الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: بلغني أن أقوامًا يقولون كذا وكذا

          2505- 2506- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ) بضمِّ النُّون، هذه كنيَةُ محمَّدِ بن الفضلِ ويلقَّبُ بصارِم، قالَ: (حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) بفتح الزَّاي، واسمُ جدِّ حمَّاد: درهَمٌ الأسديُّ أبُو إسماعِيلَ البصريُّ، قالَ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ) بكسرِ اللام (ابْنُ جُرَيْجٍ) مصغَّراً (عَنْ عَطَاءٍ) أي: ابنِ أبي ربَاح (عَنْ جَابِرٍ) أي: ابن عبدِ اللهِ الأنصاريِّ (☻).
           (وَعَنْ طَاوُسَ) أي: ابن كيسانَ، معطُوفٌ على ((عن عطاءَ)) (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻) فهو موصُولٌ من طريقِهِ أيضاً؛ لأنَّ ابنَ جريجٍ سمعَ من عطاءَ وطاوسَ، لكِن قالَ في ((الفتح)): لم أرَ هذا الحدِيثَ من روَايةِ طاوُسَ عن ابنِ عبَّاسٍ في ((مسند أحمد)) مع كبرِهِ، قالَ: والَّذي يظهَرُ لي أنَّ ابنَ جريجٍ عن طاوُسَ منقطِعٌ، فقد قال الأئمَّةُ أنَّه أي: ابن جُريج لم يسمَعْ من مجَاهدٍ ولا من عكرمَةَ، وإنَّما أرسَلَ عنهما وطاوُسُ من أقرانِهِما، وإنَّما سمعَ من عطاءٍ لكونِهِ تأخَّرتْ عنهُما وفاتُهُ نحو عشرِ سنِينَ، انتهى فتدبَّر.
          (قَالَ) أي: ابنُ عبَّاسٍ، ولأبي ذرٍّ وكريمةَ: <قالا> أي: جابرٌ وابنُ عبَّاسٍ، لكن على التَّوزيعِ ويمكنُ إرجاعُ هذه الرِّوايَةِ إلى السَّابقةِ (فَلَمَّا) بتشديدِ الميمِ (قَدِمَ) بكسر الدَّالِ (النَّبِيُّ صلعم) أي: مكَّةَ في حجَّةِ الودَاعِ، وأصحابُهُ بالرَّفعِ، ويجوزُ نصبُهُ مفعُولاً معهُ وسقَطَ لغيرِ الكُشمِيهنيِّ: <لما>، وأصحابُهُ وعلى إثبَاتِ لما فجوابُهَا مقدَّرٌ؛ أي: أمرنَا أخذاً من جوابِ لما الآتيَةِ، قالَهُ الكرمانِيُّ وكانُوا أُلُوفاً كثيرةً (صُبْحَ) نصبٌ على الظَّرفيَّةِ؛ أي: في صُبحٍ (رَابِعَةٍ) أي: ليلةٍ رابعةٍ (مِنْ ذِي الْحَجَّةِ مُهِلِّينَ) جمعُ: مُهِل _بضمِّ الميمِ وكسرِ الهاءِ_ نصبٌ على الحالِ، وللحَمويِّ: <مهلون> بالرَّفعِ خبرٌ لمحذُوفٍ؛ أي: وهم مُهلُّون (بِالْحَجِّ) وفي بعضِ النُّسخِ: <يهلون> مضارَعٌ، والجملَةُ في هاتينِ الرِّوايتينِ حالٌ أيضاً، وجمع مُهلِّين على روَايةِ إسقَاط وأصحَابُهُ باعتبَارِ أنَّ قدومَهُ عليه السَّلامُ يستلزِمُ عادَةَ قدُومِ أصحابِهِ معهُ.
          وجملةُ: (لاَ يَخْلِطُهُمْ) بفتحِ التَّحتيَّةِ وسكونِ الخاءِ المعجمةِ وكسر اللام، وفي بعضِ الأصُولِ المعتمدَةِ بفتحِهَا، وفي بعضٍ آخرَ بضَمِّها فليُراجَع؛ أي: لا يُخالطُهُم (شَيْءٌ) أي: من العُمرةِ؛ لأنَّهُم لم يَنوُوا إلَّا الحجَّ فهُم مُفردُون حالٌ أيضاً أو مستأنفَةٌ، وكأنَّ الظَّاهرَ لا يخلُطهُ؛ لأنَّ الضَّميرَ راجعٌ للحَجِّ، لكن لمَّا كانَ بين الحجِّ وبَينَ القومِ تعلُّقٌ جازَ كلٌّ من الأمرَينِ (فَلَمَّا قَدِمْنَا) أي: مكَّةَ (أَمَرَنَا) بفتحَاتٍ؛ أي: النَّبيُّ صلعم؛ أي: بفَسخِ الحجِّ.
