محمدُ ليتني كنتُ حيًّا. وتقديرُ قولِه تعالى: {يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ} [النساء:73]: يا قومِ ليتني كنتُ معهمُ/.
          وهذا الرأيُ عندي ضعيفٌ؛ لأنَّ قائلَ (يا ليتني) قدْ يكونُ وحدَه فلا يكونُ معَهُ مُنادًى ثابتٌ، ولا محذوفٌ، كقولِ مريمَ ♀: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا (1)}[مريم:23]؛ لأنَّ الشَّيءَ إنما يَجُوزُ حذفُه معَ صحَّة المعنى بدونِهِ، إذا كانَ الموضعُ / الذي ادُّعيَ فيه حذفُهُ مُستَعْمَلًا فيه ثُبوتُه، كحذفِ المنادى قبلَ أَمْرٍ أو دعاءٍ، فإنَّه يجوزُ حذفُه لكثرةِ ثُبوتِهِ، فإنَّ الآمرَ والدَّاعيَ يحتاجانِ إلى توكيدِ اسمِ المأمورِ والمَدْعُوِّ، بتقديمِه على الأمرِ والدُّعاءِ، واستعملَ ذلكَ كثيراً حتى صارَ موضعُه مُنَبِّهاً عليهِ إذا حُذِفَ، فَحَسُنَ حذفُه لذلكَ.
          فمنْ ثبوتِهِ قبلَ الأمرِ: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}[البقرة:35]، و {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ} [الأعراف:31]، و {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}[هود:76]، و {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ (2)}[مريم:12]، و {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} [لقمان:17]، و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ}[الأحزاب:1].
          ومنْ ثُبوتِه/ قبلَ الدُّعاءِ: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ}[الأعراف:134]، و {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا} [يوسف:97]، و {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، ومنه قولُ الرَّاجزِ:
يا رَبِّ هَبْ لي مِنْ لدنكَ مغفرهْ                     تمحو خطايايَ وأُكْفَى(3) المعذرهْ
          ومنْ حذفِ المنادى المأمورِ، قوله تعالى _في قراءة الكِسائي_ : {أَلَا يَا اسْجُدُوا} [النمل:25]، أرادَ: أَلَا يا هؤلاءِ اسجدوا. /
          ومثال ذلكَ في الدُّعاءِ، قولُ الشَّاعرِ:
أَلَا يا اسْلَمي يا دَارَ ميٍّ على البِلَى                     ولا زالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعائكِ القَطْرُ
          فحسَّنَ حذفَ المنادى قبلَ الأمرِ والدُّعاءِ اعتيادُ ثبوتِه في محلِّ ادِّعاءِ الحذفِ، بخلافِ (ليتَ)؛ فإنَّ المنادى لم تستعملْهُ العربُ قبلَها ثابتاً، فادِّعاءُ حذفِهِ باطلٌ؛ لخلُوِّهِ من دليلٍ، فيتعينُ كونُ (يا) التي تقعُ قبلَها لمجرَّدِ التَّنبيهِ، مثلُ (أَلَا) في نحوِ قولِ الشَّاعرِ:
أَلَا ليتَ شِعْري هَلْ أبيتَنَّ ليلةً                     بوادٍ وحولي إذْخِرٌ وجليلُ/
          ومثلُ (ها) في قولِه تعالى: {هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ}[آل عمران:119] وفي قولِ السَّائلِ عن أوقاتِ الصَّلاةِ: (هَا أَنَا ذَا يا رسولَ اللهِ).
          وقدْ يُجمعُ بينَ (أَلَا) و(يا) توكيداً للتنبيه، كما جُمعَ بينَ (كي) و(اللام) ومعناهُما واحدٌ(4) في قولِ الشَّاعرِ: /
أردتَ لكيما أَنْ تطيرَ بِقِرْبتي                     فتتركَها شَنًّا ببيداءَ بَلْقَعِ
          فـ: (كي) هنا؛ إنْ جُعلتْ جارَّةً، فقدْ جُمعَ(5) بينها وبينَ (اللَّام) مع توافقِهما معنًى وعملاً، وهو الأظهرُ، وإنْ جُعلت الناصبةَ بنفسِها، فقد جُمعَ بينها وبينَ (أَنْ) مع توافقِهما أيضاً معنًى وعملاً، وسَهَّلَ ذلكَ اختلافُ اللفظتينِ.
          فلو اتفقَ الحرفانِ لفظاً، ولم يكونا حَرْفي جوابٍ، لم يجزْ اجتماعُهما إلَّا بفَصلٍ، كقولِه تعالى: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء}[آل عمران:66].
