الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله

          1044- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ): أي: القعنبيُّ (عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ): أي: عروة بن الزُّبير (عَنْ عَائِشَةَ): ♦ (أَنَّهَا قَالَتْ: خَسَفَتِ): بفتحاتٍ (الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ): أي: زمنه (صلعم): أي: يوم موت ابنه إبراهيم كما مرَّ (فَصَلَّى): أي: صلاة الكسوف (رَسُولُ اللَّهِ صلعم بِالنَّاسِ): استدلَّ به على أنَّه عليه السَّلام كان يُحافظ على الوضوء، فلهذا لم يحتجْ إليه في تلك الحال.
          ونظر فيه في ((الفتح)) بأنَّ في السِّياق حذفاً، فسيأتي في رواية هشامٍ: ((فخسفت فرجع ضحًى، فمرَّ بين الحُجَر ثمَّ قام يصلي)) وإذا ثبتت هذه الأفعال جاز أن يكون حذف أيضاً: فتوضَّأ.
          (فَقَامَ): أي: رسول الله (فَأَطَالَ الْقِيَامَ): ولابن شهابٍ كما يأتي: ((فاقترأ قراءةً طويلةً)) وفي حديث ابن عبَّاسٍ الآتي: ((فقرأ نحواً من سورة البقرة في الرَّكعة الأولى)) ونحوه لأبي داود وزاد: ((قرأ في القيام الأوَّل من الرَّكعة الثَّانية نحواً مِن آل عمران)) (ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ): أي: بالتَّسبيح، وقدِّر بمائة آيةٍ مِن آيات البقرة المعتدلة (ثُمَّ قَامَ): أي: من الرُّكوع (فَأَطَالَ الْقِيَامَ): أي: لقراءته فيه نحواً من مائتي آيةٍ أو آل عمران، وزاد ابن شهابٍ ثمَّ قال: ((سمع الله لمن حمده)) وزاد أيضاً: ((ربَّنا ولك الحمد))، وفيه دليلٌ على استحباب الذِّكر المشروع في الاعتدال، واستشكله بعض الشافعيَّةِ؛ لأنَّه قيام قراءةٍ لا قيام اعتدالٍ، بدليل اتِّفاق القائلين بزيادة الرُّكوع في كلِّ ركعةٍ على قراءة الفاتحة فيه، وأُجيب: بأنَّ صلاة الكسوف جاءت على صفةٍ مخصوصةٍ، فلا مدخل للقياس فيها.
          (وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ): أي: ثانياً (فَأَطَالَ الرُّكُوعَ): أي: بالتَّسبيح، قال في ((الفتح)): لم أرَ في شيءٍ من الطُّرق بيانَ ما قال فيه، إلَّا أنَّ العلماء اتَّفقوا على أنَّه لا قراءة فيه، وإنما فيه ذكرٌ مِن تسبيحٍ وتكبيرٍ ونحوهما.
          (وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ): وقدَّروه بثمانين آيةٍ معتدلةٍ (ثُمَّ سَجَدَ): لم يذكر الاعتدال الثَّاني اكتفاءً بما هو المعلوم مع أنَّ في: ((ثمَّ سجد)) إشارةً إليه، وقال في ((الفتح)): لم يقع في هذه الرِّواية ذكر تطويل الاعتدال الَّذي يقع السُّجود بعده، ولا تطويل الجلوس بين / السَّجدتين، وسيأتي البحث فيه في باب طول السُّجود. انتهى.
          وأقولُ: لم يتعرَّض للاعتدال الثَّاني فضلاً عن تطويله، وكذا الجلوس بين السَّجدتين، فتدبَّر.