          (فَجَعَلْنَاهَا) أي: الحجَّةَ أو الحجَّ، وأنَّثَ الضَّميرَ باعتبَارِ الخَبرِ؛ أي: فصيَّرناهُ.
          (عُمْرَةً) وحينئذٍ فنصِيرُ متمَتِّعِينَ (وَأَنْ نَحِلَّ) بكسر الحاءِ المهملةِ وفتحِ النُّونِ؛ أي: وأُمِرنَا بأن نحلَّ من الإحرَامِ متهيِّئينَ (إِلَى نِسَائِنَا) أي: إلى قضَاءِ حاجَتِنَا معهُنَّ فهو عَطفٌ على المقدَّرِ قبلُ، وفي بعضِ النُّسخِ: <وأن يحل لنا نساؤنا> وهي أظهَرُ.
          (فَفَشَتْ) بفتحِ الفاءِ والشِّينِ المعجمةِ؛ أي: فانتشَرتْ.
          (فِي ذَلِكَ) أي: في فسخِ الحجِّ إلى العُمرَةِ (الْقَالَةُ) بالقافِ فاعِلُ ((فشت))، وللكُشمِيهنيِّ: <المَقالة> بفتحِ الميم أوَّله وهُما كالقُولِ والقيلِ _بكسرِ القافِ_ مصادِرُ قال؛ أي: فانتَشرَ قَولُ النَّاسِ أنَّ العُمرةَ غيرُ صحيحةٍ في أشهُرِ الحجِّ، وأنَّها حينئذٍ من أفجَرِ الفجُورِ، وقيل: هو فسخُ الحجِّ إلى العُمرَةِ، وهذا أنسَبُ بالمقَامِ.
          (قَالَ عَطَاءٌ) أي: بالإسنَادِ المارِّ (قَالَ) وفي بعضِ النُّسخِ: <فقال> (جَابِرٌ) أي: الأنصَاريُّ (فَيَرُوحُ) بالحاءِ المهمَّلةِ بتقديرِ همزَةِ الاستفهَامِ التَّعجُّبيِّ؛ أي: أفيذهَبُ.
          (أَحَدُنَا إِلَى مِنًى) بكسرِ الميمِ؛ أي: مُحرِماً بالحجِّ بعد أن يفرُغَ من العُمرةِ ويَأتِي النِّساءَ (وَذَكَرُهُ) بفتحِ الكافِ؛ أي: قبلَهُ (يَقْطُرُ) بضمِّ الطَّاء المهملةِ.
          (مَنِيّاً) بتشديدِ التَّحتية مفعُولُ ((يقطُرُ))؛ لأنَّه يتعَدَّى ولا يتَعدَّى كما في ((الصحاح))، والجملَةُ الاسميَّةُ مع خبَرِهَا الفِعليِّ حاليَّةٌ، وهذا الكَلامُ على سبيلِ المبالغَةِ لقُربِ عهدِهِم بالجمَاعِ.
          (فَقَالَ) وفي بعضِ النُّسخِ: <قالَ> (جَابِرٌ بِكَفِّهِ) أي: أشَارَ بهِ إلى هيئةِ التَّقطيرِ، / قالَ ذلكَ استِهجَاناً لذلِكَ الفِعلِ، ولذَا واجهَهُم عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بقَولهِ الآتي: ((واللهِ لأَنَا أبَرُّ وأَتقَى... إلخ)) وللكُشميهنيِّ: <يكفُّهُ> مضارِع: كفَّه _بتشدِيدِ الفاءِ_ منعَهُ، والجُملةُ حاليَّةٌ.
          (فَبَلَغَ) بالغينِ المعجمةِ؛ أي: وصَلَ (ذَلِكَ) أي: القَولُ الصَّادرُ منهُم فاعِلُ: ((بلغ)).
