الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: إذا جددته فوضعته في المربد آذنت رسول الله

          2709- وبالسند قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد لغيرِ أبي ذرٍّ (مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بفتح الموحدة وتشديد الشين المعجمة؛ أي: العَبْديُّ، قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ) أي: ابنُ عبد المجيدِ الثَّقَفيُّ، قال: (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ) بتصغير: عبد، هو العُمَريُّ (عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ) بفتح الكاف.
          (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أي: الأنصاريِّ ☻ (قَالَ: تُوُفِّي) بالبناء للمفعول أو للفاعل (أَبِي) أي: عبدُ الله.
          وجملة: (وَعَلَيْهِ دَيْنٌ) حاليةٌ، تقدَّمَ أنه كان ثلاثينَ وَسْقاً من تمرٍ ليهوديٍّ (فَعَرَضْتُ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَأْخُذُوا التَّمْرَ) بفتح المثناة الفوقية وسكون الميم (بِمَا عَلَيْهِ) أي: بدَلَ الدَّينِ الذي لهم عليه (فَأَبَوْا) بفتح الموحدة؛ أي: فامتنَعُوا من أخذِه بدلاً عنه (وَلَمْ يَرَوْا) بفتح الراء؛ أي: ولم يظُنُّوا (أَنَّ فِيهِ وَفَاءً) أي: لكَونِه لا يبلُغُ مقدارَ الدَّين (فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلعم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) أي: ما صدَرَ منِّي ومنهم (لَهُ) أي: للنبيِّ صلعم (فَقَالَ: إِذَا جَدَدْتَهُ) أي: التَّمرَ، وهو بدالين مهملتين في الفرعِ وأصلِهِ، وهو الموجودُ في الأصُولِ التي رأيناها، لكن قال في ((المصابيح)) تَبَعاً ((للتنقيح)): بذالين معجمتَين، ومعناه: قطعْتَه.
          (فَوَضَعْتَهُ فِي الْمِرْبَدِ) بكسر الميم وفتح الموحدة وبالدال المهملة، الموضِعُ الذي يجفَّفُ فيه التَّمرُ عند أهلِ المدينة، ويقالُ له: الجَرينُ عند أهلِ نجدٍ، وأصله: الموضِعُ الذي تُحبَسُ فيه الإبِلُ وغيرُها، قاله الكرمانيُّ (آذَنْتَ) بمدِّ الهمزة؛ أي: أعلَمتَ، جواب ((إذا)) وتاءُ الضمير مفتوحةٌ، خطابٌ لجابرٍ.
          وقوله: (رَسُولَ اللَّهِ صلعم) مفعولُ: ((آذنتَ)) والقياسُ: آذنَتنَي، لكنه وضَعَ الظاهر موضِعَ الضميرِ لتقوية الدَّاعي، أو للإشعارِ بطلبِ البرَكةِ منه ونحوه، وفي بعض الأصول: بضمِّ تاءِ <آذَنتُ> وعزاها القسطَلانيُّ للفرع، وكان وجهُه أنه من كلامِ جابرٍ مُستأنَفٌ، وجوابُ ((إذا)) محذوفٌ، فتأمَّل.
          (فَجَاءَ) أي: رسولُ الله صلعم، وجملةُ: (وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ☻) حاليَّةٌ (فَجَلَسَ) أي: النبيُّ صلعم (عَلَيْهِ) أي: على المِربَدِ، وقال شيخُ الإسلام: ((عليه)) أي: على التَّمرِ؛ أي: عندَه.
          (وَدَعَا) أي: النبيُّ صلعم (بِالْبَرَكَةِ) أي: في التَّمرِ، ولا يحضُرُني الآنَ بأيِّ لفظٍ دَعا (ثُمَّ قَالَ: ادْعُ) أمرٌ مبنيٌّ على حذفِ الواو (غُرَمَاءَكَ) سمَّاهم غُرَماءَه مَجازاً، وإلا فهُمْ غرماءُ أبيه، فتأمَّل.