          وقد يُغني عن الفصلِ انفصالُهما بالوقفِ على أوَّلهما، كقولِ الرَّاجزِ:
لا يُنْسِكَ الأسى تأسِّيًا فَمَا                     مَا مِنْ حِمَامٍ أحدٌ مُعْتَصِمَا/
          ومثلُ (يا) الواقعةِ قبلَ (ليت) في تجرُّدهَا للتنبيه (يا) الواقعةُ قبلَ (حَبَّذا) في قولِ الشَّاعرِ:
يا حبذَا جبلُ الريَّانِ مِنْ جبلٍ                     وحَبَّذَا ساكنُ الرَّيانِ مَنْ كانَا /
          وقبلَ (رُبَّ) في قولِ الرَّاجزِ:
يا رُبَّ سَارٍ باتَ مَا توسَّدَا                     إلَّا ذراعَ العَنْسِ أَوْ كَفَّ اليدَا
          وقولُه: (إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ)، استعمل فيه (إذْ) مُوافِقَةً (إذا) في إفادةِ الاستقبالِ، وهو استعمالٌ صحيحٌ غَفَلَ عن التنبيهِ عليهِ أكثرُ النحويينَ. ومنه قولُه تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ}[مريم:39]، وقوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}[غافر:18] (6)، وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ}[غافر:70-71].
          وكما استُعملتْ (إذ) بمعنى: (إذا)، استعملتْ(7) (إذا) بمعنى: (إذ)، كقولِهِ تعالى/: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ}[آل عمران:156]، وكقولِهِ تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}[التوبة:92]، وكقولِهِ تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[الجمعة:11]؛ لأنَّ: {لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ}[آل عمران:156] و {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}[التوبة:92] مقولانِ فيما مضى. وكذا الانفضاضُ المشارُ إليه واقعٌ أيضاً فيما مضى، فالمواضعُ الثَّلاثةُ صالحةٌ لـ: (إذْ)، وقدْ قامتْ (إذا) مقامَهَا. /
          وأمَّا قولُ النَّبيِّ صلعم: «أَوَ مُخرجيَّ هم؟» فالأصلُ فيهِ وفي أمثالِهِ تقديمُ حرفِ العطفِ على الهمزةِ، كما يُقَدَّمُ(8) على غيرِها منْ أدواتِ الاستفهامِ، نحو: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ (9)}[آل عمران:101]، ونحو: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88]،/ ونحو: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ}[الأنعام:81]، ونحو: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61]، ونحو: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [الرعد:16]، ونحو: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}[التكوير:26].
          فالأصلُ أَنْ يُجاءَ بالهمزةِ بعدَ العاطفِ، كما جِيءَ بعدَهُ بأخواتِها، فكانَ يُقالُ في: {أَفَتَطْمَعُونَ} [البقرة:75] وفي {أَوَكُلَّمَا} [البقرة:100]، وفي {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ}[يونس:51] : (فأتطمعون)، و(وأكُلَّما)، و(ثُمَّ أإذا ما وقعَ)؛ لأنَّ همزةَ(10) الاستفهامِ جزءٌ من جملةِ الاستفهامِ، وهي معطوفةٌ على ما قبلَها منَ الجُمَلِ، والعاطفُ لا يتقدمُ عليهِ جزءٌ مما عَطَفَ(11)، ولكنْ خُصَّت الهمزةُ بتقديمِها على العاطفِ تنبيهاً على أنَّها أصلُ أدواتِ الاستفهامِ؛ لأنَّ الاستفهامَ له صدرُ الكلامِ، وقدْ خُولفَ هذا الأصلُ في غيرِ الهمزةِ، فأرادُوا التنبيهَ عليهِ، فكانتِ الهمزةُ بذلكَ أولى؛ لأصالتِها في الاستفهامِ.
          وقد غَفَلَ الزَّمخشريُّ في معظمِ كلامِهِ في (الكشافِ) عنْ هذا المعنى، / فادَّعى أنَّ بينَ الهمزةِ وحرفِ العطفِ جملةً محذوفةً معطوفًا عليها/ بالعاطفِ وما بعدَهُ. وفي هذا من التكلُّفِ ومخالفةِ الأصولِ ما لا يَخْفى.
          وقدْ تقدَّمَ في كلامِي على (يا ليتني) أنَّ المُدَّعيَ حَذْفَ شيءٍ يصحُّ المعنى بدونِهِ لا تَصحُّ(12) دعواهُ حتى يكونَ موضعُ ادِّعاءِ الحذفِ صالحاً للثبوتِ، ويكونَ الثبوتُ مع ذلكَ أكثرَ من الحذفِ. وما نحنُ بصدده بخلافِ ذلكَ، فلا سبيلَ على تسليمِ الدَّعوى.
          وقدْ رَجَعَ الزَّمخشريُّ عن الحذفِ إلى ترجيحِ الهمزةِ على أخواتِها بكمالِ التَّصديرِ.
