الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين.

          2297- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ) بالموحدة مصغراً، ونسَبَه لجدِّه لشهرتِه به، وإلا فأبوه: عبدُ الله، قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) أي: ابنُ سعدٍ (عَنْ عُقَيْلٍ) مصغَّراً؛ أي: ابن خالدٍ (قَالَ ابنُ شِهَابٍ) أي: محمدُ بن مسلمٍ الزهريُّ، وفيه حذفُ: ((قال)) أخرى، وثبتَتْ في بعضِ الأصول، وفي بعضِها: <عن ابنِ شهابٍ>.
          وقوله: (فَأَخْبَرَنِي) عطفٌ على محذوفٍ؛ أي: قال ابنُ شهابٍ أخبرَني فلانٌ بكذا، فأخبَرَني (عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) كذا قدَّرَه القسطلانيُّ تَبعاً لـ((الفتح)) و((المنحة))، وقدَّرَه البرماويُّ تبعاً للكرمانيِّ، وكذا العينيِّ بقولِهم: أي: قال ابنُ شهابٍ: أخبرَني بكذا وكذا، وعقِبَ ذلك أخبرَني بهذا، وظاهرُ كلامِهم أنَّ المخبرَ لابنِ شهابٍ بالأمرَين هو عروةُ، وظاهرُ صنيعِ القسطلانيِّ أنَّ المخبِرَ لابنِ شهابٍ بالمعطوفِ عليه غيرُ عُروةَ، فليُتأمَّل.
          (أَنَّ عَائِشَةَ) وزاد في أكثرِ الأصُول: <زوجِ النَّبيِّ صلعم> (♦ قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ) بكسر القاف؛ أي: لم أعرِفْ (أَبَوَيَّ) أبا بكرٍ وأمَّ رُومانَ، وفيه تغليبٌ (قَطُّ) بفتح القاف وتشديد الطاء المضمومة في أفصحِ لغاتِها، ولا تستعمَلُ إلا بعد النفيِ ظرفاً للماضي، وسقطَتْ لغيرِ أبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ، ونقل ابنُ الملقِّن والعينيُّ عن أبي عليٍّ الفارسيِّ أنه قال: قط: تُسكَّنُ إذا كانت بمعنى القليل، وتضمُّ وتثقَّلُ إذا كانت بمعنى الزَّمنِ.
          وقوله: (إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ) استثناءٌ مفرَّغٌ من أعمِّ الأحوال، والجملةُ بعد ((إلا)) حاليةٌ، و((يَدينان)) بفتح التحتية أوله، و((الدِّين)) أي: دينَ الإسلام، نُصبَ بنزع الخافضِ؛ أي: يَدينان بدينِ الإسلام، كذا قدَّرَه القسطلانيُّ، وفيه أنَّ النصبَ بنزعِ الخافضِ في مثلِ هذا لا ينقاسُ، فلو ضُمِّنَ: ((يدينان)) معنى: يتَّبعان مثَلاً لكانَ أَولى.
          وقال ابنُ الملقِّن: قولُها: ((يَدينان الدِّين)) أي: يُطيعان اللهَ، وذلك أنَّ مولدَها بعد البعثةِ بسنتَين، وقيل: بخمسٍ، وقيل: بسبعٍ، قال: ولا وجهَ له؛ لإجماعِهم أنها كانت حين هاجَرَ بنت ثمانِ سنينَ، وأكثَرُ ما قيل أنَّ مُقامَه بمكة بعد المبعَثِ ثلاثَ عشْرةَ سنةً، وإنَّما يصِحُّ: خمسٌ على قولِ من قال: إنه أقامَ بها ثلاثةَ عشْرةَ سنةً، وسنتانِ على قولِ مَن يقولُ: عشْراً بها، وتزوَّجَها بنتَ ستٍّ، وقيل: سبعٍ، وبنى بها بنتَ تسعٍ، وماتَ عنها وهي بنتُ ثمانيةَ عشَرَ سنةٍ، وعاشَتْ بعده ثمانياً وأربعينً سنةً، انتهى، فاعرِفْه.
          (وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ) ووقَعَ في بعض النُّسَخِ زيادةُ: <قال أبو عبدِ الله> قبلَه؛ هو: سليمانُ بنُ صالحٍ المِروَزيُّ الملقَّبُ بسَلْموَيهِ على المعتمَدِ كما في ((الفتح))؛ لما في روايةِ ابن السكَنِ عن الفربريِّ عن البخاريِّ قال: <قال أبو صالحٍ؛ سَلْموَيه: حدَّثَنا عبدُ الله بنُ المبارَك>، وقد اتَّفقَ عليه أبو نُعيمٍ والأصيليُّ والجيَّانيُّ، وجزمَ الإسماعيليُّ بأنَّ المرادَ بأبي صالحٍ: عبدُ الله بنُ صالحٍ، كاتبُ الليثِ، وشيخُه عبدُ الله على هذا هو: ابنُ وهبٍ.
