الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري

          2780- (وَقَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أي: ابن المدينيِّ، قال في ((الفتح)): كذا لأبي ذرٍّ والأكثر، وفي روايةِ النَّسفيِّ: <وقال عليٌّ> بحذف المجاورة، وكذا جزمَ به أبو نعيمٍ، لكن أخرجَهُ المصنِّف في ((التَّاريخ)) فقال: حدَّثنا عليُّ بن المدينيِّ، قال: وهذا ممَّا يقوِّي ما قرَّرته غيرَ مرَّة أنَّه يُعبِّر بقولهِ: وقالَ لي في الأحاديثِ الَّتي سمعَهَا، لكنْ حيثُ يكونُ في إسنادِهَا عنده نظرٌ أو حيث تكون موقوفةً، وأمَّا مَن زعم أنَّه يعبِّر بها في ما أخذه في المذاكرةِ أو بالمناولةِ فليسَ عليه دليلٌ، انتهى.
          وهو موصُولٌ لقوله: ((وقال لي))، فما في القسطلانيِّ من قوله: وصله المؤلِّف في ((التَّاريخ)) فيه شيءٌ، لا سيَّما ولم يتعرَّض لروايةِ حذف ((لي)) في سورة الكهف، ولو قال _كما في ((الفتح))_: أخرجه المصنِّف في ((التَّاريخ)) فقال: حدَّثنا... إلخ؛ لكان أولى.
          (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ) أي: ابن سليمان المخزوميِّ، قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ) هو: يحيى بن زكريَّا، واسم أبي زائدة: ميمون الهمدانيُّ، كذا في العينيِّ ومَن تبعَه، لم يتعرَّضْ له في ((الفتح))، وقال الكرمانيُّ: واسمه: خالدٌ الهمدانيُّ، مات قاضياً بالمدائنِ سنة مائة وثلاثةٍ وثمانين، انتهى.
          (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ) أي: الطَّويل (عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ) كأَمِيرٍ (ابْنِ جُبَيْرٍ) بضمِّ الجيم (عَنْ أَبِيهِ) أي: سعيدٍ المذكور.
          تنبيهٌ: قال في ((الفتح)): مُحمَّد بن أبي القاسم يُقال له: الطَّويل، لا يُعرف اسم أبيهِ، وثَّقه يحيى بن مَعينٍ وأبو حاتمٍ، وتوقَّف فيه البخاريُّ مع كونهِ أخرجَ حديثَهُ هذا هنا، فروى النَّسفيُّ عن البخاريِّ قال: لا أعرف محمد بن أبي القاسم هذا كما ينبغِي أو كما أشتهِي، وروى عنه أيضاً أبو أسامة، لكنَّه ليس بمشهورٍ، وفي نسخةِ الصَّغاني: أنَّ الفربريَّ قال: قلت للبخاريِّ: رواه غير محمد بن أبي القاسم قال: لا، وليس له في البخاريِّ ولا لشيخه عبد الملك غير هذا الحديث، قال: ورجال الإسناد ما بين عليِّ بن المدنيِّ وابن عبَّاسٍ كوفيُّون.
          (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻) أنَّه (قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ) بفتح السِّين المهملة وسكون الهاء وبالميم، هو بُزَيل _بضمِّ الموحَّدة وفتح الزَّاي مصغَّراً_ عند ابن ماكولا ولابن منده من طريق السُّديِّ عن الكلبيِّ: بديل بن أبي مارية _بدالٍ مهملةٍ بدل الزَّاي_، قال: ورأيتُه في نسخةٍ صَحيحةٍ من ((تفسير الطَّبريِّ)): بريل _براء بغير نقطةٍ_، ولابن منده: بريل بن أبي مارية، ومثله للطَّبريِّ مرسلاً، لكنَّه لم يُسمِّه، ووهِم مَن قال فيه: بديل بن ورقاء، فإنَّه خزاعيٌّ، وهذا سهميٌّ، وكذا وَهِم مَن ضبطه بذيل بالذَّال المعجمة، قال: ووقع في رواية ابن جريجٍ أنَّه كان مسلماً، وكذا أخرجَهُ سُنيد، انتهى.
