الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها

          61- وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ): زاد في رواية ابن عساكر: <ابن سعيد> قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) تقدموا (عَنِ ابْنِ عُمَرَ): أي: ابن الخطاب ☻ (قَالَ: / قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم: إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ): بكسر (إِن) لوقوعها في أول الجملة المحكية بالقول ولما كان المخاطبون مستشرفين للجواب استشراف الطالب المتردد حسن تأكيد الجملة بها و (من) جنسية أو للتبعيض و(الشجر) مما يميز بينه وبين واحدة بالتاء كتمرة وتمر وهو ما كان على ساق من نبات الأرض، ويقال فيها: شِجرة _بكسر الشين مع الجيم والياء ئبدلاً عنها_ وكرهها ابن عمر، وقال: يقرأ بها برابر مكة وسودانها.
          وقال الدينوري: من العرب من يقول: شجرة وشِجَرة _فيكسر الشين ويفتح الجيم_ وهي لغة لبني سليم، وأرض شجيراء: كثيرة الأشجار، ولا يقال: وادٍ أشجر، وواحد الشَّجْراء: شَجَرة، ولم يأت على هذا المثال إلا أحرف يسيرة هذه وقصبة وقصباء، وطرفة وطرفاء، وحلفة وحلفاء، وقال أيضاً: الشجراء والقصباء والطرفاء والحلفاء واحد وجمع.
          وقال في ((المصباح)): الشجر ما له ساق صلب يقوم به كالنخل وغيره، الواحدة شجرة ويجمع على شجرات وأشجار، قال: وأرض شجراء: كثيرة الشجر، والمشَجَرة _بفتح الميم والجيم_: موضع الشجر، انتهى.
          (شَجَرَةً) اسم (إن) مؤخر، و(من الشجر) خبر مقدَّم.
          وجملة (لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا): صفة لشجرة مخصصة وقوله: (وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ): بكسر (إِن) لعطفها على الأولى فهي صفة ثانية لشجرة. قاله العيني.
          وأقول: ويجوز أن تجعل الجملة حالية.
          و(مَثَل) بفتحتين هو الرواية هنا، قاله الكرماني لكن نقل في ((الفتح)) أن كسر الميم وإسكان المثلثة رواية أبي ذرٍّ.
          وقال الجوهري: مثل كلمة تسوية يقال: هذا مثله ومثله، كما يقال: شبهه وشبهه، بمعنى والمثَل أيضاً _أي: بفتحتين_: ما يضرب به من الأمثال، ومثل الشيء أيضاً صفته.
          قال العيني: واعلم أن المثل له مفهوم لغوي وهو النظير، ومفهوم عرفي وهو القول السائر ومعنى مجازي: وهو الحال الغريبة واستعير المثل هنا كاستعارة الأسد للمقدام للحال العجيبة، أو الصفة الغريبة، كأنه قيل: حال المسلم العجيبة الشأن كحال النخلة أو صفة المسلم الغريبة، كصفة النخلة، فالمسلم في هذا الحديث وأشباهه هو المشبه به، والنخلة هو المشبه، وفي بعضها بالعكس كحديث البزار وغيره الآتي من قوله صلعم: (مثل المؤمن مثل النخلة).
          وعلى هذا يحمل ما في كلام بعض الشراح: من أن المسلم هو المشبه والنخلة المشبه به، فافهم.
          وأما وجه الشبه فقد اختلفوا فيه فقال بعضهم: هو كثرة خيرها ودوام ظلها وطيب ثمرها ووجودها على الدوام، فإنه من حين يطلع ثمرها لا يزال يؤكل حتى تيبس، وبعد أن تيبس يتخذ منها منافع كثيرة من خشبها وورقها وأغصانها، فتستعمل جذوعاً وحطباً وعصياً ومخاصر وحصراً وحبالاً، وأواني وغير ذلك، مما ينتفع به من أجزائها ثم آخرة نواها ينتفع به علفاً للإبل وغيرها، ثم جمال نباتها وحسن ثمرتها، وهي كلها منافع وخير وجمال، وكذلك المؤمن كله خير من كثرة طاعاته ومكارم أخلاقه ومواظبته على صلاته وصيامه وذكره والصدقة، وسائر الطاعات، هذا هو الصحيح في وجه الشبه.
          وقال بعضهم: وجه الشبه أن النخلة إذا قطع رأسها ماتت بخلاف باقي الشجر.
          وقال بعضهم: لأنها لا تحمل حتى تلقح.
          وقال بعضهم: لأنها تموت إذا غرقت أو فسد ما هو كالقلب لها.