          وزعمَ الدِّمياطيُّ أنَّ أبا صالحٍ هو محبوبُ بنُ موسى الفرَّاءُ الأنطاكيُّ، واعترضه في ((الفتح)) بأنه لم يذكُرْ لذلك مستنَداً، وبأنه لم يسبِقْه أحدٌ إليه، انتهى.
          ثم قال في ((الفتح)): وسقطَ هذا التعليقُ لأبي ذرٍّ، فالحديثُ عن عُقيلٍ وحدَه، انتهى.
          لكن قال عُقبةُ: ساقَ البُخاريُّ الحديثَ هنا على لفظِ يونُسَ، وساقَه في الهجرةِ / على لفظ عُقيلٍ، انتهى فتدبَّره.
          (حَدَّثَنِي) بالإفراد (عَبْدُ اللَّهِ) أي: ابنُ المباركِ، وثبتَ في بعضِ الأصول (عَنْ يُونُسَ) أي: ابنِ يزيدَ (عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ) أي: الزهريُّ (أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) أي: ابنُ العوَّامِ (أَنَّ عَائِشَةَ) ♦ (قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ) بتشديد التحتية (قَطُّ، إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ) والمعنى: لم أعهَدْهما من وقتِ عرَفتُ إلا وهما متَّبعانِ دينَ الإسلام.
          وقولُها: (وَلَمْ يَمُرَّ...) إلخ، عطفٌ على: ((لم أعقِلْ))، و((يمُرَّ)) بضم الميم والراء، وفتحُ الراء أشهرُ، وقد تكسَرُ، ويجوزُ لغةً فكذا الإدغام؛ أي: لم يمضِ (عَلَيْنَا) أي: أنا ووالديَّ (يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ) أي: في اليومِ (رَسُولُ اللَّهِ صلعم طَرَفَيِ النَّهَارِ) بفتح الطاء المهملة والراء، منصوبٌ على الظرفيةِ، وفسَّرَه بقوله: (بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ) بالبناء للمفعول؛ أي: امتُحنَ (الْمُسْلِمُونَ) أي: بأذى المشركين.
          (خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِراً قِبَلَ) بكسر القاف وفتح الموحدة؛ أي: جِهةَ (الْحَبَشَةِ) أي: بعد أن أذِنَ رسولُ الله صلعم لأصحابِه بالهجرةِ إلى الحبَشةِ ليلحَقَ أبو بكرٍ بمن سبقَه من المسلمين، فسار (حَتَّى إِذَا بَلَغَ) بفتح اللام؛ أي: وصَلَ أبو بكرٍ (بَرْكَ الْغِمَادِ) بكسر الغين المعجمة وتخفيف الميم فألف فدال مهملة، وقال ابنُ فارس: بضمها، أرضٌ، كذا في ((التوضيح)).
          و((بَرْكَ)) بفتح الموحدة وسكون الراء وبالكاف، ولأبي ذرٍّ: بكسر الموحَّدة، وقال الزَّركشيُّ: بفتح الموحَّدة لأكثرِهم، وبعضُهم: بكسرها وبضمِّ الغين المعجمة وتُكسَرُ، وهو اسمُ موضِعٍ باليمن، وقيل: وراءَ مكَّةَ بخمسِ ليالٍ، وقيل: في أقاصي هجَرَ، انتهى.
          وقال في ((المطالع)): وبكسر الموحدةِ وقعَ للأصيليِّ والمستمليِّ والحمويِّ، انتهى.
          وقال في ((القاموس)): و((بَرْك الغِمادِ)) مثلثة الغين، والفتحُ عن القزَّاز، مَوضِعٌ، أو هو أقصى معمورِ الأرضِ، عن ابنِ عُليمٍ في ((الباهر)) وكعُثمانَ: قصرٌ باليمنِ بناهُ ليشرُخَ بأربعةِ وجوهٍ: أحمرَ وأبيضَ وأصفرَ وأخضَرَ، وبنى داخلَه قصراً بسبعةِ سقوفٍ، بين كلِّ سقفَين أربعون ذِراعاً، والغامِدةُ: البئرُ المندفِنةُ والسَّفينةُ المشحونةُ كالغامدِ والآمِدِ، وبلا لامٍ: أبو قبيلةٍ ينسَبُ إليها الغامديُّون، أو هو غامدٌ، واسمُه: عمرُو بنُ عبدِ الله، ولُقِّبَ به لإصلاحِه أمراً بين قومِه، انتهى.
          وقال الكِرمانيُّ: وغامدٌ: حيٌّ من اليمن، وغُمْدانَ: قصرٌ باليمن.