          (فَأَطَالَ السُّجُودَ): أي: بقسمَيه، فالسُّجود نحو الركوع الأوَّل، والثاني كالثَّاني، فلا يُقال: ترك السُّجود الثَّاني (ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ): ولأبوي ذرٍّ والوقت وابن عساكر: <في الرَّكعة الأخرى> (مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الأُولَى): أي: من إطالة الرُّكوع، ووقع ذلك مفسَّراً في تفسير آل عمران، وقدَّروه في القيام الثَّالث: سبعين آيةً، وفي الرَّابع: بخمسين تقريباً لثبوت التطويل من الشَّارع بلا تقديرٍ، لكن قال الفاكهانيُّ: في بعض الرِّوايات تقدير القيام بنحو سورة البقرة، والثَّاني بنحو آل عمران، والثَّالث بنحو النِّساء، والرَّابع بنحو المائدة، واستشكل تقدير الثَّالث بنحو النِّساء، مع أنَّ المختار أنَّ القيام الثَّالث ينبغي أنَّه أقصر مِن الثَّاني، والنِّساء أطول مِن آل عمران، وأُجيب: بأنَّه يُمكِن توجيهه بأنَّ الثاني لمَّا تبع الأوَّل طال على الثَّالث، وهو على الرَّابع، ويؤيِّده ما يأتي في الرُّكوع. انتهى.
          وقد روى الدارقطنيُّ عن عائشة: أنَّه قرأ في الأولى العنكبوت والرُّوم، وفي الثَّانية بسورة يس، على أنه تقدَّم أن هذه الصلاة جاءت على صفةٍ مخصوصةٍ فلا مدخل للقياس فيها، فتدبَّر.
          (ثُمَّ انْصَرَفَ): أي: النبيُّ صلعم (وَقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ): بنونٍ ساكنةٍ بعد همزة الوصل، ولأبي ذرٍّ: <تجلَّت>: بمثناةٍ أوَّله وتشديد اللام؛ أي: عاد نورها (فَخَطَبَ النَّاسَ): أي: خطبتين كالجمعة في أركانهما وسننهما دون شرائطهِمَا، كما في خطبة العيد، فتصحُّ من غير طهارةٍ مثلاً (فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ): زاد النسائيُّ من حديث سمرة: ((وشهدَ أنَّه عبدُ اللهِ ورسولُه)).
          قال في ((الفتح)): فيه مشروعيَّة الخطبة للكسوف، والعجب أنَّ مالكاً روى حديث هشامٍ هذا وفيه التَّصريح بالخطبة ولم يقل به أصحابه، واستدلَّ به على أنَّ الانجلاء لا يُسقِط الخطبة، بخلاف ما لو انجلت قبل الشُّروع في الصَّلاة، فإنها تسقط والخطبة. انتهى.
          وقال العينيُّ: ليس ذلك بعجبٍ، فإنَّ مالكاً وإن كان رواها لكنَّه لم يقل بها وتبعَه أصحابه، وهو أيضاً قول أبي حنيفة وأحمد قالوا: لأنَّ النبيَّ أمرهم بالصَّلاة والتَّكبير والصَّدقة، ولم يأمرهم بالخطبة، فلو كانت سنَّةً لأمرهم بها، وإنَّما خطب عليه السَّلام ليُعلِمهم حكمها، وكأنَّه مختصٌّ به، وقيل: الخطبة ليست للصَّلاة، بل ليردَّهم عن قولهم: كسفت الشَّمس لموت إبراهيم، وسيأتي في باب خطبة الإمام في الكسوف.
          (ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَنْخَسِفَانِ): بنونٍ ساكنةٍ بعد التحتيَّة المفتوحة وبالخاء المعجمة، ولأبي ذرٍّ وابن عساكر: <لا يخسفان> بإسقاط النُّون (لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ): بل لتخويف العباد (فَادْعُوا اللَّهَ): نسب هذه في ((الفتح)) للكشميهنيِّ وللحموي والمستملي بدله: <فاذكروا الله> (وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا): أي: كما علمتم (وَتَصَدَّقُوا): وفيه المطابقة للتَّرجمة، والأمر بها يصدق بالقليل والكثير، لكنَّ الواجب التصدُّق بأقلِّ متموَّلٍ إذا أمر بها الإمام نظير ما في الاستسقاء، وقد يدخل العتق في الصَّدقة، فإنَّه مأمورٌ به أيضاً.
          (ثُمَّ قَالَ): أي: النبيُّ عليه السَّلام (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ): فيه القسم لتأكيد الخبر وإن كان السَّامع غير شاكٍّ ولا مرتابٍ، وناداهم ليقبلوا عليه، وأضافهم إلى ((محمَّدٍ)) للتَّشريف، وليحملهم على التَّوبة والرُّجوع فافهم.
