الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت

          3482- وبالسند قال: (حَدَّثَنا) بالجمع لأبي ذرٍّ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ) بالمد، علَمٌ لمذكَّرٍ، ممنوعٌ من الصرفِ؛ أي: ابنِ عُبيدٍ _مصغراً_ ابنِ مِخراقٍ الضبعيُّ البصريُّ، قال: (حَدَّثَنَا جُوَيْرةُ) تصغيرُ: جاريةٍ _بالجيم_ (ابْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ) أي: مولى ابنِ عمرَ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) أي: ابنِ الخطابِ مولى نافعٍ (☻ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم قَالَ: عُذِّبَتِ) بالبناء للمفعولِ، أي: بالنارِ (امْرَأَةٌ) لم يُعلمِ اسمُها، لكنَّها من بني إسرائيلَ، وبه تحصُلُ المطابقةُ.
          وزاد في ((الفتح)): أنَّها سوداءُ وحِميَريةٌ (فِي هِرَّةٍ) أي: بسببِها، كقولِه عليه السلامُ: ((في النَّفسِ المؤمنةِ مِائةٌ من الإبلِ)) (سَجَنَتْهَا) أي: حبسَتْها _بفتحِ السين المهملة والجيم والنون وسكون الفوقيَّةِ_، ولأبي ذرٍّ عن الحمويِّ والمستمليِّ: <ربطَتْها> (حَتَّى مَاتَتْ) أي: الهرَّةُ (فَدَخَلَتْ) أي: المرأةُ (فِيهَا) أي: بسببِ سَجنِ المرأةِ الهرَّةَ من غيرِ تعهُّدِها (النَّارَ) منصوبٌ بـ((دخلَتْ))، وقولُه: (لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا) تعليلٌ لدخولِها النارَ، وقولُه: (إِذْ حَبَسَتْهَا) الظرفُ متعلقٌ بالنفيِ، ثابتٌ في ((اليونينيةِ))، ساقطٌ من فرعِها.
          وجملةُ: (وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا) أي: بلا حبسٍ (تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ) معطوفةٌ على: ((لا هي أطعمتْهَا ولا سقَتْها))، و((خَشاش)) بفتحِ الخاء المعجمةِ والشِّينين المعجمتين الخفيفتين بينهما ألفٌ، وهي: حشَراتُ الأرضِ وهَوامُّها، وقال الزَّركشيُّ: مثلثُ الخاء، ويُروى بالحاءِ المهملةِ؛ أي: يابسِ النباتِ، وهو وهمٌ، انتهى، فتأمله.
          قال الطيبي: وذِكرُ الأرضِ هنا كذكرِها في قولِه تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام:38] للإحاطةِ والشُّمولِ، وظاهرُ سياقِ الحديثِ أنَّ تعذيبَ المرأةِ بالنارِ لأجلِ حبسِ الهرَّةِ من غيرِ إطعامٍ ولا سقيٍ، وقيل: تعذيبُها بذلك لكفرِها، وأبداه عياضٌ في ((شرح مسلمٍ)) احتمَالاً، وأقرَّه النوويُّ على هذا الاحتمَالِ، قيل: وكأنَّهما لم يطَّلِعا على نقلٍ في ذلك، وقد صرَّحَ بكفرِها الدُّميريُّ، قال الدُّميريُّ في ((حياة الحيوان)): والمرأةُ المعذِّبةُ كانت كافِرةً كما رواهُ البزَّارُ في ((مسنده)).
          روى أبو نُعيمٍ في ((تاريخ أصبَهانَ))، والبيهقيُّ في ((البعثِ والنُّشورِ)) عن عائشةَ: ((أنَّها / استحقَّتِ التعذيبَ بكفرِها وظلمِها))، وروى أبو داودَ الطيالسيُّ في ((مسندِه)) عن علقَمةَ قال: ((كنَّا عند عائشةَ ومعنا أبو هريرةَ، فقالت: يا أبا هريرةَ، أنتَ الذي تُحدِّثُ الناسَ عن النبيِّ صلعم أنَّ امرأةً عُذِّبَت في النارِ من أجلِ هرَّةٍ؟ قال أبو هريرةَ: نعم، سمعتُه صلعم _أي: يحدِّثُ بذلك_، فقالَتْ عائشةُ: المؤمنُ أكرمُ على الله من أن يعذِّبَه من أجلِ هرَّةٍ، إنما كانتِ المرأةُ معَ ذلك كافرةً يا أبا هريرةَ، إذا حدَّثتَ عن رسولِ الله صلعم فانظُرْ كيف تحدِّثُ))، انتهى.
          نعم، الإحسانُ إلى الهرَّةِ ممدوحٌ لفعلِ النَّبيِّ صلعم له، ففي ((كاملِ ابنِ عَديٍّ)) عن عائشةَ: ((أنَّ النبيَّ عليه السلام كانت تمرُّ به الهرَّةُ، فيُصغي لها بالإناءِ، فتشربُ منه))، وفي ((تاريخ ابنِ عساكرَ)): أنَّ الشِّبليَّ رؤيَ في النومِ، فقيل له: ما فعلَ اللهُ بك؟ فقال: أوقفَنِي بين يدَيه، ثمَّ قالَ لي: يا أبا بكرٍ؛ أتدري بِمَ غفرْتُ لكَ؟ فقلتُ: بصَالحِ عمَلِي، فقال: لا، فقلتُ: إلهِي بماذا؟ فقال: بتلكَ الهرَّةِ التي وجدتَها في دربِ بغدادَ وقد أضعفَها البردُ، فأدخلتَها في فروٍ كان عليك وِقايةً لها من أليمِ البردِ، فبرحمتِكَ لها رَحِمتُك.
          وتقدَّمَ الحديثُ والكلامُ عليه في مواضعَ منها في بدْءِ الخلق وفي الصَّلاةِ، وأخرجه مسلمٌ في الأدبِ.