          (لَقِيَهُ) أي: لقيَ أبا بكرٍ (ابْنُ الدَّغِنَةِ) قال الزَّركشيُّ: بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون لكافَّتِهم، وعند أبي زيد المِروَزيِّ: بفتح الغين، قال الأصيليُّ: كذا قرأَه لنا؛ لأنَّه كان في لسانِه استِرخاءٌ لا يقدِرُ على مِلكِه، وقال القابِسيُّ: بضم الدال والغين وتشديد النون، وحكى الجَيَّانيُّ فيه الوجهَين، قال: ويقال: بفتح الدال وسكون الغين، وهو اسمُ أمِّه، واسمُه: ربيعةُ بنُ رُفيعٍ، انتهى.
          وزاد في ((المصابيح)): وحكى شيخُنا عن مُغَلْطايْ أنه سمَّاه في ((سيرتِه)): مالكاً، انتهى.
          وقال العينيُّ كابنِ الملقِّن: ويقال: ابنُ الدَّثِنَةِ أيضاً، وتسكَّنُ الثاءُ، و((الدَّغِنة)): اسمُ أمِّه، ومعناه لغةً: الغيمُ الممطِرُ، والدَّثِنة: الكثيرةُ اللحمِ المستَرخيةُ، انتهى.
          وعند البَلاذريِّ في حديثِ الهجرةِ أنه الحارثُ / بنُ يزيدَ.
          قال في ((الفتح)) هناك: وهو أولى، ووهَمَ من زعَمَ أنه ربيعةُ بن رُفيعٍ، انتهى.
          ويؤيِّدُه قولُه: وقال في ((القاموس)): دغَنَ يومُنا: دَجَنَ، وكحُزُقَّةٍ الدُّجُنَّةُ، وأمُّ رَبيعةَ بنِ رُفيعٍ الذي أجارَ أبا بكرٍ، أو هي ككَلِمةٍ، أو كحُزْمةٍ، والصحيحُ الأولُ، والمحدِّثون يلحَنون، انتهى.
          (وَهْوَ) أي: ابن الدَّغِنَة (سَيِّدُ الْقَارَةِ) بالقاف وتخفيف الراء، قبيلةٌ من بني الهُوْنِ _بضم الهاء وسكون الواو_ ابنِ خُزيمةَ، موصوفةٌ بجودةِ الرَّميِ.
          قال في ((التوضيح)): ومنه المثلُ: قد أنصفَ القارَةَ مَن راماها، وقال العينيُّ: خُزيمةُ بنُ مُدرِكةَ بنِ إلياسَ بنِ مُضرَ، سُمُّوا بذلك لأنَّهم في بعضِ حروبِهم لبني بكرٍ صفُّوا في قارَةٍ؛ وهي: أكَمةٌ سوداءُ فيها حجارةٌ.
          (فَقَالَ) أي: ابنُ الدَّغِنةِ لأبي بكرٍ (أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي) أي: تسبَّبوا في إخراجي من بلدي مكَّةَ (فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ) بفتح الهمزة وكسر السين وبالحاء المهملتين؛ أي: أسيرَ (فِي الأَرْضِ) قال العينيُّ: وأصلُه من السَّيحِ؛ وهو: الماءُ الجاري المنبسِطُ على الأرضِ، واستُشكِلَ بأنَّ حقيقةَ السِّياحةِ: أن لا يقصدَ مَوضِعاً بعينِه.
          وأجيبَ بأنه عُمِّيَ عن ابنِ الدغِنَةِ جهةُ قصدِه؛ لكونِه كافراً، ومعلومٌ أنه لا يصِلُ إليها من الطريقِ التي قصَدَها حتى يسيرَ في الأرض زماناً، فيكونُ سائحاً.
          وأقول: ما في ((الصِّحاح)): ساحَ في الأرضِ يَسيحُ سِياحةً وسُيوحاً وسَيحاً وسَيَحاناً: ذهَبَ، وفي الحديث: ((لا سِياحةَ في الإسلامِ)) انتهى، وعليه فلا إشكالَ، فتأمَّل.
          (وأَعْبُدَ) بالواو لأبي ذرٍّ، وعند غيرِه: <فأعبدَ> (رَبِّي) بالفاء (قَالَ ابنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ) ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول، ويجوزُ العكسُ، كما في بعضِ الأصولِ، وإن اقتصَرَ الشُّراحُ على الضَّبطِ الأولِ هنا، وجوَّزوا الوجهَين في الآتي.
          وقوله: (فَإِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ) تعليلٌ لسابقِه، و((تكسِبُ)) بفتح الفوقية وقد تضَمُّ وكسر السين؛ أي: تُعطي النَّاس ما لا يوجَدُ عند غيرِك، يقال: كسَبتُ زيداً، وأكسَبتُ زيداً مالاً، وقيل: الصوابُ: المعدم بحذف الواو وكسر الدال؛ لأنَّ المعدومَ لا يكسِبُ.