          (مَعَ تَمِيمٍ) بفتح المثنَّاة الفوقيَّة وكسر الميم الأولى (الدَّارِيِّ) الصَّحابيُّ المشهور، و((الدَّاري)) بالدَّال المهملة، نسبة إلى الدَّار، وهو بطنٌ من لخمٍ بالمعجمة، ويُقالُ: الدَّاريُّ للعطَّار، ويُقال لربِّ الغنم، وكان يختم القرآن في ركعةٍ، وروى الشَّعبي عن فاطمة بنت قيسٍ أنَّها سمعت النبيَّ صلعم في خطبةٍ خطبها، وقال فيها: حدَّثني / تميمٌ فذكر خبر الجسَّاسة في قصَّة الدجَّال؛ إذ وجده هو وأصحابه في البحر، فحدَّث النَّبيَّ بذلك، وعدَّ ذلك من مناقبه؛ إذ لم يقع نظيره لغيره، وقال ابنُ عبد البرِّ: هو تميمُ بن أوس بن خارجةَ بن سواد بنِ جذيمةَ بن ذراع بنِ عديِّ بن الدَّار، نُسِبَ إلى الدَّار، وهو بطنٌ من لخمٍ، يُكنى: أبا رقيَّة، بابنة له تسمَّى: رقيَّة، ولم يُولَد له غيرها، كان نصرانيًّا، وكانَ إسلامُه في سنة تسعٍ من الهجرة، وكان يسكنُ المدينة، ثمَّ انتقلَ إلى الشَّام بعد قتل عثمان، انتهى.
          وفي ((شرح الأربعين)) لابنِ حجرٍ المكِّيِّ، ويقال له: الدَّيريُّ، نسبةً إلى ديرٍ كان يتعبَّد فيه، قال ابنُ السَّكن: أسلم سنة تسعٍ هو وأخوه نُعيم، ولهما صحبةٌ، وغزا مع النَّبيِّ، قال أبو نعيمٍ: كان راهبَ أهل عصرهِ، وهو أوَّل مَن أسرج السِّراج في المسجدِ، وأوَّل مَن قصَّ في زمن عُمر بإذنهِ، ومات سنة أربعين، ودُفن ببيت جبريل أو جبرين، وهي قريةٌ من قُرى الخليل.
          (وَعَدِيِّ) بفتح العين المهملة وكسر الدَّال (ابْنِ بَدَّاءٍ) بفتح الموحَّدة وتشديد الدَّال المهملة ممدوداً مصروفاً، كذا في القسطلانيِّ، لكن قال الكرمانيُّ وكثيرون: هو مؤنَّثُ أبدَّ _بتشديد الدَّال_، انتهى، ومقتضاه: أنَّه ممنوعٌ من الصَّرف كحَمْرَاءَ مؤنَّث أحمر، قال في ((الفتح)): وبالصَّرف صرَّح شيخ الإسلام.
          قال في ((الفتح)): لم تختلف الرُّواة في أنَّ نسبه غير ذلك إلَّا ما ذكره الكرابيسيُّ في كتاب القضَاء له، فإنَّه سمَّاه: البداء بن عاصم، وذكر الواقديُّ: أنَّ عديَّ بن بدَّاء كان أخا تميمٍ الدَّاريِّ، فإن ثبتَ فلعلَّه أخوه لأمِّه أو من الرَّضاعةِ، لكن في تفسير مقاتل بن حيَّان: أنَّ رجلين نصرانيَّين من أهل دارين، أحدهما: تميمٌ، والآخر: يمانيٌّ، كذا في ((الفتح)).
          تنبيهٌ: وقعتْ هذه القصَّة لتميمٍ قبل أن يُسلم، قال في ((فتح الباري)): وعلى هذا فهو من مرسل الصَّحابيِّ؛ لأنَّ ابن عبَّاسٍ لم يحضرْ هذه القصَّة، لكن قد جاء في بعض الطُّرق أنَّه رواها عن تميمٍ نفسه كما بيَّن ذلك الكلبيُّ في روايتهٍ عن ابن عبَّاسٍ عن تميمٍ الدَّاريِّ، قال: برِئ النَّاس من هذه الآية غيري وغير عديِّ بن بدَّاء، وكانا نصرانيَّين يختلفانِ إلى الشَّام قبل الإسلام، فأتيا الشَّام في تجارتهمَا، وقدِمَ عليهما مولًى لبني سهمٍ، قال: ويحتملُ أن تكون القصَّة وقعَتْ قبلَ الإسلام، ثمَّ تأخَّرتْ المحاكمةُ حتَّى أسلموا كلُّهم، فإنَّ في القصَّة ما يُشعِرُ بأنَّ الجميعَ تحاكموا إلى النَّبيِّ صلعم، فلعلَّها كانت بمكَّة سنة الفتحِ، انتهى.
