الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: أي الجوار أقرب؟

          ░3▒ (بابٌ أَيُّ الْجِوَارِ أَقْرَبُ) بتنوين: ((بابٌ)) ورَفعِ: ((أيُّ)) الاستفهاميةِ بالابتداءِ، و((الجِوارِ)) مُضافٌ إليه مصدرٌ، قال في ((القاموس)): جاوَرَه مُجاوَرةً وجُواراً، وقد يُكسرُ: صارَ جارَه. انتهى.
          وذكرَ الوجْهَين في ((الصِّحاح)) وزادَ: والكسرُ أفصَحُ. قال في ((الفتح)): وكأنَّه أشارَ بهذه التَّرجمةِ إلى أنَّ الجارَ في الحديثِ قبله ليس على مرتَبةٍ واحدةٍ.
          وقال شيخُ الإسلامِ: فيه مع ما مرَّ في البابِ السَّابقِ إشعارٌ بأنَّ البخاريَّ يختارُ استحقاقَ الشُّفعةِ بالجوارِ.
          وقال القسطلانيُّ: فيه إشعارٌ بأنَّ المصنِّفَ يختارُ مذهَبَ الكوفيِّين في استحقاقِ الشُّفعةِ بالجوارِ، وإنما ذكَرَ الحديثَ في التَّرجمةِ الأولى، وهو دليلُ شُفعةِ الجوارِ، وأعقَبَه بهذا البابِ ليدُلَّ بذلك على أنَّ الأقربَ جِواراً أحقُّ من الأبعدِ، لكنَّه لم يُصرِّح في التَّرجمةِ بأنَّ غرَضَه الشُّفعةُ.
          قال: واستدلَّ التُّورِبِشتيُّ بإيرادِ البخاريِّ حديثَ: ((الجارُ أحقُّ بسَقَبِه)) على تقويةِ شُفعةِ الجِوارُ، وإبطالِ ما تأوَّلَه الخطَّابيُّ مُشنِّعاً عليه.
          وأجاب شارحُ ((المشكاةِ)): بأنَّ إيرادَ البخاريِّ لذلك ليس بحُجَّةٍ على الشافعيِّ ولا على الخطَّابيِّ، وقد وافقَ البغويُّ الخطَّابيَّ في ذلك، وحينئذٍ فلا وجهَ للتَّشنيعِ على الإمامِ أبي سليمانَ الذي لان له الحديثُ، / كما لان لأبي سُليمانَ الحديدُ. انتهى.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: لا حجَّةَ في حديثِ البابِ لمَن أوجَبَ الشُّفعةِ بالجوارِ؛ لأنَّ عائشةَ إنَّما سألَتِ النبيَّ عمَّن تبدأُ به من جيرانِها في الهديَّةِ، فأخبرَها أنَّه مَن قَرُبَ منها أَولى بها من غيرِه، فدلَّ بهذا أنَّه أولى بحقوقِ الجِوارِ وكَرَمِ العشْرةِ والبرِّ ممَّن هو أبعدُ منه باباً.
          وقال ابنُ المنذِرِ: وهذا الحديثُ يدُلُّ على أنَّ اسمَ الجارِ يقَعُ على غيرِ اللَّزيقِ أيضاً، وقال: خرجَ أبو حنيفةَ عن ظاهِرِ هذا الحديثِ، فخَصَّ الجارَ الذي يستحقُّ الشُّفعةَ باللَّزيقِ، وسائرُ العلماءِ يقولون: إذا أَوصى الرَّجلُ لجِيرانِه يُعطى الملاصِقُ وغيرُه، إلا أبا حنيفةَ فإنَّه قال: لا يُعطى إلا الملاصِقُ.
          وقال ابنُ الملقِّن: وكان الأوزاعيُّ يقولُ: الجارُ أربعون داراً من كلِّ جانبٍ، وقال عليٌّ: مَن سمِعَ النِّداءَ فهو جارٌ، وقال آخرون: هو كلُّ مَن صلَّى معكم صلاةَ الصُّبحِ في المسجدِ، وقال بعضُهم: أهلُ المدينةِ كلُّهم جيران، انتهى.
          وقال المهلَّبُ: وإنَّما أمَرَ عليه السَّلامُ بالهديَّةِ إلى مَن قرُبَ بابُه؛ لأنَّه ينظُرُ ما يدخُلُ دارَ جارِه وما يخرُجُ منها، ولأنَّه أسرَعُ إجابةً لجارِه عندما ينُوبُه من الاحتياجِ إليه في أوقاتِ الغَفلةِ، انتهى.
          قال في ((الفتح)): وأُجيبَ بأنَّ وجهَ دخولِهِ في الشُّفعةِ أنَّ حديثَ أبي رافعٍ يُثبِتُ شُفعةَ الجِوارُ، واستُنبطَ من حديثِ عائشةَ تقديمُ الأقربِ على الأبعدِ للعلَّةِ في مشروعيَّةِ الشُّفعةِ من حصولِ الضَّررِ، والأقربُ أكثرُ ضرراً؛ إذ لو أثبَتناها لكلِّ جارٍ لا سيَّما إذا اعتبَرْنا أربعين داراً من كلِّ جانبٍ.