          وأُجيبَ: بأنه لا يمتنِعُ أن يطلَقَ على المعدَمِ أنه معدومٌ؛ إذ هو كالميِّتِ، وقال الزَّركشيُّ: <وتَكسِبُ العديمَ> أي: الفقيرَ، فعيلٌ بمعنى: فاعلٍ، وهو أحسنُ مما مرَّ في حديثِ خديجةَ في بدءِ الوحيِ بلفظ: ((المعدومَ)) انتهى.
          قال القسطلانيُّ: ولعله وقع له هنا كذلك، وإلا فلم أقِفْ هنا على شيءٍ من الأصول كما ادَّعاه، انتهى.
          وأقول: رأيتُ في نسختَين هنا كما قاله.
          (وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ) بفتح الكاف؛ هو: مَن لا يستقِلُّ بأمرِه، وقيل: الثِّقْلُ _بكسر المثلثة وسكون القاف_ (وَتَقْرِي الضَّيْفَ) بفتح تاء: ((تَقري))، وفي بعض النُّسَخ: بضمِّها، يقال: قرَيتُ الضيفَ أَقرِيه قِرًى _بكسر القاف والقصر_، وقَرا _بفتح القاف والمد_، ويقال: أقريتُه _بالهمز_.
          (وَتُعِينُ) بضم الفوقية (عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) أي: لا الباطلِ، وتقدَّمَ الكلامُ عليه وعلى الذي قبلَه في بدءِ الوحيِ (وَأَنَا) بضميرِ الرفعِ على الابتداء، وفي بعض الأصول: <وإنِّي> بياء المتكلِّم، اسمُ إنَّ (لَكَ جَارٌ) بالجيم وضم الراء؛ أي: مُجيرُكَ ومؤمِّنُك مما تخافُ، قال الجوهريُّ: الجارُ: / الذي أجَرتَه من أن يظلِمَه ظالمٌ.
          (فَارْجِعْ) أي: إلى وطنِك مكَّةَ، ويدلُّ عليه: (فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ. فَارْتَحَلَ) بفتح الحاء المهملة (ابْنُ الدَّغِنَةِ) أي: من منزلِه الذي كان فيه عائداً إلى مكَّةَ (فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ) واستشكَلَه الكِرمانيُّ، فقال: القياسُ أن يقالَ: رجَعَ أبو بكرٍ مع ابنِ الدَّغِنَةِ، لا العكسُ.
          وأجاب بأنه أطلقَ الرُّجوعَ وأرادَ لازِمَه الذي هو المجيءُ، وبأنه من بابِ المشاكَلة؛ لأنَّ أبا بكرٍ كان راجعاً، وبأنه أطلق الرجوعَ باعتبارِ ما كان قبلَه بمكَّةَ، انتهى.
          ووقع في باب الهِجرةِ على الأصلِ بلفظِ: ((فرجَعَ _أي: أبو بكرٍ_ وارتحلَ معه ابنُ الدَّغِنَةِ)).
          قال في ((الفتح)): والمرادُ في الروايتَين: مطلَقُ المصاحبةِ.
          (فَطَافَ) أي: فدارَ ابنُ الدغِنَةِ (فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ) المرادُ: لا يخرُجُ هو (وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ) بضم الفوقية وهمزة الاستفهام الإنكاريِّ التوبيخيِّ؛ أي: لا ينبغي لكم أن تُخرِجوا (رَجُلاً يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ) بفتح التحتية أوله وضمها كما في الفرع، وبكسر السين المهملة، والجملةُ صفةُ: ((رجلاً)) وعطفٌ عليها.
          (وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) أي: لا الباطلِ (فَأَنْفَذَتْ) بفتح الفاء والذال المعجمة؛ أي: أمضَتْ (قُرَيْشٌ) أي: القبيلةُ المعروفةُ (جِوَارَ ابنِ الدَّغِنَةِ وَآمَنُوا) بمد الهمزة وفتح الميم (أَبَا بَكْرٍ) أي: الصِّديقَ؛ أي: جعلوه في أمانٍ من الضَّررِ منهم.
          (وَقَالُوا) أي: كفَّارُ قريشٍ (لاِبْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ) قال الكرمانيُّ: فإن قلتَ: لا معنى للفاءِ هنا؟ قلتُ: تقديرُه: مُرْ أبا بكرٍ ليعبُدَ ربَّه، فليعبُدْ ربَّه.
          واعترضه العينيُّ فقال: لا معنى لما ذكرَه؛ لأنَّه لا يفيدُ، بل الفاءُ يجوزُ أن تكون جزاءَ شرطٍ مقدَّرٍ؛ أي: مُر أبا بكرٍ إذا قبلَ ما يُشترَطُ عليه، فليعبُدْ ربَّه في داره.