          وقال بعضهم: لأن لطلعها رائحة المني.
          وقال بعضهم: لأنها تعشق كالإنسان.
          وهذه الأقوال كلها ضعيفة من حيث أن التشبيه إنما وقع بالمسلم، وهذه المعاني تشمل المؤمن والكافر.
          وزاد ابن الملقن: وقيل: لأنها فضله تربة آدم وإن كان لا يثبت، وقيل: لعلو فروعها كارتفاع عمل المؤمن. وقيل: لأنها شديدة الثبوت لثبوت الإيمان في قلب المؤمن، انتهى.
          وقال بعضهم: لشبهها بالمؤمن في سبعة أطوار كالآدمي تتم خلقته في سبعة، المشار إليها في الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ} [المؤمنون:12] الآية وأما السبعة فيها فقد جمعها بعضهم في قوله: طاب زبرت.
          وقال في ((الفتح)) مفرقاً: زاد في رواية مجاهد عند المصنف في باب: الفهم في العلم قال: صحبت ابن عمر إلى المدينة فقال: كنا عند النبي صلعم فأتى بجمار فقال: (إن من الشجر) وله عنه في البيوع كنت عند النبي وهو يأكل جماراً فقال: (إن من / الشجر) والجُمَّار _بضم الجيم وتشديد الميم وبالراء في آخره_.
          قال في ((الصحاح)): هو شحم النخل، ووقع عنده في الأطعمة عن ابن عمر قال: بينما نحن عند النبي صلعم إذ أتى بجمار فقال: (إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم) وهذا أعم.
          وقوله: (فَحَدِّثُونِي): أي إن عرفتموها فحدثوني (مَا هِيَ) فجملة (ما هي) من المبتدأ الاستفهام وخبره ساد مسد مفعولي (فحدثوني) الذي هو فعل أمر، وفي قوله: (فحدثوني) مع الروايات التي تقدمت، وستأتي وبمجموعها تحصل المطابقة للترجمة.
          وفي ((المصابيح)): وساق الطحاوي هذا الحديث في معرض الاستدلال على أن الخبر والحديث واحد، ورده ابن المنير: بأنه أطلق فيه الحديث على المشافهة، ولا خلاف عندهم فيه وإنما الخلاف في إطلاقه على البلاغ فقط قال: وأحسن ما يشهد لذلك قول الرجل المؤمن الذي هو يومئذٍ خير أهل الأرض للدجال: (أنت الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله صلعم) وذلك الرجل سمع بلاغاً لا شفاهاً انتهى.
          والمراد بالرجل المؤمن: هو الخضر ◙.
          ووقع عند المصنف في التفسير عن ابن عمر قال: كنا عند رسول الله فقال: (أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها ولا ولا ولا) بذكر النفي ثلاث مرات على طريق الاكتفاء، فقيل في تفسيره: ولا ينقطع ثمرها، ولا يعدم فيئها، ولا يبطل نفعها، ووقع النفي في مسلم مرة فقط فظنَّ إبراهيم بن سفيان الراوي عنه أنه متعلق بما بعده وهو قوله: (تؤتي أكلها) فاستشكله، وقال: لعل (لا) زائدة، ولعله: (وتؤتي أكلها) وليس كما ظنَّ، بل مدخول لا محذوف على سبيل الاكتفاء كما تقرر، وأما قوله: (تؤتي أكلها) فهو كلام مستأنف على سبيل التفسير لما تقدم، ووقع عند الإسماعيلي تقديم (تؤتي أكلها كل حين) على قوله: (لا يتحات ورقها) فسلم من الإشكال، قاله في ((الفتح)).
          (فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي) جمع بادية وفي بعضها: <البواد> بحذف الياء، وهو جائز على قلة؛ أي: تفكر الناس في الجواب فذهبت أفكارهم في أشجار البادية فجعل كل منهم يفسرها بنوع، وذهلوا عن النخلة يقال: وقع الطائر على الشجرة إذا نزل عليها.
          (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ): أي: ابن عمر الراوي (وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ) جملة معطوفة على الجملة الأولى، وسبب ذلك ما بينه المؤلف في ((صحيحه)) من طريق مجاهد عنه أنه قال: (فظننت أنها النخلة من أجل الجمار الذي أتى به).
          وفيه إشارة إلى أن الملغَز له ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال، وأن الملغِز لا ينبغي له أن يبالغ في التعمية بل كلما قربه كان أوقع في نفس سامعه.
