الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أن رسول الله نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي

          2237-وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) أي: التِّنِّيسيُّ، قال: (أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي: ابنِ الحارثِ بنِ هشامٍ (عن أبي مسعود) هو: عُقْبةُ _بالقاف_ ابنُ عمرٍو (الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم نَهَى) بفتح النون والهاء؛ أي: نهيَ تحريمٍ (عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ) أي: سواءٌ كان معلَّماً أو غيرَه، جاز اقتِناؤهُ أو لا، ولا ضمانَ على مُتلِفِه، وبذلك قال الجمهورُ، وقال أبو حنيفةَ وصاحباه وسُحْنونُ من المالكيَّةِ: يجوزُ بيعُ الكلابِ المنتفَعِ بها في حراسةٍ أو صَيدٍ لحديث جابرٍ عند النَّسائيِّ: ((نهى رسولُ الله عن ثمَنِ الكلبِ إلَّا كلبَ الصَّيدِ)).
          وأُجيبَ: بأنَّ الحديثَ ضعيفٌ باتِّفاق المحدِّثين، ولحديثِ [أنَّ] عثمانَ غرَّمَ إنساناً / ثمَنَ كلبٍ قتلَه عشرين بَعيراً، وأوجبَ ابنُ عمرَ فيه أربعين دِرهماً في الكلبِ المعلَّمِ، وفي كلبِ الماشيةِ شاةً، وفي كلبِ الزَّرعِ فِرْقَ طعامٍ، كذا في ابن بطَّالٍ.
          وقال بعضُ المالكيَّةِ: لا يجوزُ بيعُ الكلبِ المنهيِّ عن اتِّخاذه باتِّفاقٍ، وأمَّا المأذونُ في اتِّخاذهِ، فلا يجوزُ بيعُه على المشهورِ، وجوَّزَه بعضُهم.
          وقال القرطبيُّ: مشهورُ مذهبِ مالكٍ جوازُ اتِّخاذِ الكلبِ، وكَراهةُ بيعِهِ، ولا يُفسَخُ لو وقَعَ.
          (وَمَهْرِ الْبَغِيِّ) عطفٌ على: ((ثمَنِ)) هو: ما تأخذُه الزَّانيةُ على الزِّنا، وسمَّاه مَهْراً لكونِه على صُورتِه، وهو حرامٌ إجماعاً، و((البغِيُّ)) بكسر الغين المعجمة، فعيلٌ أو فَعولٌ بمعنى: فاعلٍ، من البغيِ؛ وهو: الفجورُ، يستوي فيه المذكَّرُ والمؤنَّثُ، وقال الأزهريُّ: لا يُقالُ للرَّجلِ: بغِيٌّ، والجمعُ: بَغايا _بفتح الموحدة_، والمصدر: البِغاءُ _بكسرها وبالمد_، قال تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور:33].
          وأمَّا قولُ ((الفتح)): وجمعُ البغيِّ: بِغايا _بكسر أوله_ فلعلَّه سقَطَ من قلَمِ النَّاسخِ، والمصدَرُ: البِغاءُ _بكسر أوله_؛ لقولِه عقِبَه: الزِّنا والفجورُ، قال: وأصلُ البغيِ: الطَّلبُ، غيرَ أنه أكثرُ ما يُستعملُ في الفساد، انتهى.
          لكن قال في ((النِّهاية)): وأصلُ البغيِ: مجاوزةُ الحدِّ، ومنه: {فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] أي: فإن أطعْنَكم فلا يبقى لكم عليهنَّ طريقٌ، إلا أن يكونَ بَغْياً وجَوراً، ومنه حديثُ ابنِ عمرَ ☻ قال لرجلٍ: أنا أُبغِضُك، قال: لمَ؟ قال: لأنَّك تَبغي في أذانِكَ؛ أرادَ التَّطريبَ فيه والتَّمديدَ، من: بغى: تجاوَزَ الحدَّ.
