الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله

          ابتدأ المصنف ⌂ بقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم) على ما في روايتي أبي ذرٍّ والأصيلي، اقتداء بالقرآن العظيم، وعملاً بقول النبي الكريم: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر)، وفي رواية: (فهو أقطع)، وفي أخرى: (فهو أجذم) رواه أبو داود وغيره، عن أبي هريرة ☺، وحسنه ابن الصلاح وغيره.
          ورواه الخطيب في (جامعه) عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر)، وفي رواية له: (كل أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع).
          ورواه الحافظ عبد القادر الرهاوي في (أربعينه) عن أبي هريرة ☺ بلفظ: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع).
          وهذه الأحاديث وإن لم تكن على شرط المؤلف قد اعتضدت بالقرآن والإجماع، ولأن ما هنا كالترجمة، وسيأتي له كثيراً: أن الحديث إذا لم يكن على شرطه يورده ترجمة، ولا تنافي هذه الأحاديث ما رواه أيضاً أبو داود وغيره وحسنه ابن الصلاح وغيره من قوله صلعم: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع). وما رواه النسائي والبيهقي عن أبي هريرة بهذا اللفظ، لكن بإسقاط فهو.
          وما رواه أبو داود والنسائي بلفظ: (كل كلام لا يبدأ بحمد الله فهو أجذم). وما رواه أبو داود أيضاً وابن ماجه والدارقطني في (سننهم) والنسائي في (عمل اليوم والليلة) وأبو عوانة وابن حبان في (صحيحيهما) عن أبي هريرة رفعه بلفظ: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم).
          قال ابن الملقن: وهو حديث صحيح؛ إما لتعارض المقيدين أعني: حديثي ببسم الله، وبالحمد لله، فيتساقطان فيبقى العمل بالمطلق / وهو حديث بذكر الله، وإما لأن المراد بذلك ما يدل على الثناء عليه تعالى، وهو حاصل بالبسملة والحمدلة، وإما لأن الابتداء حقيقي وإضافي، وإما لأن الباء في أحدهما للاستعانة وهي لا تنافي الابتداء بغير كلام المؤلف، وإن لم يبدأ بالحمد خطاً، لكن الظاهر أنه ابتدأ به لفظاً، حملاً له على الأكمل.
          وقال بعضهم: أول شيء نزل من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] فطريق الناسي به الابتداء بالبسملة والاقتصار عليها.
          وقال العيني: ذكر بعضهم أنه بدأه بالبسملة للتبرك؛ لأنها أول آية في المصحف، أجمع على كتابتها الصحابة ♥.
          قلت: لا نسلم أنها أول آية في المصحف، وإنما هي أول آية من القرآن؛ أنزلت للفصل بين السور، وهذا مذهب المحققين من الحنفية، وهو قول ابن المبارك وداود وأتباعه، وهو المنصوص عن أحمد على أن طائفة قالوا: إنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل، وهو قول مالك وبعض الحنفية وبعض الحنابلة، انتهى.
          وأقول: لا يخفى ما في قوله: لا نسلم أنها أول آية في المصحف...الخ، إذ الذي أثبته عين ما نفاه أو مستلزم له، وكأنه فهم من ذلك أنها آية من السورة، وقدموا عليه قوله: أنزلت للفصل بين السور، وليس في كلام القائل ما يفيد ذلك، فتأمله وأنصفاً.
          ثم رأيت في نسخة: وإنما هي آية من القرآن بإسقاط أول، وعليها فلا يرد ما أوردناه، نعم يرد على قوله: أنزلت للفصل أنه لا يشمل بسملة الفاتحة، فافهم.
          وقد ذكرنا ما فيها من الأقوال محرراً في ((إسعاف الطالبين بتفسير كتاب الله المبين)) أن الراجح ما عند الشافعية أنها آية من أول كل سورة حتى الفاتحة، بل نقل النووي في ((شرح المهذب)): أنه لا خلاف في أنها آية كاملة من الفاتحة فراجعه.
          تتمة نقل اللقاني في ((شرح جوهرته)) عن العلامة أبي بكر التونسي: إجماع كل ملة على أن الله سبحانه افتتح جميع كتبه: ببسم الله الرحمن الرحيم انتهى. فليتأمل التوفيق بينه وبين ما في ((المواهب المدينة)) عن بعضهم أنه قال: لم ينزلها الله تعالى على أحد من الأمم قبلنا إلا على سليمان بن داود ♂، فهي مما اختصت به هذه الأمة، انتهى.