          (مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ): ((ما)): نافيةٌ، و((من)): زائدةٌ لوجود شرطها، و((أحد)): مجرورٌ لفظاً مرفوعٌ محلًّا على أنَّه اسم ((ما)) إن جعلتها حجازيَّةً، أو على أنَّه مبتدأٌ إن جعلتها تميميةً، و((أغيرَ)): بالغين المعجمة، منصوبٌ بالفتحة على أنَّه خبر ((ما)) الحجازيَّة، أو مخفوضٌ بها نيابةً عن الكسرة على أنَّه صفةٌ / لـ((أحد)) على لفظه، أو على أنَّه صفةٌ لـ((أحد)) باعتبار محلِّه، أو مرفوعٌ على أنَّه خبر ((أحد)) إن جعلت ((ما)) تميميَّةً، وعلى جعله صفةً لـ((أحد)) على لفظه، أو محلُّه خبر ((ما))، أو المبتدأ محذوفٌ يقدَّر منصوباً أو مرفوعاً، فيقدَّر موجوداً أو موجودٌ، والأولى عدم الحذف؛ لأنَّه خلاف الأصل، ولا ضرورة إليه.
          ولم يبيِّنِ الشارحون أنَّ ضمَّ ((أغير)) وفتحه روايةً أو عربيَّة، وعلى أنَّهما الرِّواية، فلم يبيِّنوا أنَّ رواية فلانٍ كذا ورواية فلانٍ كذا، فلينظر.
          و((من الله)): متعلِّقٌ بـ((أغير))، وكذا ((أن يزني)): فإنَّه مجرورٌ بمن مقدَّرةً، فإنَّه يطرد حذفها مع أن وإن، ولعلَّ مِن المقدَّرة تعليليَّةٌ، وليس هي الجارَّة للمفضل عليه كما قد يُتوهَّم، ويحتمل تقدير الجارِّ في؛ أي: في حال زنا عبده... إلخ.
          و((أغير)): أفعل تفضيلٍ، ممنوعٌ من الصَّرف للوصفيَّة ووزن الفعل، مشتقٌّ من الغَيرة _بفتح الغين المعجمة وسكون التحتيَّة_ مصدر غار الرَّجل على أهله يغار غيراً وغيرةً وغاراً، ورجلٌ غيورٌ، وامرأةٌ غَيْرَى كسَكْرَى، وهي هيجان الغضب، وتغيرُ يحصل من الحميَّة والأَنَفة، وأصلُها في الزَّوجين والأهل، وذلك محالٌ على الله تعالى، فيُحمل على المجاز، وهو غاية إظهار غضبه على الزَّاني، أو هو استعارةٌ مصرَّحة تبعيَّةٌ، شبَّه حالة ما يفعل الله تعالى مع عبده الزَّاني من الانتقام وحلول العقاب بحالة ما يفعله السَّيِّد بعبده من الزَّجر والتَّعزير، قاله الكرمانيُّ.
          وقال في ((الفتح)): قيل: لمَّا كانت ثمرةُ الغيرة صونَ الحريم ومنعَهْم وزجْرَ مَن يقصد إليهم؛ أطلق عليه ذلك لكونِه منعَ مِن فعل ذلك وزجر فاعله وتوعَّده، فهو من باب تسمية الشَّيء بما يترتَّب عليه، وقال ابن فورك: المعنى ما أحدٌ أكثر زجراً عن الفواحش من الله تعالى، وقال ابن دقيقٍ العيد: أهل التَّنزيه في مثل هذا على قولين؛ إمَّا ساكتٌ وإمَّا مؤوِّلٌ، على أنَّ المراد بالغيرة: شدَّة المنع والحماية، فهو من مجاز الملازمة، ومجاز الملازمة يحتمل تأويلين؛ إمَّا إطلاق اللَّازم على الملزوم أو بالعكس، وقيل: والزِّيادة هنا حقيقةٌ؛ لأنَّ صفات الأفعال حادثةٌ عندنا تقبل التفاوت، أو يؤوَّل بإرادة الانتقام لتكون من صفات الذَّات، أو التَّفضيل هنا مجازيٌّ؛ لأنَّ القديم لا يتفاوت إلَّا أن يُراد باعتبار التَّعليق، فتدبَّر.