          (النَّبِيَّ صلعم فَقَامَ) أي: النَّبيُّ عليهِ السَّلامُ على المنبَرِ (خَطِيباً فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَقْوَاماً يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا) كنَايةً عَن قولِهِمُ المذكُور (وَاللَّهِ لأَنَا) بلامِ التَّأكيدِ داخِلةً على المبتدَأ وخبرُهُ.
          (أَبَرُّ) بتشديدِ الرَّاء (وَأَتْقَى لِلَّهِ) ╡، وثبتَ لفظُ الجلالَةِ في أصلِ ((اليونينيَّة)) وعليه في فرعِهَا علامةُ السُّقوطِ (وَلَوْ) هي الشَّرطيَّةُ الامتنَاعيَّةُ (أَنِّي) بفتحِ الهمزةِ (اسْتَقْبَلْتُ) بسكونِ القافِ وفتح الموحَّدةِ (مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ) أي: لو عرَفتُ في أوَّلِ الحالِ ما عرَفتُ في آخرِهِ من جوازِ الاعتمَارِ في أشهُرِ الحجِّ (مَا أَهْدَيْتُ) أي: ما سُقتُ الهديَ (وَلَوْلاَ أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لأَحْلَلْتُ) أي: من الإحرَامِ؛ لأنَّهُ يمتَنعُ التَّحلُّل على من أَهدَى حَتَّى يبلُغَ الهَديُ محلَّه، وذلك أيَّامُ النَّحرِ لا قبلَهَا.
          (فَقَامَ سُرَاقَةُ) بضمِّ السينِ المهملةِ وتخفيفِ الرَّاء والقَاف (ابْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ) بضمِّ الجيمِ وسكونِ العينِ المهملةِ وفتح الشِّين المعجمةِ فميمٌ، هو المدلجِيُّ الصَّحابيُّ المشهُورُ، وهو الَّذِي تبعَ النَّبيَّ صلعم والصِّدِّيق حينَ هاجَرا مستخفيَينِ، وتقدَّمَ الكلامُ عليهِ معَ باقِي الحدِيثِ في كتابِ الحجِّ في بابِ: تقضِي الحائضُ المناسِكَ، وفي بابِ: مَن أهلَّ في زمَانِ النَّبيِّ صلعم.
          (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هِيَ) أي: العمرَةُ في أشهُرِ الحجِّ (لَنَا) أي: الصَّحابةُ خاصَّةً في ذلكَ العامِ (أَوْ لِلأَبَدِ) أي: لسائرِ أمَّتك (فَقَالَ) أي: رسُولُ اللهِ (لاَ) أي: ليسَتْ لكُم خاصَّةً (بَلْ لِلأَبَدِ) أي: ما دامَ أهلُ الإِسلامِ في كلِّ حينٍ.
          (قَالَ) أي: جابرٌ (وَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ☺) أي: منَ اليمنِ لمَّا بعثَهُ النَّبيُّ عليه السَّلامُ إليهَا (فَقَالَ أَحَدُهُمَا) هو جابرٌ (يَقُولُ) أي: عليٌّ ☺ (لَبَّيْكَ بِمَا أَهَلَّ) أي: أحرَمَ (بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلعم) لكِن رَوى عطاءٌ عن جابرٍ في بابِ تقضِي الحائضُ المناسِكَ أنَّه قال: أهلَلتُ بمَا أهلَّ بهِ النَّبيُّ صلعم.
          (وَقَالَ الآخَرُ) هو: ابنُ عبَّاسٍ (لَبَّيْكَ بِحَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلعم) أي: وقال ابنُ عبَّاسٍ يقولُ هذا اللَّفظ عليُّ بنُ أبي طالِبٍ، وحِجَّة _بكسرِ الحاءِ المهملةِ_ مضَافٌ؛ أي: بمثلِ حجَّةِ رسُولِ اللهِ، والحاصلُ أنَّ جابِراً نقل عن عليٍّ أنَّه قال: اللَّفظُ الأوَّلُ، وأنَّ ابن عبَّاسٍ نقَلَ عنه الثَّاني فأحدُهُما روَاهُ بالمعنَى، أو أنَّه قال اللَّفظَين في وقتَينِ.
          قالَ القسطَلانيُّ: وسقَطَ: <وقالَ> الأُولَى في روايةِ أبي ذرٍّ.