          وأقولُ: ظاهرُه: أنَّ عديَّ بن بدَّاء أسلم أيضاً، لكن قال الذَّهبيُّ في ((التَّجريد)): الصَّحيحُ أنَّ عديَّ بن بدَّاء نصرانيٌّ لم يبلغنا إسلامُه، انتهى فتأمَّل.
          (فَمَاتَ السَّهْمِيُّ) أي: الرَّجل الَّذي من بني سهمٍ، أو هو بديل (بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ) أي: بمكانٍ ليس فيه مسلمٌ، ففي ((تفسير مقاتلٍ)): خرجَ بُديل بن أبي مارية مولى العاص بن وائلٍ مسافراً في البحرِ إلى النَّجاشيِّ، فماتَ بُديل في السَّفينةِ، وكان كتبَ وصيَّةً وجعلها في متاعِهِ، ثمَّ دفعه إلى تميمٍ وصاحبه عديٍّ، ومات فأخذا منه ما أعجبَهُما، وكان فيما أخذا إناء مِن فضَّةٍ فيه ثلاثمائة مثقالٍ منقوشٌ مموَّه بالذَّهبِ، فلمَّا ردَّا بقيَّة المتاع إلى ورثتهِ نظرُوا في الوصيَّة، ففقدُوا بعضَ متاعهِ، فكلَّموا تميماً وعديًّا فقالا: ما لنا به علمٌ، وفيه: فقام عمرو بن العاص والمطَّلب بن أبي وداعة السَّهميَّان، فحلفا ثمَّ اعترف تميمٌ بالخيانة، فقال له النَّبيُّ صلعم: ((يا تميم، أسلِمْ يتجاوزِ اللهُ عنك ما كان في شِركِكَ))، فأسلمَ وحَسُن إسلامُه، ومات عديُّ بن بدَّاء نصرانيًّا، انتهى، وهذا يُوافق ما تقدَّم عن الذَّهبيِّ، فتأمَّل.
          (فَلَمَّا قَدِمَا) بكسر الدَّال؛ أي: تميمٌ وعديٌّ المذكوران (بِتَرِكَتِهِ) أي: بتركةِ الرَّجل الذي من بني سهمٍ (فَقَدُوا) بفتح الفاء والقاف؛ أي: ورثة الرَّجل، والجملة جواب ((لمَّا)) (جَاماً) بالجيم وتخفيف الميم بينهما ألف، قال في ((الفتح)): أي: إناء، واعترضَه العينيُّ فقال: هذا من تفسير الخاصِّ بالعامِّ، وهو لا يجوز؛ لأنَّ الإناء أعمُّ من الجام، والجام هو الكأسُ، انتهى.
          وأجاب في ((الانتقاض)) / بأنَّه إنَّما ذكر الإناء دفعاً لتوهُّم من يفسِّر الجام بغير الجيم أو بغير التَّخفيف، فيظنُّ أنَّه شيءٌ غير الآنية، انتهى.
          (مِنْ فِضَّةٍ) صفة ((جاماً)) (مُخَوَّصاً) صفةٌ ثانيةٌ لـ((جاماً))، أو حالٌ منه، وهو بضمِّ الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو المفتوحة وبالصَّاد المهملة؛ أي: مخطَّطاً بخطوطٍ من ذهب طوال رِقاق كالخوصِ؛ أي: ورق النَّخل، قاله الكرمانيُّ، وقال ابنُ الجوزيِّ: صِيغتْ فيه صفائحُ مثل الخوص من الذَّهب؛ أي: منقوشاً بصفائح مثل الخوصِ في الطُّول والدِّقَّة.
          (مِنْ ذَهَبٍ) زاد البرماويُّ كالزركشيِّ بعد تفسيره بقوله: وفي الحديثِ: ((مثلُ المرأة الصَّالحةِ مثل التَّاج المخوَّص بالذَّهبِ))، قال في ((الفتح)): ووقعَ في بعضِ نسخِ أبي داود: ((مخوضاً)) بالضَّاد المعجمة؛ أي: مموَّهاً، والأوَّل أشهر، ووقع في روايةِ ابن جُريجٍ عن عكرمة: ((إناء من فضَّةٍ منقوش بذهبٍ))، قال: وزادَ في روايته: أنَّ تميماً وعديًّا لمَّا سُئلا عنه قالا: اشتريناه منه، فارتفعوا إلى النَّبيِّ صلعم فنزلت: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا}...الآية.