          والباء متعلقة بمحذوف تقديره: أؤلف أو تأليفي مثلاً، فهي غير زائدة على الصحيح، وهي للمصاحبة، وقيل: للاستعانة، وذلك المحذوف يقدر اسماً مقدماً عند البصريين، وفعلاً كذلك عند الكوفيين على ما قاله بعض الشراح، والمشهور العكس عن الفريقين، وقدره بعضهم اسماً مؤخراً، والزمخشري وطائفة غيره فعلاً كذلك، وكل منها إما خاص أو عام، والباء للمصاحبة أو للاستعانة كما مر، فالأقسام ستة عشر حاصلة من ضرب اثنين في ثمانية.
          وأولى وجوه المتعلق: كونه فعلاً مؤخراً خاصاً.
          أما الأول: فلأنه الأصل في العمل.
          وأما الثاني: فلأن اسم الله تعالى أشرف، ولأن تقديمه أدل على الاختصاص، وأدخل في التعظيم، وأوفق الموجود، فإن اسمه تعالى مقدم على القراءة.
          وأما تقديم المتعلق في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] على القول بتعلقه بـ{اقْرَأْ} السابق: فلأن الأهم تمم القراءة، ومن ثم ظهر فعلها.
          وأما الثالث: فلأن كل فاعل يضمر في فعله ما جعلت التسمية مبدأ له فهو أولى من أبدأ؛ لعدم ما يطابقه، ويدل عليه ومن ابتدائي لزيادة الإضمار فيه، فليتأمل.
          واعترض: بأن تقدير ابتدأ هو المختار؛ لأنه يصح في كل موضع، ولأن تقدير فعل الابتداء هو المقصود من البسملة، إذ الغرض منها: أن تقع مبتدأة موافقة لحديث: (كل أمر ذي بال لا يبدأ). فينبغي أن يقدر في كل موضع فعل الابتداء؛ لأن الحض عليه قد ورد به الحديث، وأيضاً فالبسملة مشروعة مختصة بالابتداء، فوجب أن يقدر لها فعله.
          وأجيب: بأن تقدير: اقرأ مثلاً أولى وأتم شمولاً؛ لاقتضائه أن التسمية واقعة على القراءة كلها مصاحبة لها، بخلاف تقدير ابتدأ مثلاً، فإنه يقتضي بظاهره مصاحبتها لأول القراءة دون باقيها، وكون الغرض أن تقع التسمية مبتدأ بها نقول به، وهو يحصل بالبداءة بها، لا بإضمار فعل الابتداء، والحديث لم يقل فيه: كل أمر ذي بال لا يذكر فيه ابتدأ أو أقرأ، وإنما معناه: طلب إيقاعها بالفعل في البدء، فالحديث إنما يقتضي الإتيان بها أولاً دون أمر آخر.
          والاسم: مشتق من السمو / عند البصريين، ومن السمة عند الكوفيين، فوزنه أفع أو أغل، وقيل: أفل.
          وفي ((المغني)) في الباب الخامس: أن بعضهم قال: أصل بسم _بكسر السين أو ضمها_ على لغة من قال: سِم أو سُم، ثم سكنت السين؛ لئلا يتوالى كسرات، أو لئلا يخرجوا من كسر إلى ضم، والأولى قول الجماعة: أن السكون أصل وهي لغة الأكثرين، انتهى.
          تنبيه: لغات الاسم ثمانية عشر مجموعة في قول سبط الطبلاوي ⌂:
سم سمات سماً واسم وزد سمة                     كذا سماء بتثليث لأولها
          أو إحدى وعشرون مجموعة في قول بعضهم:
يا طالباً للغات الاسم فابتغها                     في فرد بيت بديع الحسن مكملها
اسم سم سمة وسم سمات سما                     ومد هذا وتثليث لأولها
          وإضافة الاسم إلى الله من إضافة العام إلى الخاص كشجر الأراك.
          وقيل: الاسم مقحم جيء به للإرشاد إلى حسن الأداء، إذ في إسقاطه إبهام القسم الصريح، وإلا فهو كناية في القسم. وقيل: الاسم بمعنى التسمية، أعني ذكر الاسم، وقيل: هو على حذف مضاف تقديره: باسم مسمى الله، وفيه أنه لا حاجة إليه؛ لأن الحكم على اللفظ حكم على مدلوله إلا لقرينه، فتدبر.