          (فَأَمَرَه) أي: فأمَرَ عليًّا (النَّبِيُّ صلعم أَنْ يُقِيمَ) بضمِّ أوَّلهِ؛ أي: يستمرَّ (عَلَى إِحْرَامِهِ، وَأَشْرَكَهُ) فعلٌ ماضٍ؛ أي: وأشرَكَ النَّبيُّ صلعم عليًّا.
          (فِي الْهَدْيِ) أي: الَّذِي أَتَى به عليٌّ منَ اليمنِ، وفيهِ المطابقَةُ للتَّرجمَةِ، ولكن قال المهلَّبُ: ليسَ في حدِيثِ البابِ ما ترجَمَ به من الاشتِرَاكِ في الهَديِ بعدَ الإهدَاءِ، بل لا يجُوزُ الاشتِراكُ بعدَ الإهدَاءِ ولا هبَتهُ ولا بيعُهُ، والمرادُ منه: ما أَهدَى عليٌّ من الهَديِ الَّذي كان معهُ عن رسُولِ اللهِ صلعم وجعلَ لهُ ثوابَهُ، فيحتمَلُ أن يفردَ بثوَابِ ذلك الهَدي كلِّه فهو شَرِيكٌ لهُ في هديِهِ؛ لأنَّهُ أهدَى عنهُ عليه السَّلامُ متطَوِّعاً من مالِهِ، ويُحتمَلُ أن يُشرِكَهُ في ثوَابِ هَدي واحدٍ فيكُونُ بينَهُما إذا كانَ تطوُّعاً كمَا ضحَّى صلعم عنه وعَن أهلِ بَيتهِ بكَبشٍ، وضَحَّى عمَّن لم يُضحِّ من أمَّتهِ بآخرَ وأشرَكَهُم في ثوابِهِ، انتهى.
          ومقتضَاهُ أنَّه جعَلَ ضميرَ الفاعِلِ في وأشرَكَه لعَليٍّ لا لرسُولِ اللهِ صلعم.
          وقالَ شيخُ الإسلامِ: وأشرَكَهُ؛ أي: وأشرَكَ النَّبيُّ عليًّا في الهديِ؛ أي: في ذبحِهِ بأن ذبحَ هذا هَدياً وهذا هَدياً لا في الهديِ نفسِهِ، إذ لا يجوزُ بعد إهدائِهِ الاشترَاكُ فيه؛ لأنَّه إنَّما يكونُ بنحوِ بيعٍ أو هِبةٍ وهو ممتَنعٌ، ولهَذا قالَ القاضِي عيَاضٌ: عندِي أنَّهُ لم يكُن شَرِيكاً حقِيقةً بل أعطَاهُ قَدراً يذبحُهُ، والظَّاهرُ أنَّه عليه السَّلامُ نحَرَ البُدنَ الَّتي جاءَتْ معه من المدينةِ وأعطَى عليًّا من البُدنِ التي جاءَ بهَا منَ اليمنِ، انتهى.
          وهو يؤيِّدُ ما حمَلنَا عليهِ، لكن قال في ((فتح الباري)): فيه بيَانُ أنَّ الشَّركةَ وقعَتْ بعدَمَا ساقَ النَّبيُّ صلعم الهديَ من المدينَةِ وهو ثلاثَةٌ وستُّونَ بُدنةً وجاءَ عليٌّ من اليمنِ إلى النَّبيِّ صلعم ومعهُ سبعٌ وثلاثُونَ بُدنةً فصارَ جميعُ ما ساقَهُ النَّبيُّ عليه السلام من الهديِ مائةَ بُدنةٍ وأشرَكَ عليًّا معهُ فيها.
          قال: وهذا الاشتِراكُ محمُولٌ على أنَّهُ صلعم جعلَ عليًّا شَرِيكاً لهُ في ثوَابِ الهَديِ / لا أنَّهُ ملَّكهُ لهَا بعدَ أن جعَلهُ هَدياً، قال: ويُحتمَلُ أن يكُونَ عليٌّ ☺ لما أحضَرَ الَّذي أحضرَهُ معهُ فرَآهُ النَّبيُّ صلعم ملكَهُ نصفَهُ فصَارَ شَرِيكاً له فيه، ثمَّ ساقَ الجمِيعُ هَدياً فصَارَا شرِيكَين فيه لا في الَّذِي ساقَهُ النَّبيُّ صلعم أوَّلاً، انتهى فتدبَّر.