          (فَأَحْلَفَهُمَا) بقطع الهمزة (رَسُولُ اللَّهِ صلعم) أي: وحلفا أنَّهما لم يأخذا، ثمَّ إنَّ تميماً لمَّا أسلم ردَّ على ورثةِ الرَّجل ثمنَ نصفِ الجامِ، فقد قال في ((الفتح)): وروى الكلبيُّ عن تميم أنَّه قال: فلمَّا أسلمت تأثَّمتُ، فأتيتُ أهلهُ فأخبرتُهُم الخبرَ، وأدَّيتُ إليهم خمس مائة درهمٍ، وأخبرتهم أنَّ عند صَاحبي مثلها، انتهى.
          (ثُمَّ وُجِدَ) بالجيم، فعلٌ ماضٍ مبنيٍّ للمفعول، وفي بعض النُّسخ: <وجدوا> بواو الجماعة والبناء للفاعل؛ أي: ثمَّ وجد الورثة (الْجَامُ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا) أي: الَّذين وُجِدَ معهم الجام بمكَّة (ابْتَعْنَاهُ) أي: اشتريناه (مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلاَنِ) هما عَمرو بن العاصي والمطَّلب بن أبي وداعة، وسمَّى مقاتل بن سليمان في ((تفسيره) أحدهما: عبد الله بن عمرو بن العاص، والأظهر أنَّه والده عمرو، قاله في ((الفتح)).
          (مِنْ أَوْلِيَائِهِ) أي: من أولياء السَّهميِّ الَّذي أخذ جامه (فَحَلَفَا) بتخفيف اللَّام مبنيًّا للفاعل؛ أي: بعد ترافعهما إلى النَّبيِّ صلعم ونزول: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مقَامَهُمَا}...الآية (لَشَهَادَتُنَا) بفتح اللَّام (أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا) أي: ليمينُنا أحقُّ من يمينهما (وَأَنَّ الْجَامَ) بفتح همزة ((أنَّ)) وكسرها (لِصَاحِبِهِمْ) أي: بديل الذي مات مع تميم وعديٍّ.
          (قَالَ) أي: ابن عبَّاسٍ (وَفِيهِمْ) أي: في المذكورين جميعاً (نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}) زاد أبو ذرٍّ: <{إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}>، والمراد الآيات الثَّلاث، وتقدَّم الكلام عليها.
          وفي العينيِّ: وقال ابن زيدٍ: نزلت هذه الآية في رجل تُوفِّي وليس عنده أحدٌ من أهل الإسلام، وذلك في أوَّل الإسلام، والأرض حربٌ، والنَّاس كفَّار، وكانوا يتوارثون بالوصيَّة، ثمَّ نُسِخت الوصيَّة وفُرِضت الفرائض وعمل المسلمون لها، رواه ابن جريرٍ، وقال في ((الفتح)): واستدلَّ به ابن سريج الشَّافعيُّ المشهور للحكم بالشَّاهد واليمين، وتكلَّف في انتزاعهِ فقال: إنَّ قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} لا يخلو إمَّا أن يقرَّا أو يشهدَ عليهما شاهدان أو شاهد وامرأتان أو شاهدٌ واحدٌ، قال: وقد أجمعوا على أنَّ الإقرارَ بعد الإنكار لا يُوجِبُ يميناً على الطَّالب، وكذلك مع الشَّاهدين ومع الشَّاهد والمرأتين، فلم يبقَ إلَّا شاهدٌ واحدٌ، فلذلك استحقَّ الطَّالبان بيمينهما مع الشَّاهد الواحدِ، وهذا الذي قاله مُتعَقَّبٌ بأنَّ القصَّة وردَتْ من طرقٍ متعدِّدة في سبب النُّزول، ليس في شيءٍ منها أنَّه كان هناك مَن يشهدُ، بل في رواية الكلبيِّ: ((فسألهم البيِّنةَ فلم يجدوا، فأمرهُم أن يستحلفُوه _أي: عديًّا_ بما يعظم على أهلِ دينهِ)).