          وقوله: (فَلْيُصَلِّ...) إلخ، بيانٌ للعبادة، وفي نسخةِ الفرع وأصلِه: <وليصِلْ> بالواو (وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا) الفعلُ مرفوعٌ؛ لأنَّ: ((لا)) نافيةٌ، وفي بعض الأصولِ: بجزمه بحذف الياء على أنَّ: ((لا)) ناهيةٌ.
          وقوله: (بِذَلِكَ) الإشارةُ فيه للصَّلاةِ والقراءةِ المفهومَين من الفعلَين باعتبارِ المذكور (وَلاَ يَسْتَعْلِنْ) برفع الفعل وجزمِه، والسِّينُ للطَّلبِ؛ أي: ولا يجهَرْ (بِهِ) أي: بما ذكَرَ من الصَّلاةِ والقراءةِ (فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا) بكسر الشين المعجمة (أَنْ يَفْتِنَ) بكسر الفوقية بعد الفاء؛ أي: أن يوقِعَ (أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا) في الفتنةِ، فيخرُجوا من دينِهم إلى دينِه، وخصَّ هذين النوعين؛ لأنَّهما أقربُ انقياداً للغير.
          (قَالَ ذَلِكَ) أي: ما شرطَتْه كفارُ قريشٍ (ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَبِي بَكْرٍ، فَطَفِقَ) بكسر الفاء وفتحها؛ أي: فجعَلَ، وفي ((التوضيح)): طفِقَ يفعَلُ كذا؛ مثلُ: ظلَّ، واعترضه العينيُّ فقال: ليس كذلك؛ لأنَّ ظلَّ من الأفعالِ الناقصةِ، انتهى. وفيه أنَّ طفقَ كذلك منها، فافهم.
          وقال صاحبُ ((الأفعال)): طفِقَ بالشيءِ طُفوقاً؛ إذا دامَ فعلُه ليلاً ونهاراً، ومنه: {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص:33] قال العينيُّ: وفيه نظرٌ، انتهى. وفي الهجرة: ((فلبِثَ)).
          (أَبُو بَكْرٍ) ☺ (يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلاَ يَسْتَعْلِنُ) بالرَّفعِ (بِالصَّلاَةِ وَلاَ الْقِرَاءَةِ) وفي بعض الأصول: <ولا بالقراءة> (فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبِي بَكْرٍ) أي: ظهرَ له خلافُ ما كان يفعَلُه (فَابْتَنَى) بالتاء للمبالغة في: بَنى (مَسْجِداً) قال / ابنُ الملقِّن وغيرُه: هو أولُ مسجدٍ بُني في الإسلام.
          وقوله: (بِفِنَاءِ دَارِهِ) بكسر الفاء والمدِّ؛ ما امتدَّ من جوانبِ الدار، كذا في ((القسطلاني))، لكن في ((القاموس)): فِناءُ الدارِ _ككساء_: ما اتَّسعَ من أمامِها، والجمعُ: أفنيةٌ، انتهى.
          وفي الحديثِ دليلٌ على جوازِ ذلك، قال الداوديُّ: بهذا يقولُ مالكٌ وفريقٌ من العلماءِ أنَّ مَن كانت لدارِه طريقٌ متَّسِعةٌ، فله أن يرتفقَ منها بما لا يضُرُّ، انتهى.
          (وَبَرَزَ فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ) بتشديد الصاد المهملة بعد الفوقية المفتوحة، وللكُشميهنيِّ: <فينْقَصِفُ> بنون ساكنة قبل القاف المفتوحة وبكسر الصاد الخفيفة؛ أي: فيزدحِمُ (عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ) أي: الصِّغارُ منهم؛ يعني: يزدحِمونَ ويتعجَّبونَ حتى يسقُطَ بعضُهم على بعضٍ، وأصلُ التقصُّفِ: التكسُّرُ، قاله الزَّركشيُّ.
          وفي ((القاموس)): قصَفَه يقصِفُه قَصْفاً: كسَرَه، والرعدُ وغيرُه تقصيفاً: اشتدَّ صوتُه، وفي الحديث: ((أنا والنَّبيُّون فُرَّاطٌ القاصِفين)) هم المزدحمون؛ كأنَّ بعضَهم يقصِفُ بعضاً لفَرْطِ الزِّحامِ بِداراً إلى الجنة؛ أي: نحنُ متقدِّمون في الشفاعةِ لقومٍ كثيرين متدافِعين، ورعدٌ قاصفٌ: صيِّتٌ، انتهى.