          ووجه اتِّصال هذا المعنى بما قبله من قوله: ((فاذكروا الله))... إلخ من جهة أنَّهم لمَّا أُمروا باستدفاع البلاء بالذِّكر والدُّعاء والصَّلاة والصَّدقة ناسب ردعهم عن المعاصي الَّتي هي من أسباب جلب البلاء، وخصَّ منها الزِّنا لأَّنه أعظمها في ذلك والنَّفس إليه أميل، وقيل: لمَّا كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدِّها تأثيراً في إثارة النُّفوس وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام مِن مؤاخذة ربِّ الغيرة وخالقها تعالى.
          وصدَّر عليه السَّلام كلامه باليمين لإرادة التَّأكيد للخبر وإن كان لا يرتاب في صدقه، ولعلَّ تخصيص العبد والأمة بالذِّكر رعايةً لحسن الأدب مع الله تعالى لتنزُّهه عن الزَّوجة والأهل ممَّن تتعلَّق بهم الغيرة، قاله الطِّيبيُّ، ثمَّ قال: ويُؤخذ من قوله: ((يا أمَّة محمَّدٍ)): أنَّ الواعظ ينبغي له حال وعظه أن لا يأتي بكلامٍ فيه تفخيمُ نفسِه، بل يبالغ في التَّواضع؛ لأنَّه أقرب إلى انتفاع مَن يسمعه.
          ثمَّ كرَّر النِّداء والقسم فقال: (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ): تأكيداً وطلباً لإقبالهم ليتعظوا، وقال في ((الفتح)): قيل: في النِّداء معنى الإشفاق كما يخاطب الوالد ولده إذا شفق عليه بقوله: يا بنيَّ، وكان / قضيَّة ذلك أن يقول: يا أمَّتي، لكن لعدوله إلى المظهر حكمةٌ، وكأنَّها بسبب كون المقام مقامَ تحذيرٍ وتخويفٍ لِما في الإضافة إلى الضَّمير من الإشعار بالتَّكريم كقوله: ((يا فاطمة بنت محمَّدٍ، لا أُغنِي عنكِ من اللهِ شيئاً)).
          (وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ): أي: من عظمته تعالى وعظيم قدرته وانتقامه من أهل الجرائم، وقيل: معناه: لو دام علمكم كما دام علمي؛ لأنَّ علمه صلعم متواصلٌ، وقيل: معناه: لو علمتم من سعةِ رحمةِ الله وحلمه وغير ذلك كما أعلمُ لبكيتم على ما فاتكم من ذلك، وقيل: معناه: لو علمتُم من أهوالِ القيامة وأحوالِها كما أعلمه (لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً): قيل: معنى ((قليلاً)) هنا: العدم على ما يقتضيه السِّياق كقول الشاعر:
قَلِيلُ التَّشَكِّي للمُهِمِّ يُصِيبُهُ
          وقيل: هو على ظاهره كما قاله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82] والتَّقدير: لتركتم الضَّحك أصلاً، أو لم يقع منكم إلَّا نادراً لغلبة الخوف واستيلاء الحزن، وحكى ابن بطَّالٍ عن المهلَّب: أنَّ سبب ذلك ما كان عليه الأنصار من محبَّة اللَّهو والغناء، قال في ((الفتح)): وأطال في ذلك بما لا دليل عليه، ومِن أين له أنَّ المخاطب بذلك الأنصار دون غيرهم والقصَّة في أواخر زمنه عليه السَّلام، حيث امتلأت المدينة بأهل مكَّة ووفود العرب، وبالغ الزَّين ابن المنيِّر في الرَّدِّ عليه والتَّشنيع.