          واستدلَّ بهذا الحديثِ على جوازِ شهادة الكفَّارِ بناءً على أنَّ المرادَ بالغير الكفَّار، والمعنى: {مِنْكُمْ} أي: من أهلِ دينكم {أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: من / غير أهلِ دينكُم، وبذلك قال أبو حنيفة ومَن تبعَه، وتُعُقِّب بأنَّه لا يقول بظاهرها، فلا يجيزُ شهادة الكفَّار على المسلمين، وإنَّما يُجِيز شهادةَ بعض الكفَّار على بعضٍ، وأُجيب بأنَّ الآية دلَّتْ بمنطوقها على قبولِ شهادةِ الكافرِ على المسلمِ، وبإيمائها على قبولِ شهادةِ الكافرِ على الكافرِ بطريق الأَولى، ثمَّ دلَّ الدليل على أنَّ شهادة الكافرِ على المسلمِ غيرُ مقبولةٍ، فبقيتْ شهادةُ الكافرِ على مثلهِ بحالها، وخصَّ جماعةٌ القبولَ بأهلِ الكتاب وبالوصيَّة وبفقدِ المسلم، منهم: ابن عبَّاسٍ وأبو موسى الأشعريُّ وسعيد بن المسيَّب وشريحٌ وابن سيرين والأوزاعيُّ والثَّوريُّ وأبو عبيدٍ وأحمد، وهؤلاء أخذوا بظاهرِ الآية، وقوَّى ذلك عندهم حديثُ الباب، فإنَّ سياقه مطابقٌ لظاهر الآية.
          ثمَّ قال: وذهبَ جماعةٌ من الأئمَّة إلى أنَّ هذه الآية منسوخةٌ بقولهِ تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، واحتجُّوا بالإجماعِ على ردِّ شهادة الفاسق، والكافر شرٌّ من الفاسق؛ أي: إن لم يكنْ من الفاسقين كما في الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، وأجابَ الأوَّلون بأن النَّسخ لا يثبتُ بالاحتمالِ، وبأنَّ الجمعَ بين الدَّليلين أولى من إلغاءِ أحدهما، وبأنَّ سُورة المائدة من آخر ما نزلَ من القرآن، حتَّى صحَّ عن ابن عبَّاسٍ وعائشة وجَمْع من السَّلف أنَّ سورةَ المائدة مُحكمة.
          وعن ابن عبَّاسٍ: أنَّ الآية نزلتْ في مَن مات مسافراً وليس عنده أحدٌ من المسلمين، فإن ارتابا استُحلِفا، أخرجه الطبرانيُّ بإسنادٍ رجالُه ثقاتٌ، وأنكرَ أحمدُ على من قال: إنَّ هذه الآية منسوخةٌ، وصحَّ عن أبي موسى الأشعريِّ أنَّه عَمِل بذلك بعد النَّبيِّ صلعم، فروى أبو داود بإسنادٍ رجاله ثقاتٌ عن الشَّعبيِّ قال: حضرَتْ رجلاً من المسلمين الوفاةُ بدَقُوقا ولم يجد أحداً من المسلمين، فأشهد رجلين من أهلِ الكتاب، فقدما الكوفةَ بتركته ووصيَّته، فأُخبِر الأشعريُّ فقال: هذا لم يكنْ بعد الذي كان في عهدِ رسولِ الله صلعم، فأحلفهما بعد العصر: ما خانا ولا كذبا ولا كتمَا ولا بدَّلا، وأمضَى شهادتهما.
          ورجَّح الفخر الرازيُّ وسبقه الطَّبريُّ أنَّ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطابٌ للمؤمنين، فلمَّا قال: {أَو آخَرَانِ مِنْ غَيرِكُمْ} وصحَّ أنَّه أراد غير المخاطبين فتعيَّن أنَّهما من غير المؤمنين، وأيضاً فجوازُ استشهاد المسلم ليس مشروطاً بالسَّفر، وأنَّ أبا موسى حكم بذلك فلم يُنكِره أحدٌ من الصَّحابةِ، فكان حُجَّةً، وذهبَ الكرابيسيُّ ثمَّ الطَّبري وآخرون إلى أنَّ المراد بالشَّهادة في الآيةِ: اليمين، قال: وقد سمَّى الله اليمين: شهادةً في آية اللِّعان، وأيَّدوا ذلك بالإجماعِ على أن الشَّاهد لا يلزمُه أن يقولَ: أشهدُ بالله، وأنَّ الشَّاهد لا يمين عليه أنَّه شهد بالحقِّ، قالوا: فالمرادُ بالشَّهادة: اليمين؛ لقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ} أي: يحلفان، فإن عُرِف أنَّهما حلفَا على الإثمِ رجعت اليمينُ على الأولياء، قال: وتُعقِّب بأنَّ اليمينَ لا يشترطُ فيها عددٌ ولا عدالةٌ، بخلافِ الشَّهادة، ثمَّ قال: وحكى الطَّبري أنَّ بعضَهم قال: المراد بقوله: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}: الوصيَّان، قال: والمرادُ بقوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} معنى الحضُور لِما يوصيهمَا به الموصِي ثمَّ زيَّف ذلك، انتهى ما في ((الفتح)) مُفرَّقاً.