          (يَعْجَبُونَ) بفتح الجيم، وقوله: (مِنْهُ) سقطَ من بعض النُّسخ، وعزاها القسطلانيُّ للكُشميهنيِّ (وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ) ضميرُه كـ((منه)) لأبي بكرٍ (وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ) ☺ (رَجُلاً بَكَّاءً) بتشديد الكاف والمد؛ أي: كثيرَ البكاءِ (لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ) بإضافةِ: ((دمعَ)) إلى الضمير، وفي الهجرة: ((لا يملِكُ عينَيه)) أي: لا يملِكُ إمساكَ دمعهِما لرقَّةِ قلبِه.
          (حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ) بالزاي بعد الفاء؛ أي: أخافَ (ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) خوفاً على نسائهم وأبنائهم الصِّغارِ أن يميلوا إلى الإسلام (فَأَرْسَلُوا) أي: أشرافُ قريشٍ(إِلَى ابنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ) وسقط: <له> من بعضِ النُّسَخ (إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا) بفتح الجيم وسكون الراء، وللكُشميهنيِّ: <أجَزْنا> بالزاي بدلَ: الرَّاءِ (أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ) وفي كثيرٍ من الأصول: <على أن يعبُدَ>.
          (فِي دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ) أي: تعَدَّاه (فَابْتَنَى مَسْجِداً بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَأَعْلَنَ) بالنون؛ أي: أظهَرَ (الصَّلاَةَ وَالْقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا) بكسر الشين المعجمة؛ أي: خِفنا (أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا) ببناء ((يفتِنَ)) للفاعلِ، فـ((أبناءَنا)) مفعولُه، ولأبي ذرٍّ: ببنائه للمفعول، فـ<أبناؤنا> وما عُطفَ عليه: نائبُ فاعلِه (فَإِنْ أَحَبَّ) أي: أرادَ (أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ) جوابُ: ((إن)) (وَإِنْ أَبَى) أي: امتنَعَ (إِلاَّ أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ) أي: المذكورَ من الصَّلاةِ والقراءةِ، و((يُعْلِنَ)): _بضم أوله وسكون ثانيه_؛ أي: يجهَرَ، وفي بعض الأصول: <إلا أن يفعَلَ ذلك>.
          (فَسَلْهُ) بفتح السين المهملة وسكون اللام من غير همزٍ، فعلُ أمرٍ؛ أي: فاطلُبْ منه (أَنْ يَرُدَّ) بضم الراء (إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ) أي: عهدَكَ له (فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ) بضم النون وسكون الخاء المعجمة وكسر الفاء؛ أي: ننقُضَ عهدَك (وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأَبِي بَكْرٍ الاِسْتِعْلاَنَ) بالسين؛ أي: إعلانَ / ما ذكَرَ من الصَّلاةِ والقراءةِ.
          (قَالَتْ عَائِشَةُ) أي: زوجُ رسولِ الله صلعم (فَأَتَى ابنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ) أي: الصدِّيقَ (فَقَالَ) أي: ابنُ الدغنةِ لأبي بكرٍ (قَدْ عَلِمْتَ) بفتح الفوقية (الَّذِي عَقَدْتُ) بضم التاء، من العَقدِ _بالقاف_؛ وهو: العهدُ، وفي كثيرٍ من الأصول: <عاقدتُ> من المعاقدة (لَكَ عَلَيْهِ) الظرفان متعلِّقان بـ((عقَدتُ)) واللامُ للتعليل؛ أي: علِمتَ الأمرَ الذي عاهدتُ لك عليه من أن تعبُدَ ربَّكَ في دارِكَ، وأنفذَتْه قريشٌ بشَرطِ أن لا تُعلِنَ بذلك.
          (فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ) أي: على عبادةِ ربِّكَ من غيرِ إعلانٍ كما شرطَتْه قريشٌ (وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ) بتشديد ياء المتكلم (ذِمَّتِي) أي: عهدي (فَإِنِّي لاَ أُحِبُّ) بضم الهمزة (أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ) بضم الهمزة وسكون الخاء المعجمة وبكسر الفاء؛ أي: غدرَتْني النَّاسُ (فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ) أي: عاهَدتُه، فهمزةُ ((أخفَرتُ)) للسَّلبِ، فإنَّه يقالُ: خفَرتُه؛ إذا أجَرتَه وحمَيتَه، وأخفَرتَه: نقضتَ عهدَه، زاد ابنُ الملقِّن: وأخفَرتُه أيضاً: جعلتُ منه خَفيراً، وأخفَرتُ القومَ أيضاً؛ إذا وصَلوا إلى عدوِّهم، انتهى.
          (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) أي: الصدِّيقُ ☺ (إِنِّي) ولأبي ذرٍّ: <فإنِّي> بالفاء (أَرُدُّ) بضم الراء (إِلَيْكَ جِوَارَكَ).