          وفي الحديث: ترجيح التَّخويف في الخطبة على التَّوسُّع بالتَّرخيص؛ لِما في التَّرخيص من ملائمة النُّفوس لما جُبِلت عليه من الشَّهوة، وهو عليه السَّلام بمنزلة الطَّبيب الحاذق، يقابل العلَّة بما يضادُّها لا بما يزيدها، وفيه: دليلٌ على أنَّ للصَّلاة هيئةً تخصُّها من التَّطويل الزَّائد على المعتاد في القراءة وزيادة ركوعٍ، وتقدَّم ذلك مع بيان مذاهب العلماء في باب الصَّلاة لكسوف الشَّمس.
          وفي الحديث من الفوائد غير ما مرَّ: المبادرة بالصَّلاة والخطبة، والزَّجر عن كثرة الضَّحك، والحثُّ على كثرة البكاء، والتَّحقُّق بما يصير إليه المرء من الموت والفناء، والاعتبار بآيات الله، والرَّدُّ على من زعم أنَّ للكواكب تأثيراً في الأرض لانتفائه عن الشَّمس والقمر، فكيف بما دونهما؟
          قال الخطَّابيُّ: كانوا في الجاهليَّة يعتقدون أنَّ الكسوف يُوجِب حدوث تغيُّراتٍ في العالم من موتٍ وضررٍ ونحوه، على ما يذهب إليه المنجِّمون من إعطائهم الأحكام للنُّجوم وزعمِهم أنَّ السُّفليات مربوطةٌ بالنُّجوم، وأنَّ لها تأثيراً فيها، فأعلم النَّبيُّ أنَّه باطلٌ، وأنَّهما آيتان من آيات الله يُريهما خلقَه ليعلموا أنَّهما خلقان مسخَّران لله تعالى، ليس لهما سلطانٌ في غيرهما، ولا قدرة لهما على الدَّفع عن أنفسهما، وأنَّهما لا يستحقَّان أن يُعبَدا كما قال تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت:37] فلهذا أمر عند كسوفهما أن يفزع إلى الصَّلاة، والسُّجود لله تعالى دونهما إبطالاً لقول الَّذين يعبدونهما.
          ويحتمل أن يكون الأمر بالصَّلاة عند التَّضرُّع إلى الله في دفع الآفات التي تتوهَّمها الأنفس تحقيقاً لإضافة الحوادث كلِّها إليه تعالى ونفياً لها عن الشَّمس والقمر، وإبطالاً لأحكامهما، وقيل: لأنَّهما من آيات الله الدَّالَّة على قرب القيامة وأشراطها من قوله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَخَسَفَ الْقَمَرُ. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة:7-9] كلُّ ذلك ليخوِّف الله تعالى عبادَهُ فيتوبوا ويستغفروا من الخطايا، قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]. / انتهى.
          وقال في ((الفتح)): وحمل بعضهم الأمر في قوله تعالى: {وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} على صلاة الكسوف؛ لأنَّه الوقت الذي يُناسب الإعراضَ عن عبادتهما، لِما يظهر فيهما من التَّغيير والنَّقص المنزَّه عنه المعبود جلَّ وعلا. انتهى، وأتى بضمير: {خَلَقَهُنَّ} جمعاً لرجوعه إلى الشَّمس والقمر واللَّيل المذكورات أوَّل الآية بقوله: {وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}.
          وقال ابن الطَّيِّب: إن قال قائلٌ: أليس رؤية الأهلَّة وحدوث الحرِّ والبرد وكلُّ ما أجرى الله العادة بحدوثه على وتيرةٍ واحدة آياتٌ؟ فما معنى التَّخصيص بهما أنَّهما آيتان من آيات الله؟ فالجواب: أنَّ كلَّها آياتُ الله ودالَّةٌ على قدرته، غير أنَّه صلعم إنَّما خصَّهما لشرفهما بأنَّهما آيتان لإخباره لهم عن ربِّه بأنَّ القيامة تقوم وهما منكسفان، فأمرهم بالتَّوبة والصَّلاة ونحوهما خوفاً مِن أن يكون الكسوف لقيام السَّاعة، قال المهلَّب: وكان هذا قبل أن يُعلِمه الله بأشراط السَّاعة ومقدِّماتها.