          ومنشأ هذا الاختلاف اختلافهم في أن الاسم عين المسمى أو غيره أولاً ولا، والأول نسب للأشعري، والثاني رأي المعتزلة، واختاره الرازي والجعبري.
          والثالث هو المشهور عن الأشعري، ولا يرد عليه أن الغيرية عندهم نقيض الهوية، فلا يعقل كون الشيء مع الشيء لا هو ولا غيره، بل الغير أن شيئاً ليس أحدهما الآخر لما قاله الرازي من أن قول الأشعري لا هو ولا غيره اصطلاح له مبني على تخصيص الغيرين بما يجوز انفكاكها، كما خص العرف الدابة بذوات الأربع، أو لما قاله العضد من أن معنى لا هو بحسب المفهوم ولا غيره بحسب الذات. وقيل: كون الاسم لا عين المسمى ولا غيره هو مذهب أهل الرأي.
          لكن قال في ((التصريح)): وهو رأي أهل النقل ويعزى للإمام مالك، وفيه أيضاً: والتحقيق أن الخلاف لفظي، فإن الاسم إن أريد به اللفظ فهو غير المسمى قطعاً، وإن أريد به الذات فهو عينه، لكن لم يشتهر بهذا المعنى وكذا إذا أطلق، وإن أريد به الصفة بمعنى الأمر المحمول على الذات حمل الاشتقاق كان تارة غيراً كالخالق، وتارة عيناً كالله، وتارة لا ولا كالعالم.
          وقال الرازي: إنا لم نجد شيئاً معتداً به في النزاع أن الاسم عين المسمى أو غيره، أولاً ولا، انتهى.
          قيل: والحاصل أن من قال أن الاسم عين المسمى ليس مراده أنه كذلك دائماً، بل إذا كان الحكم مناسباً للمسمى فقط كما في: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1].
          وأن من قال: إنه غيره أراد أنه قد يكون غير المسمى إذا كان الحكم مناسباً للاسم دون المسمى نحو: {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] انتهى. وفيه مع أنه غير شامل ما في البيضاوي قال في {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1]: نزه اسمه عن الإلحاد، وفيه بالتأويلات الزائغة، وإطلاقه على غيره زاعماً أنهما فيه سواء، وذكره لأعلى وجه التعظيم.
          وقال في بسم الله الرحمن الرحيم: والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى؛ لأنه يتألف من أصوات غير قارة، ويختلف باختلاف الاسم والأعصار، ويتعدد تارة ويتحد أخرى، والمسمى لا يكون كذلك، وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمى، لكن لم يشتهر بهذا المعنى وقوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن:78] المراد به اللفظ؛ لأنه كما يجب تنزيه ذاته وصفاته عن النقائص تجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب، أو الاسم مقحم كما في قوله: {إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة:240].
          ثم اسم السلامة عليكما وإن أريد به الصفة كما هو رأي الأشعري انقسم انقسام الصفة عنده إلى ما هو نفس المسمى، وإلى ما هو غيره، وإلى ما هو ليس هو ولا غيره، انتهى.
          وقال الدماميني في ((شرح المغني)) في الباب الخامس: هنا سؤال مشهور وهو أن المقصود بالتسبيح هو الرب تعالى لا اللفظ الدال عليه، فكيف علق التسبيح بالاسم؟!
          والجواب: بأنه صلة مردود بأن زيادة الأسماء لم تثبت.
          وأجاب الفراء: بأنه إنما تعلق التسبيح بالاسم، وإن كان غير المسمى؛ لأنه كما يجب تنزيه / ذاته وصفاته عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب.
          واعترض السهيلي على الفراء من وجهين:
          أحدهما: أنه لم يرو عنه صلعم أنه قال في تسبيحه: سبحان اسم ربي الأعلى مع كثرة تسبيحه، فدل على أن المقصود بالتسبيح المسمى، والاسم مذكور لحكمة أخرى.
          والثاني: أنه يلزمه أن يطلق على الاسم التكبير والتحميد وغير ذلك من المعاني المقصود بها الله تعالى، فنقول: كبرت اسم ربي مثلاً، وذلك مما أجمع المسلمون على تركه.