          (فَاسْتَحْيَيْتُ): ويقال: استحيت _بياء واحدة_ بمعناه؛ أي: خجلت أن أتكلم وعنده أبو بكر وعمر وغيرهما هيبة منه صلعم وتوقيراً لهم (ثُمَّ قَالُوا) عطفه بثم يشعر بتراخي قولهم.
          (حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ): أي: رسول الله (هِيَ النَّخْلَةُ) زاد المؤلف في رواية مجاهد في باب الفهم في العلم: فأردت أن أقول: هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم. وله في الأطعمة: فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم. وفي رواية نافع: ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم، فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه. وفي رواية مالك عند المؤلف في باب الحياء في العلم: قال عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا. زاد ابن حبان في ((صحيحه)): (أحسبه قال: حمر النعم).
          وهذا الحديث كما قال البزار في ((مسنده)): لم يروه عن النبي صلعم بهذا السياق إلا ابن عمر وحده، ولما ذكره الترمذي قال: وفي الباب عن أبي هريرة، وأشار إلى حديث مختصر لأبي هريرة أورده عبد بن حميد في تفسيره بلفظ: (مثل المؤمن مثل النخلة). وعند الترمذي أيضاً والنسائي وابن حبان من حديث أنس: أنَّ النبي صلعم قرأ: ومثل {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم:24]، قال: هي النخلة). تفرد برفعه حماد بن سلمة، وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما مر امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفي مع بيانه لهم إن لم يفهموه، وقد عقد له الباب التالي لهذا.
          وأما ما رواه أبو داود عن معاوية عن النبي صلعم: (أنه نهى عن الأغلوطات) جمع: أغلوطة، وهي صعاب المسائل فهو محمول / على ما لا نفع فيه، أو ما خرج على سبيل التعنت للمسؤول أو تعجيزه، وفيه التحريض على الفهم في العلم، وسيأتي تبويب المؤلف له بباب الفهم في العلم.
          وأورده المؤلف في تفسيره قوله تعالى: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} [إبراهيم:24] إشارة إلى أن المراد بالشجرة الطيبة النخلة، كما أن المراد بالكلمة الطيبة هي كلمة الشهادتين، وقد ورد صريحاً فيما رواه البزار ابن عمر قال: قرأ رسول الله صلعم: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} [إبراهيم:24] الآية فقال: (أتدرون ما هي؟) قال ابن عمر: لم يخف عليَّ أنها النخلة، فمنعني أن أتكلم مكان سني، فقال رسول الله: (هي النخلة) ويجمع بين هذا وبين ما تقدم لجواز أنه لما أتى بالجمار شرع في أكله تالياً للآية قائلاً: (إن من الشجر شجرة).
          ورواه ابن حبان عن ابن عمر: أن النبي صلعم قال: (من يخبرني عن شجرة مثلها مثل المؤمن أصلها ثابت وفرعها في السماء) الحديث.
          قال القرطبي: موقع التشبيه بينهما من جهة: أن أصل دين المسلم ثابت وأن ما يصدر عنه من العلوم، والخير قوت للأرواح مستطاب، وأنه لا يزال مستوراً بدينه وإنه ينتفع بكل ما صدر عنه حياً وميتاً.
          وقال غيره: المراد بكون فرع المؤمن في السماء رفع عمله وقبوله.
          ورواه البزار أيضاً مختصراً بسند صحيح عن ابن عمر: أنه قال: قال رسول الله صلعم: (مثل المؤمن مثل النخلة ما أتاك منها نفعك).
          وفيه: ضرب الأمثال لزيادة الإفهام وتصوير المعاني لترسخ في الذهن ولتحديده في النظر في الحادثة.
          وفيه: إشارة إلى أن تشبيه شيء بشيء لا يلزم أن يكون نظيره من سائر وجوهه، فإن المؤمن لا يماثله شيء من الجمادات، ولا يعادله.
          وفيه: أن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يدركه من هو دونه لأن العلم مواهب، والله يؤتي فضله من يشاء.
          وفيه: كما قال مالك: أن الخواطر القلبية من محبة الثناء على أعمال الخير لا يقدح فيها إذا كان أصلها لله تعالى.
          وهذا مأخوذ من تمني عمر المذكور ووجه تمني عمر ما طبع عليه الإنسان من محبة الخير لولده كنفسه، ولتظهر فضيلة الولد في الفهم من صغره، وليزداد محبة من النبي صلعم ولعله كان يرجو أن يدعو له إذ ذاك بالزيادة في الفهم، وفيه غير ذلك مما يدرك بالتأمل.