          وجملةُ: (وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ) معطوفةٌ على: ((أرُدُّ))، وفيه: قوَّةُ يقينِ أبي بكرٍ ☺، وجملةُ: (وَرَسُولُ اللَّهِ صلعم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ) حاليةٌ، والظرفُ متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به ((بمكةَ)) الواقعِ خبرَ ((ورسولُ الله)) والأقربُ أنه حالٌ من الضميرِ المستترِ في ذلك المحذوفِ.
          (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم: قَدْ) وفي بعض النُّسخ: <فقد> (أُرِيتُ) بالبناء للمفعول (دَارَ هِجْرَتِكُمْ) أي: الدارَ التي تُهاجِرون إليها (رَأَيْتُ سَبْخَةً) أي: أرضاً سَبْخَة _بفتح السين المهملة والخاء المعجمة بينهما موحدة ساكنة_، ولأبي ذرٍّ: بفتحِها؛ وهي: أرضٌ تعلوها مُلوحةٌ لا تكادُ تُنبِتُ إلا بعضَ الشجرِ، فـ((سبخة)) صفةُ: أرضاً مقدَّرةٍ.
          وقال البرماويُّ كالزَّركشيِّ: بفتح الموحَّدة، وإذا وصفتَ به الأرضَ كسَرتَ الباءَ، انتهى فتأمَّله.
          (ذَاتَ نَخْلٍ) بالنصب، صفةُ: ((سبخةً)) (بَيْنَ لاَبَتَيْنِ) الظرفُ: صفةٌ بعد صفةٍ، و((لابتَين)) تثنيةُ: لابةٍ _بألف فموحدة خفيفة_، قال الكِرمانيُّ وغيرُه: أرضٌ ذاتُ حجارةٍ سُودٍ كأنها أُحرقَتْ بالنار، وكذلك الحَرَّةُ.
          وجملةُ: (وَهُمَا الْحَرَّتَانِ) تفسيرٌ لـ((لابتَين)) مُدرَجٌ من الزُّهريِّ (فَهَاجَرَ) بالفاء، ولأبي الوقت: بالواو، والفاءُ أنسبُ، فافهم.
          (مَنْ هَاجَرَ) أي: من المسلمين (قِبَلَ) بكسر القاف وفتح الموحدة؛ أي: جِهةَ (الْمَدِينَةِ) أي: مدينةِ رسولِ الله، فهي المرادةُ من رؤياه عليه السَّلامُ.
          قال ابنُ الملقِّن: وكان قبل ذلك رآها بصفةٍ تجمَعَ الحبَشةَ والمدينةَ، فظُنَّتِ الحبَشةَ، فهاجَرَ بعضُهم إليها، ثم أُريَ تمامَ الصِّفة، فانصرَفوا إلى المدينة، انتهى.
          وانظُرْ لمَ عدَلَ عن قولِه: ((إلى المدينة)) إلى ما ذكرَه، ولعلَّه لإفادةِ التعظيم، أو لأنَّه أعمُّ عُرْفاً.
          (حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم) والإشارةُ لما / رآه عليه السَّلامُ، وجملةُ: (وَرَجَعَ...) إلخ، معطوفة على: ((فهاجرَ)) (إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ) بفتح الحاء المهملة والموحدة، وقوله: (وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِراً) عطفٌ أيضاً على: ((فهاجَرَ))، و((مهاجِراً)) اسمُ فاعلٍ، حالٌ مقدَّرةٌ من: ((أبو بكرٍ))، والمرادُ به: ناوياً للهجرةِ من مكَّةَ إلى المدينة.
          (فَقَالَ) ورأيتُ في بعضِ الأصول: <له> (رَسُولُ اللَّهِ صلعم) أي: لأبي بكرٍ (عَلَى رِسْلِكَ) بكسر الراء وسكون السين المهملة؛ أي: اتَّئِدْ.
          وقال في ((التوضيح)): أي: هِينتِك؛ وهو: السَّيرُ الرَّفيقُ، أما بفتح الراء؛ فهو: السَّيرُ السَّهلُ، قال: وضبطَه في الأصلِ: بكسرِ الراء، وفي بعضِ الرِّوايات: بفتحِها، انتهى.
          (فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي) أي: في الهجرةِ، والجملةُ: تعليلٌ لسابقِه (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ) أي: الإذنَ لك في الهِجرةِ، ولعلَّ من حكمةِ الاستفهامِ عن رَجاءِ ذلك مع أنَّه معلومٌ مما قبلَه إطالةَ الكلامِ مع الحبيب، وقد يُقالُ: ((هل)) هنا للتمنِّي، كقوله تعالى: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ} [الأعراف:53]، فتأمَّل.
          وقوله: (بِأَبِي أَنْتَ) ((أنت)) مبتدأٌ مؤخَّرٌ، و((بأبي)) خبرٌ مقدَّمٌ؛ أي: مُفدًّى به، أو ((أنت)) تأكيدٌ لفاعلِ: ((ترجو))، و((بأبي)) قسَمٌ، وفي بعضِ الأصولِ زيادةُ: <وأمِّي>.
