شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح

العطف على ضمير الجر بغير إعادة الجار

          ░12▒
          ومنها قولُ رسول اللهِ صلعم: «إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ(1) اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا». [خ¦2269]
          قال: تضمَّن هذا الحديثُ العطفَ على/ ضميرِ الجرِ بغيرِ إعادةِ الجار، وهو ممنوع عند البصريين إلَّا يُونُسَ، وقُطْرُباً، والأخفشَ.
          والجواز أصحُّ من المنع؛ لِضَعْفِ احتجاج المانعين، وصحةِ استعماله نظماً ونثراً(2).
          أمَّا ضَعْفُ احتجاجهم فَبيِّنٌ، وذلك أنَّ لهم حُجَّتين:
          إحداهما: أنَّ ضميرَ الجرِّ شبيهٌ بالتنوين ومُعاقِبٌ له، فلم يَجُزِ العطفُ عليه، كما لا يُعطفُ على التنوين.
          الثانية: أنَّ حَقَّ المعطوفِ والمعطوف عليه أَنْ يصحَّ حلولُ كُلِّ واحدٍ منهما محلَّ الآخر، وضمير الجر لا يصحُّ حلولُه محلَّ مَا يُعْطَفُ عليه، فَمُنِعَ العطفُ عليه إلَّا بإعادة حرف الجر، نحو قوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ}[فصلت:11].
          والحجتان ضعيفتان: / أمَّا الأولى: فيدلُّ(3) على ضَعْفها أَنَّ شَبَهَ الضَّمير بالتنوين ضعيفٌ، فلا يترتَّبُ عليه إيجابٌ ولا منعٌ، ولو مَنَعَ من العطف عليه لَمَنَعَ من توكيده ومن الإبدال منه؛ لأنَّ/ التنوين لا يُؤكَّدُ ولا يُبدلُ منه، وضمير الجرِّ يُؤكَّدُ ويُبدلُ منه بإجماع، فللعطف عليه أُسوةٌ بهما.
          وأمَّا الثانية: فيدلُّ على ضعفها أنه لو كان حلولُ كُلِّ واحدٍ من المعطوف والمعطوف عليه محلَّ الآخر شرطاً في صحة العطف لم يجز: (رُبَّ رَجُلٍ وأخيه)، ولا:
أَيُّ فتى هَيْجَاءَ أنتَ وجَارِهَا
          ولا: (كم ناقةً لك وفصيلَها)، ولا: (الواهبُ الأمَةِ وولدِها)، ولا: (زيدٌ وأخوه منطلقان).
          وأمثال ذلك من المعطوفات الممتنِع تقدُّمها وتأخُّرُ ما عُطفتْ عليه كثيرةٌ.
          فكما لم يمتنعْ فيها العطفُ، لا يمتنعُ في: (مررتُ بك وزيدٍ) ونحوه. ولا في: «إنما مَثَلُكم واليهودِ والنصارى».
          ومن مؤيدات الجواز قوله تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة:217]، فجرُّ (المسجدِ) بالعطف/ على الهاء / المجرورة بالباء، لا بالعطف على (سبيل) لاستلزامه العطفَ على الموصول وهو (الصَّدُّ) قبل تمام صلته؛ لأنَّ (عن سبيل اللهِ)(4) صلةٌ له، إذ هو متعلِّقٌ به، و(كفرٌ) معطوف على (الصَّدُّ)، فإنْ جُعِلَ (المسجدِ) معطوفاً على (سبيلِ) كان من تمام الصلة (الصَّدُّ)(5)، و(كفرٌ) معطوف عليه، فيلزمُ ما ذكرتُه من العطف على الموصول قبل تمامِ الصلةِ، وهو ممنوع بإجماعٍ، فإنْ عُطف على الهاء خَلُصَ من ذلك، فَحُكِمَ برجحانه لِتَـــبَـــيُّـــنِ بُرهانه.
          ومن مؤيدات الجواز قراءةُ حمزةَ: {وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ} [النساء:1] بالخفض، وهي أيضاً قراءة ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والنَّخَعي، والأعمش، ويحيى بن وَثَّاب، وأبي رَزِين.
