الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: رأيت رسول الله يركب راحلته بذي الحليفة

          1514- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى): أي: أبو عبد الله التَّستري مصريُّ الأصل، لكنه كان يتَّجر إلى تُستُر فنُسِب إليها، قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ): أي: عبد الله المصري (عَنْ يُونُسَ): أي: ابن يزيد الأيلي (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ): ولأبي ذرٍّ زيادة: <ابن عمر>.
          (أَخْبَرَهُ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ): أي: أباهُ (☻ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلعم يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ): أي: ناقتَهُ، وهي في الأصل اسمٌ لما يرحلُ من الإبلِ ذكراً كان أو أنثى (بِذِي الْحُلَيْفَةِ): بضم الحاء المهملة مصغَّر: حلفة، وهي شجرةٌ في الأصل، سُمِّي به الموضعُ الذي جعل ميقاتاً، وتسمِّيه العامَّةُ بأبيار عليٍّ لزعمهم أنَّه قاتَلَ الجنَّ في بئرٍ فيها، وهو أبعدُ المواقيتِ من مكَّة لقربهِ من المدينة، إذ بينهُ وبينها أربعةُ أميال.
          قال العينيُّ: وبذي الحليفة عدَّةُ أبيارٍ ومسجدان لرسولِ الله صلعم: المسجدُ الكبيرُ الذي يُحرِمُ منه الناس، والمسجدُ الآخر مسجد المعرس، وإنما كانت أبعدُ المواقيت من مكَّةَ تعظيماً لأجر النَّبي صلعم.
          (ثُمَّ يُهِلُّ): بضم التحتية أوله، من الإهلالِ، وهو رفع الصَّوتِ بالتلبية عند الإحرامِ بالنِّيَّة (حَتَّى تَسْتَوِيَ): أي: الراحلة، ولأبي ذرٍّ: <حين تستوي> وهي أظهر (بِهِ): أي: رسولُ الله صلعم (قَائِمَةً): حال من فاعل ((تستوي)).
          وغرضهُ من هذا الحديث _كالذي بعده_ الرَّدُّ على مَن زعم أنَّ الحجَّ ماشياً أفضلُ لتقديمه في الذِكْرِ على الراكب، فبيَّن أنه لو كان أفضلَ لفعلهُ رسولُ الله صلعم؛ بدليل أنَّهُ لم يُحرِمْ حتى استوَتْ به راحلتُهُ، ذكرهُ ابن المُنِير.
          وصحَّ في الحدود أنَّها على ستَّة أميالٍ، وجرى عليه في ((القاموس)) وأما قولُ ابنِ الصاغ أنَّها ميلٌ منها غلَّطوه فيه.
          وقال غيره: مناسبةُ الحديث للآية: أنَّ ذا الحليفة فجٌّ عميقٌ، والركوبُ مناسبٌ لقوله تعالى: (({وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ})).
          وقال الإسماعيليُّ: ليس في الحديثين شيءٌ مما ترجم به، وتعقِّب: بأنَّ فيهما الإشارة إلى أنَّ الرُّكوب أفضلُ، وهو مذهبُ الجمهور، فيؤخذُ منه جوازُ المشي، وإنَّما كان الركوبُ أفضل اتِّباعاً للنَّبي صلعم؛ ولأنَّه أعونُ على الدعاء والابتهال إلى الله تعالى، ولزيادة النَّفقةِ وهي فيه كالنفقةِ في سبيلِ الله بسبعمائة ضعفٍ، كما أخرجهُ أحمد عن بريدة.
          ورجَّح جماعةٌ منهم إسحاق بن راهويه وابن جُريجٍ والثوري _وفعلوه_: أنَّ المشيَ في النُّسُك أفضلُ؛ لأنَّه أشقُّ على النَّفس، ولما رواهُ الحاكم وصحَّحه من حديث مرفوعاً: ((مَن حجَّ إلى مكة ماشياً حتى رجع كُتِبَ له بكلِّ خطوةٍ سبعمائةِ حسنةٍ من حَسَناتِ الحرمِ)) قيل: وما حسناتُ الحرم؟ قال: ((كلُّ حسنَةٍ بمائة ألفِ حسنةٍ)).
          وتقدَّم عن ابن عبَّاس: أنه أسفَ على عدم حجِّه ماشياً، وأوصَى بنيه بذلك عند موتهِ كما في ((الإحياء)) فقال: يا بنيَّ، حجُّوا مشاةً، فإنَّ للحاج الماشي بكلِّ خطوةٍ يخطوها سبعمائة حسنة من حسناتِ الحرم.
          وتقدَّم أيضاً: أنَّ آدم حجَّ من الهند ماشياً أربعين سنة، وروي عن مجاهدٍ: أنَّ إبراهيمَ وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام حجَّا ماشيين، وقد حجَّ الحسنُ بن عليٍّ بن أبي طالبٍ خمسةَ وعشرين حجة ماشياً، وإنَّ الجنائب لتقادُ بين يديه، ولما رواهُ الحاكم أيضاً في ((مستدركه)) وقال: صحيحُ الإسناد، عن أبي سعيدٍ الخدري ☺ أنَّه قال: حجَّ رسول الله صلعم وأصحابه مشاةً من المدينة، ثمَّ قال عليه السلام: ((ارْبُطُوا على أَوسَاطِكُم مآزِرَكُم، وامْشُوا مَشياً خلطَ الهروَلَةَ)).
          والأصحُّ وعليه الجمهور: أنَّ الرُّكوبَ أفضلُ لما مرَّ من دليله، وهو أصحُّ، ويمكنُ الجواب عن دليل المفضلين للمشيِ، فافهم.
          وقال في ((الفتح)): ويحتملُ أن يقالَ: يختلف باختلافِ الأحوال والأشخاص. انتهى.
          يعني: لا يطلقُ القول بأفضلية أحدهما؛ لأنَّ الأحوالَ والأشخاص تختلفُ.
          وسبقهُ إلى ذلك الغزاليُّ في ((الإحياء)) فإنَّه قال فيه: قال بعضُ العلماء: الرُّكوبُ أفضلُ لما فيه من الإنفاقِ والمؤنة؛ ولأنَّهُ أبعدُ من ضجر النَّفس، وأقلُّ وأقرب إلى سلامته وتمام حجِّه، وهذا عند أهل التَّحقيق ليس مخالفاً للأول؛ أي: كون المشي أفضلُ.
          قال: بل ينبغي أن يفصِّل ويقال: من سهُلَ عليه المشيُ فهو أفضل، فإن كان يضعفُ ويؤدي ذلك به إلى سوء خلقٍ وقصورٍ عن عملٍ، فالرُّكوب له أفضلُ كالصَّوم للمسافر والمريض. انتهى.
          وحديثُ الباب أخرجهُ مسلمٌ والنسائي.