          (فَأَوْفِهِمْ) بقطع الهمزة؛ أي: فأَعطِهِم دَينَهم، وقولُه: (فَمَا تَرَكْتُ...) إلخ، من كلام جابرٍ (أَحَداً لَهُ عَلَى أَبِي) أي: جابرٍ (دَيْنٌ إِلاَّ قَضَيْتُهُ) أي: أدَّيتُ الدَّينَ أو الأحَدَ (وَفَضَلَ / ثَلاَثَةَ عَشَرَ وَسْقاً) بفتح ضاد ((فضَلَ)) المعجمة للرُّواة، إلا لأبي ذرٍّ فبكسرِها، وهو نادرٌ.
          قال في ((المصباح)): فضَلَ الشيءُ فَضْلاً _من باب: قتل_: بَقِيَ، وفي لغةٍ: فَضِلَ يَفضَلُ _من باب: تَعِبَ_، وفَضِلَ _بالكسر_ يَفضُل _بالضمِّ_ لغةٌ ليسَتْ بالأصل، ولكنَّها على تداخُلِ اللُّغتَين، ونظيرُه في السالم: نَعِمَ ينعُم، ونَكِلَ يَنكُلُ، وفي المعتَلِّ: دُمتَ تَدومُ، ومُتَّ تَموتُ، انتهى.
          والحاصلُ أنَّ فيه ثلاث لغاتٍ: من باب: قَتَلَ، وتَعِبَ، والثالثة: مُركَّبةٌ منها: بكسر العين في الماضي، وضمِّها في المضارع، وهذه شاذَّةٌ كما قاله الكرمانيُّ، والوَسْقُ _بفتح الواوِ وقد تُكسَرُ_: سِتُّون صاعاً، ثم فصَّلَ الثلاثة عشَرَ، فقال:
          (سَبْعَةٌ عَجْوَةٌ) بتنوين اللفظين ورفعِهَما، أو بنصبِ الثاني تمييزاً، والعَجْوةُ _بفتح العين المهملة وسكون الجيم_: من أجود تَمرِ المدينةِ، كذا قال الشُّرَّاح، وقال في ((القاموس)): العَجْوةُ بالحجازِ: التَّمرُ المحشِيُّ، وتمرٌ بالمدينة.
          (وَسِتَّةٌ لَوْنٌ) بفتح اللام وسكون الواو وبالنون، نوعٌ من النَّخل، وقيل: هو الدَّقَلُ، وقيل: النخلُ كلُّه ما عدا البَرْنيَّ، قاله ابنُ الأثير، وقال الأخفشُ: اللَّوْن: جمعٌ، وواحدُها: لينَةٌ.
          وقال في ((الفتح)): اللَّونُ: ما عدا العَجوةَ، وقيل: هو الدَّقَلُ، وهو الرَّديءُ، وقيل: اللَّونُ: اللِّينُ واللِّينَةُ، وقيل: الأخلاطُ من التمر، قال: وسيأتي اللِّينةُ في تفسيرِ سورةِ الحشرِ، وأنه اسمُ النَّخلةِ، انتهى، فتأمَّل.
          تنبيه: قال الكرمانيُّ: تقدَّمَ في الاستِقراضِ أنَّه فضلَ له سبعةَ عشَرَ وَسْقاً، وفي باب الشَّفاعة في وَضْعِ الدَّينِ أنه بقي التَّمرُ كما هو، فما التوفيقُ بينَهما وبين ما هنا؟
          وأجاب بأنَّ العددَ لا يُعتبَرُ مفهومُه، قال: ويحتمِلُ أن يريدُ أنه بقيَ بعد الدُّيونِ وقبلَ سائرِ الإخراجاتِ الأُخَرِ سبعة عشَرَ وَسْقاً، وهي بعدها لخاصَّةِ نفسِهِ ثلاثةَ عشَرَ، وأمَّا بقاؤهُ كما هو فبحسَبِ البرَكةِ، أو بحسبِ الحِسِّ، أو لعلَّ الأصلَ لم يكُنْ إلا سبعةَ عشَرَ وسْقاً، فخلَقَ اللهُ الزائدَ معجزةً لرسولِ الله صلعم.