          والجواب السديد: أن الذكر على الحقيقة محله القلب، والتسبيح نوع من الذكر، فلو أطلق التسبيح والذكر؛ لما فهم منهما إلا ذلك دون اللفظ باللسان، والله تعبدنا بالأمرين جميعاً، ولم يتقبل من الإيمان إلا ما كان قولاً باللسان واعتقاداً بالجنان، فصار معنى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} [لأعلى:1] {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} [المزمل:8] اذكر ربك، وسبح ربك بقلبك ولسانك.
          ولذا أقحم الاسم تنبيهاً على أنه لا يخلوا الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان؛ لأن الذكر بالقلب متعلقه المسمى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه، والذكر باللسان متعلقه اللفظ مع ما يدل عليه من المعنى، فقد وضحت الحكمة التي من أجلها أقحم الاسم، وبه كملت الفائدة، انتهى كلام السهيلي.
          ثم قال الدماميني: وفيه بحث ولم يبينه.
          وقال الشمني: أقول: إذا كان مراد القائل ما قاله البيضاوي في تفسير الآية من أن المراد بتنزيه الألفاظ الموضوعة لذاته وصفاته تنزيهها عن التأويلات الزائغة، وعن إطلاقها على غيره زاعماً أنهما فيه سواء عن ذكرها لا على وجه التعظيم؛ اندفع كل من اعتراضي السهيلي، انتهى فتدبره.
          وقال القسطلاني: واختلف هل الاسم عين المسمى أو غيره أولاً ولا؟
          واستدل القائلون بالأول بنحو: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] فأمر بتسبيح الاسم، والمسبح هو المسمى.
          وأجيب: بأنه أشرب سبح مثلاً اذكر، وتخفيف ذلك أن الذات هو المسمى والزائد عليها هو الاسم.
          فإذا قلت: عالم، فهناك أمران: ذات وعلم، فالذات المسمى والعلم الاسم.
          فإذا فهم هذا؛ فالأسماء منها ما هو عين المسمى مثل موجود وقديم وذات، فإن الموجود والقديم عين الذات، ومنها ما هو غيره مثل خالق ورازق وكل صفات الأفعال، فإن الفعل الذي هو الاسم غير الذات، ومنها ما هو لا عين عنه ولا غيره مثل: عالم وقادر وكل الصفات الذاتية، فإن الذات التي هي المسمى لا يقال: إن العلم الذي هو الاسم غيرها ولا عينها، هذا تحقيق ما قاله الأشعري، وما نقل عنه من خلافه فهو خبط، انتهى فتأمل.
          تنبيه: قال السعد التفتازاني: المشهور فيما بين الأكثرين: أن محل الخلاف في الاسم بمعنى الكلمة المركبة من الهمزة والسين والميم؛ لأن تمسكات الفريقين تشعر بذلك؛ لأن القائلين بأن الاسم عين المسمى وهم أكثر الأشاعرة تمسكوا بمثل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] وبقوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ} [يوسف:40].
          والقائلين بأن الاسم غير المسمى: تمسكوا بنحو قوله تعالى: {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110].
          لكن ما ذكروه من أن الاسم قد يكون عين المسمى نحو لفظ الجلالة من الجوامد، وقد يكون غيره كالخالق من صفات الأفعال؛ لدلالته على صفة زائدة على الذات ينفك أثرها، وقد لا يكون عينه ولا غيره كالعالم من صفات الذات، فإنه دال على صفة زائدة على الذات لا ينفك أثرها مشعر بأن محل الخلاف فيما يصدق عليه الكلمة من الأسماء بالنسبة لمسمياتها لا خصوص لفظ اسم، واستشكل بأنه حيث أريد ذلك كيف ساغ وقوع الاختلاف والاشتباه بين الأئمة؟!
          وأجيب: بأنه لما كان الاسم كزيد قد يراد به لفظه نحو: زيد ثلاثي، وقد يراد به مدلوله نحو: زيد كاتب؛ وقع الاختلاف والاشتباه فيه، وحينئذٍ فالخلف لفظي، كما مرَّ.
          والله: علم على الذات المعبود بالحق، وهذا الوصف ونحوه كواجب الوجود معين للذات، لا جزء المسمى، خلافاً لشيخ الإسلام حيث قال: إذا جعل لفظ الجلالة اسماً للذات من حيث هي هي غير معقول، انتهى فليتأمل.