          والأصلُ في «أَوَ مُخرجيَّ هم»: أَوَ مُخْرِجُويَ هم، فاجتمعتْ واوٌ ساكنةٌ وياءٌ، فأبدلتِ(13) الواوُ ياءً وأُدغمتْ في الياءِ، وأُبدلتِ الضَّمةُ التي كانتْ قبلَ الواوِ كسرةً تكميلاً للتخفيفِ، كما فُعِلَ باسم مفعولِ (رميتُ) حينَ قيلَ فيه: مَرْمِيٌّ، وأصلُهُ: مَرْمُويٌ.
          ومثلُ: (مُخرجيّ) من الجمعِ المرفوعِ المضافِ إلى ياءِ المتكلمِ قولُ الشَّاعرِ:/ /
أَوْدَى بنيَّ وأَوْدَعُونِي حَسْرَةً                     عندَ الرُّقادِ وعَبْرةً ما تُقْلَعُ
          و(مُخرجيّ) خبرٌ مقدَّمٌ، و(هم) مبتدأٌ مؤخَّرٌ، ولا يجوزُ العكسُ؛ لأنَّ (مخرجيَّ) نكرةٌ، فإنَّ إضافتَه إضافةٌ غيرُ محضةٍ، إذْ هو اسمُ فاعلٍ بمعنى الاستقبالِ، فلا يَتَعرفُ بالإضافةِ، وإذا ثبتَ كونُه نكرةً لم يصحَّ جعلُه مبتدأً؛ لئلَّا يُخبرَ بالمعرفةِ عن النَّكرةِ دُونَ مُصَحِّحٍ.
          ولو رُوي (مُخْرِجيْ) مُخَفَّفَ الياء على أنه مفردٌ غيرُ مضافٍ لجازَ وجُعلَ مبتدأً وما بعدَه فاعلٌ سَدَّ مَسَدَّ الخبر، كما تقولُ: أَمُخرجيْ بنو فلانٍ؟؛ لأنَّ (مخرجي) صفةٌ معتمِدةٌ على استفهامٍ، مُسْندَةٌ إلى ما بعدَها؛ لأنَّه وإنْ كانَ ضميراً فهو منفصلٌ، والمنفصلُ من الضمائرِ يجري مَجرى الظَّاهرِ، ومنهُ قولُ الشَّاعرِ:
أَمُنْجِزٌ أنتمُ وَعْداً وَثِقْتُ بهِ                     أَمِ اقْتَفَيتُم جميعاً نَهْجَ عُرقوبِ
          منْ هذا القبيلِ قولُ النَّبيِّ صلعم: «أَحَيٌّ/ والداكَ؟». [خ¦3004]
          والاعتمادُ على النَّفي كالاعتمادِ على الاستفهامِ، ومنه قولُ الشَّاعرِ:
خليليَّ مَا وافٍ بعهدِيَ أنتما                     إذا لم تكونَا لي على مَنْ أُقاطِعُ /


[1] والاختلافُ في ضبط هذه الكلمة هو المُرادُ من إيراد المؤلِّف لهذا النصِّ، لكنَّه أغفَلَ الكلامَ عليه، وقد سبقه في الكلام عليه جماعةٌ من أئمة العلم، وانظر لمزيدٍ من التفصيل فتح الباري: 1/ 463، وعمدة القاري: 4/ 46
[2] ونَسبها أبو مُحَلِّم إلى سَلَمة بن الحارث، كما في هامش ترتيب حماسة أبي تمَّام للأَعْلَم الشَّنْتَمُرِيِّ: 2/ 344.
وقوله: (الآمال) كذا فيه، والذي في المصادر: (الأموال) وهو أليَق بسِياق البيت، وكذلك قولُه: (خَوف) كذا ضُبطت مجوَّدةً، وهو تَصحيف، صوابُه: (جُوْفٌ) بالجيم، كما في مصادره؛ جمع جَوفاء، يعني اللَّحدَ.
[3] في (ج): «فأكفى»، بالفاء، والرجز بلا نسبة في شرح التسهيل للمؤلف3 /389.
[4] أي: ضَعفُ رفعِ الجَزاءِ بعدَ الفعل المضارِع الواقِع شَرطًا كما في الحديث والبيت). اهـ. انظر ألفية المؤلِّف (بشرح ابن عقيل): 4/ 35.
[5] في (ج): جعل.
[6] قوله: «{إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}» ليس في (ج).
[7] في (ج): استعمل.
[8] ونُسِب البيتان والقصيدة إلى عَمرِو بن شَأْسٍ في منتهى الطلب: 8/ 77.
[9] قوله: «وفيكم رسوله»: سقط من الأصل و(ب)، والمثبت من (ج).
[10] في (ب): أداة.
[11] هكذا ضبطت في الأصل، وضبطت في (ب): (عُطِفَ).
[12] في: (ج): «يصح» بالياء التحتية.
[13] في (ج): «فابتدلت».