          (قَالَ) أي: رسولُ الله (نَعَمْ) أي: أرجو ذلك (فَحَبَسَ) بحاء مهملة فموحدة وسين مهملة مفتوحات؛ أي: فمنَعَ (أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ) أي: من الهجرةِ (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلعم لِيَصْحَبَهُ) أي: في الهِجرةِ، وهو عِلَّةٌ لـ((حبَسَ)) (وَعَلَفَ) بفتح اللام الخفيفة؛ أي: أطعَمَ أبو بكرٍ (رَاحِلَتَيْنِ) أي: ناقتَين (كَانَتَا عِنْدَهُ) أي: عند أبي بكرٍ (وَرَقَ السَّمُرِ) ((ورَقَ)) بفتح الراء، مفعولٌ ثانٍ لـ((علف))، و((السَّمُر)) بفتح السين المهملة وضم الميم وبالراء، الواحدةُ: سمُرةٌ؛ شجَرُ الطَّلْحِ، زاد في الهجرة: ((وهو الخبَطُ)) مقتصراً، وهو مُدرَجٌ من تفسيرِ الزهريِّ.
          وقال العينيُّ: في ((المغرب)): السَّمُرُ: من شجَرِ العِضاهِ، وهو شجرٌ يعظُمُ وله شوكٌ، وهو على ضربَين؛ خالصٍ وغيرِ خالصٍ، فالخالصُ: الغَرْفُ، والطَّلْحُ، والسَّلَمُ، والسِّدْرُ، والسَّيَالُ، والسَّمُرُ، واليَنبوتُ، والقَتادُ الأعظَمُ، والكَنَهبَلُ، والغَرَبُ، والعَوْسَجُ، وغيرُ الخالصِ: الشَّوْحَطُ، والنَّبْعُ، والشِّرْيانُ، والسَّرَاءُ، والنَّشْمُ، والعُجْرُمُ، والتَّألَبُ، انتهى.
          وقوله: (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ظرفٌ لـ((علَفَ)).
          ووجهُ مطابقةِ الحديثِ للتَّرجمةِ _كما قال شارحُ التراجم_ من جهةِ أنَّ المجيرَ ملتزِمٌ للمُجارِ أنْ لا يُؤذى، وأن تكونَ العُهْدةُ في ذلك عليه.
          قال ابن بطَّالٍ: هذا الجِوارُ كان معروفاً عند العرب، وكان وجوهُ العربِ يُجيرون من لجأَ إليهم واستجارَ بهم، وقد أجارَ أبو طالبٍ النَّبيَّ صلعم، ولا يكونُ الجِوارُ إلا من الظُّلمِ والعِداءِ.
          وفي الحديثِ من الفقهِ أنه إذا خشيَ المؤمنُ على نفسِه، يُباحُ له أن يستجيرَ بمن يمنَعُه ويحميه، وإن كان مُجيرُه كافراً، إن أرادَ الأخذَ بالرُّخصة، وإن أراد الأخذَ بالشِّدةِ على نفسِه فله ذلك، كما ردَّ الصدِّيقُ جِوارَ ابنِ الدغِنَةِ، ورضيَ بجوارِ اللهِ تعالى / ورسولِه، وأبو بكرٍ يومَئذٍ كان من المستضعَفين، فآثَرَ الصبرَ على ما ناله من الأذى مُحتسِباً على الله واثقاً به، فوفَّى اللهُ له ما وثِقَ به فيه، ولم ينَلْه مكروهٌ حتى أذِنَ اللهُ لنبيِّه في الهجرة، فخرجَ مع حبيبِه، ونجَّاهما اللهُ من كيدِ أعدائهما حتى بلَّغَه اللهُ تعالى مُرادَه من إظهارِ النبوَّةِ وإعلاءِ الدِّين، وكان لأبي بكرٍ في ذلك من الفضْلِ والسَّبْقِ في نصرِ نبيِّه صلعم، وبذلِ نفسِه ومالِه في ذلك ما لا يخفى.
          وقال العينيُّ: وفيه أنَّ كلَّ مَن يُنتفَعُ بإقامتِه لا يخرُجُ من بلدِه، ويُمنَعُ منه إن أرادَه، حتى قال محمدُ بنُ سلَمةَ: ليس للفقيهِ أن يغزوَ؛ لأنَّ ثَمَّ مَن ينوبُ عنه فيه، وليس يوجَدُ مَن يقومُ مَقامَه في التعليمِ، ويُمنَعُ من الخروجِ إن أرادَه، واحتَجَّ بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً...} [التوبة:122] الآيةَ، انتهى.