          ومن مؤيداته قولُ بعضِ العرب: (ما فيها غيرُهُ وفرسِه).
          وأجاز الفرَّاء أن يكون/: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} معطوفاً على {لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}[الحجر:20]. /
          وأنشد سيبويه:
فاليومَ قد بِتَّ تَهْجُونا وَتَشْتِمُنا                     فَاذْهَبْ فما بِكَ والأيامِ من عَجَبِ
          وأنشد أيضاً:
آبَكَ أَيِّهْ بيَ أَوْ مُصَدَّرِ                     مِنْ حُمُرِ الجِلَّة جَأْبٍ حَشْورِ
          وأنشد غيره:
إذا أَوْقَدُوا ناراً لحربِ عَدُوِّهم                     فقد خَابَ مَنْ يَصْلَى بها وسَعِيرِها
          ومثله:
بنا أبداً لا غيرِنا تُدرَكُ المُنىَ                     وتُكْشَفُ(6) غَمَّاءُ الخطوبِ الفوادحِ
          ومثله:
لو كان لي وزُهَيْرٍ ثالثٌ وَرَدَتْ                     مِنَ الحِمَامِ عِدانَا شَرَّ مَوْرُودِ
          ومثله: /
به اعْتَضِدَنْ أو مثلِه تَكُ ظافراً                     فما زالَ مُعْتَزّاً به مَنْ يُظِاهِرُهْ
          وجعل الزمخشريُّ في (الكَشَّاف) (أَشَدَّ) معطوفاً على/ الكاف والميم من قوله تعالى: {فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ}[البقرة:200] ولم يُجزْ عطفَه على (الذكر).
          والذي ذهب إليه هو الصحيح؛ لأنه لو عُطِفَ على (الذكر) لكان (أشدّ) صفةً لـ: (ذكر)، وامتنعَ نصبُ (الذكر) بعده؛ لأنك لا تقول: ذِكْرُكَ أشَدُّ ذِكْراً، وإنما تقول: ذكركَ أَشَدُّ ذكرٍ، وتقول: أنت أشدُّ ذِكراً، ولا تقول: أنت أشَدُّ ذكرٍ؛ لأنَّ الذي يلي أفعلَ التفضيل من النكرات إنْ جُرَّ فهو كُلٌّ لأفْعَلَ، وأَفْعلُ بعضٌ له، وإنْ نُصِبَ فهو فاعلٌ في المعنى للفعل الذي صِيغَ منه أفعلُ، ولذلك تقول: أنت أكبرُ رجلٍ، وأكثرُ مالاً. فـ: (أكبرُ) بعضُ ما جُرَّ به، و(أكثر) بمنزلة فِعْلٍ، وما انْتَصَبَ به بمنزلة فاعلٍ، كأنك قلت: كَثُرَ مالُك، أو: فاقَ مالُكَ غيرَهُ كثرةً.
          فقد تبين بالدَّلائل التي أوردتُها صِحَّةُ العطف على ضمير الجرِّ، دون إعادة العامل، واعَتَضَدَتْ روايةُ جَرِّ/ (اليهودِ والنصارَى) في الحديث المذكور.
          ولو رُوي بالرفع لجازَ على تقدير: ومَثَلُ اليهودِ، ثم يُحذفُ المضافُ ويُعَطى المضافُ إليه إعرابَه. /


[1] في الأصل: «كمثل رجل».
[2] والبيت من أشهَر أبيات جَرير، وهو في ديوانه: ص 73، وانظر لروايته بالأوجه الثلاثة المقتضب: 1/ 320 و321، والحجَّة في القراءات السبع لابن خالويه: ص215، وعلل النحو للورَّاق: ص556.
[3] في (ج): «فتدل» بتاء المضارعة
[4] اسم الجلالة ليس في (ب).
[5] في (ج): (للصدِّ).
[6] في (ج): «يُدركُ.... ويكشف» بياء المضارعة، وفي (ب): «يدرك...وتكشف» بالياء ثم التاء.