          وفي حديثِ أبي سلَمةَ: ((قامَ شهراً يُداوي جُرحَه، فدَمَلَ على بغيٍ ولا يَدري به)) أي: على فسادٍ، وفيه: ((امرأةٌ بغِيٌّ دخلَتِ الجنَّةَ في كلبٍ)) أي: فاجرةٌ، وجمعُها: بَغايا، ويقالُ للأمَةِ: بغيٌّ، وإن لم يُرِدْ به الذَّمَّ، وإن كان في الأصلِ ذمًّا، يقال: بغَتِ المرأةُ تَبغي بِغاءً _بالكسر_؛ إذا زنَتْ، فهي بغِيٌّ، جعلوا البِغاءَ على زِنةِ العُيوبِ؛ كالحِرانِ والشِّرادِ؛ لأنَّ الزِّنا عيبٌ، انتهى.
          وفي البابِ أحاديثُ أخرُ، منها ما أخرجَه الترمذيُّ عن رافعِ بنِ خَديجٍ أنَّ رسولَ الله: ((قال كَسبُ الحَجَّامِ خبيثٌ، ومهْرُ البغيِّ خبيثٌ، وثمنُ الكلبِ خبيثٌ)) ومنها ما أخرَجَه الطَّبرانيُّ في ((الكبير)) عن عمرَ بنِ الخطَّابِ أنَّ رسولَ الله قال: ((ثمنُ القَينةِ سُحْتٌ، وغِناؤها حَرامٌ، والنَّظرُ إليها حرامٌ، وثمنُها مثلُ ثمنِ الكلبِ، وثمنُ الكلبِ سُحْتٌ، ومَن نبَتَ لحمُه على السُّحتِ، فالنارُ أَولى به)).
          (وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ) بجرِّ ((حُلْوانِ)) وهو _بضم الحاء المهملة وسكون اللام_ مصدَرُ: حلَوتُه حُلْواناً؛ أعطَيتُه إياه، وأصلُه: من الحَلاوةِ، شُبِّهَ بالشيءِ الحُلوِ لأخذِه حُلواً سَهلاً بلا مشقَّةٍ، يقال: حلَوتُه: أطعَمتُه الحُلوَ، والحُلْوانُ أيضاً: الرَّشوةُ، والحُلْوانُ أيضاً: أخذُ الرجلِ مهرَ ابنتِه مثَلاً لنفسِه، والمرادُ هنا: ما يأخذُه مَن يدَّعي الغَيبُ، ويخبِرُ النَّاسَ عن الكوائنِ والحوادثِ المستقبَلةِ، وكان في العربِ كهَنةٌ يدَّعون أنهم يعرِفون كثيراً من أمور النَّاس، فمنهم مَن كان يزعُمُ أنَّ له تابعاً من الجِنِّ يُلقي إليه الأخبارَ، ويُسمَّى: رَئِياً _بفتح الراء وكسر الهمزة_، ومنهم مَن كان يزعُمُ أنه يعرِفُ الأمورَ بمقدِّماتٍ يستدِلُّ بها على مواقعِها من كلامِ مَن سألَه، أو من فعلِه، أو حالِه، ويُسمَّى: عَرَّافاً، ومنهم مَن كان يدَّعي أنه يستدرِكُ الأمورَ بفَهمٍ أُعطيَه، ومنهم مَن يسمِّي المنجِّمَ كاهِناً، فالحديثُ / شاملٌ لجميعِ هؤلاءِ كما قاله الخطَّابيُّ، وأخذُ المالِ على ذلك حرامٌ بالإجماعِ؛ لِما فيه من أكلِ أموالِ النَّاسِ بالباطلِ.
          قال في ((الفتح)): وفي معنى الكِهانةِ: التَّنجيمُ والضَّربُ بالحَصى، وغيرُ ذلك مما يتعاناه العرَّافونَ من استِطلاعِ الغيبِ.
          والحديثُ أخرجَه المصنِّفُ أيضاً في الإجارةِ والطَّلاقِ والطبِّ، ومسلمٌ وأبو داودَ في البيوعِ، والترمذيُّ في البيع والنِّكاح، والنسائيُّ فيه وفي الصَّيدِ، وابنُ ماجه في التِّجارات، والمطابقةُ فيه ظاهرةٌ في أولِه.