          وقوله: (أَوْ سِتَّةٌ عَجْوَةٌ وَسَبْعَةٌ لَوْنٌ) شكٌّ من الرَّاوي، وقولُه: (فَوَافَيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلعم الْمَغْرِبَ) عطفٌ على مقدَّرٍ؛ أي: فرجَعتُ، فأدركتُ مع رسولِ الله صلعم صلاةَ المغرِبِ (فَذَكَرْتُ له ذَلِكَ) أي: أنه فضَلَ لي بعد قضَاءِ الدَّين كلِّه ما ذُكرَ.
          (فَضَحِكَ، فَقَالَ) أي: النبيُّ صلعم؛ أي: لجابرٍ (ائْتِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَأَخْبِرْهُمَا) أي: فأخبَرَ جابرٌ أبا بكرٍ وعمرَ، وخصَّهما لكونِهما كانا حاضِرَين معه مهتمَّينَ بقضيَّةِ جابرٍ حين جلس على التَّمرِ ودعا فيه بالبركة.
          (فَقَالاَ) أي: أبو بكرٍ وعمرُ لمَّا أخبرَهما جابرٌ (لَقَدْ عَلِمْنَا إِذْ) بسكون الذال، ظرفٌ لِما مضى (صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم مَا صَنَعَ) أي: من الجلوسِ على التَّمرِ والدُّعاءِ فيه بالبَرَكة (أَنْ سَيَكُونُ ذَلِكَ) و((أن)) بفتح الهمزة مخفَّفةً من الثقيلة، وهي وخبرُها في تأويلِ مصدَرٍ، مفعولُ ((علمنا)).
          (وَقَالَ هِشَامٌ) أي: ابن عُروةَ بن الزُّبير فيما وصلَه المصنِّفُ في الاستقراضِ (عَنْ وَهْبٍ) أي: ابن كَيسانَ (عَنْ جَابِرٍ) أي: ابن عبدِ الله المذكورِ آنِفاً (صَلاَةَ الْعَصْرِ) أي: بدَلَ المغرِبِ.
          (وَلَمْ يَذْكُرْ) أي: هشامٌ (أَبَا بَكْرٍ) أي: الصدِّيقَ، بل اقتَصَر على عمَرَ (وَلاَ فضَحِكَ) أي: المذكورَ في روايةِ عُبيدِ الله، وسقطَتِ الفاءُ من <فضَحِكَ> من بعضِ الأصول (وَقَالَ) وسقطتُ الواو من أكثرِ الأصول (وَتَرَكَ أَبِي) أي: جابرٌ (عَلَيْهِ ثَلاَثِينَ وَسْقاً دَيْناً. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ) أي: في روايتِهِ (عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ: صَلاَةَ الظُّهْرِ) أي: بدل ((العَصْرِ)) والحاصلُ أنَّ الثلاثةَ اختلَفوا في تعيينِ الصلاةِ / التي صلَّاها جابرٌ مع رسولِ الله صلعم، وكلُّهم رووا الحديثَ عن وهبِ بنِ كيسانَ عن جابرٍ.
          قال في ((الفتح)): وهذا القَدْرُ من الاختِلافِ لا يقدحُ في صحَّةِ أصلِ الحديث؛ لأن المقصودَ منه ما وقَعَ من بركتِهِ صلعم في التَّمرِ، قال: وقد حصَلَ توافقُهم عليه، ولا يترتَّبُ على تعيينِ تلكَ الصَّلاة بعينِها كبيرُ معنى، انتهى.