          وقال الشيخ الأكبر قدس الله سره: لفظة الجلالة عند المحققين دليل للذات لا غير، ومن ثم لم يكن التخلق / بمدلولها بخلاف بقية أسمائه تعالى، فإنها يمكن التخلق بها؛ لدلالتها على الصفات بأن تنسب للعبد على ما يليق به كما تنسب إليه تعالى على ما يليق به.
          وفي ((منير التوحيد)) للنجم الغزي: قال بعض العارفين: الله اسم الجمع، فلا ينكشف إلا لأهل الجمع، انتهى.
          وقيل: هو وصف مشتق من أله _بفتحتين_ مصدر أله كفرح إذا تحير، وقيل: أصله لاها بالسريانية، فعرب بحذف ألفه الأخيرة وإدخال أل عليه أولاً، وهو أعرف المعارف، فقد حكي أن سيبويه رؤي في النوم فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: خيراً، فقيل: بم نلته؟ فقال: بجعلي اسمه الشريف أعرف المعارف.
          ووجهه ظاهر إذ لا مشاركة في مدلوله، وهو اسم الله الأعظم على الأصح؛ لأنه الأصل في الأسماء الحسنى، فتأمل.
          وقيل: هو اللهم، وقيل: الحي القيوم، واختاره جماعة منهم النووي، وقيل: إنه استأثر الله بعلمه، كما قيل في ليلة القدر، وقيل: لفظة هو، ونقله الرازي عن بعض أهل الكشف.
          وقيل: إنه مجموع الرحمن الرحيم والحي القيوم، وقيل: ذو الجلال والإكرام، وقيل: مالك الملك، وقيل: كلمة التوحيد، وقيل: مخفي في الأسماء الحسنى، وقيل: كل اسم من أسمائه تعالى دعى به العبد مستغرقاً، وقيل: غير ذلك مما ذكره الجلال السيوطي في ((الدر المنظم في الاسم الأعظم)) وفيه: أنه لا وجود له بمعنى أن أسماءه تعالى كلها لا يفضل بعضها على بعض، وحمل هذا القائل ما ورد من ذكر الاسم الأعظم على أن المراد به العظيم. وأما قول الإمام أبي حنيفة في ((الفقه الأكبر)): أسماء الله تعالى وصفاته مستوية في العظم والفضل لا تفاوت بينها، انتهى.
          فيحتمل أن يكون مبنياً على القول بأن الاسم الأعظم لا وجود له، ويحتمل أن يكون مراده أنه لا تفاوت بينها من حيث إضافتها إلى المسمى الموصوف بها؛ لأنه مسمى جميع الأسماء، والموصوف بسائر الصفات واحد وهو الباري تعالى، وحينئذٍ لا ينافي التفاوت في أن بعضها مقدم رتبة، وأن بعضها أشمل من بعض، وفيما يترتب على بعضها من الفضائل كما قيل في قوله أيضاً: إن آيات القرآن متساوية؛ أي: من جهة القرآنية، وإضافتها إلى الله تعالى، وإن كان لبعضها فضيلة الذكر والمذكور كآية الكرسي وآية القصص، فتدبر.
          الرحمن: فعلان كثير الرحمة جداً صفة مبالغة فهو وصف له تعالى على المشهور، وقيل: علم بالغلبة واختاره الأعلم كابني مالك وهشام، وذلك لا يقتضي تعين البدلية من الله، وإن قاله ابن هشام بل تجوز الوصفية نظراً للأصل، والبدلية نظراً للعلمية الغالبة، وباعتبارها ورد غير تابع نحو: {الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآَنَ} [الرحمن:1-2]، ويجوز كونه عطف بيان فإنه قد يجيء لمجرد المدح، كما قاله الزمخشري في قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة:97] كما تجيء الصفة لذلك، فاندفع قول السهيلي: البدل عندي فيه ممتنع، وكذا عطف البيان؛ لأن الاسم لا يفتقر إلى تبيين لأنه أعرف المعارف وأبينها ألا ترى أنهم قالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60]، ولم يقولوا: وما الله، فهو وصف يراد به الثناء، وإن جرى مجرى الإعلام، انتهى، فافهم.
          وهو عربي كالله على الأصح، ووروده في غير العربية من توافق اللغات كما أن الحق ما قاله الشافعي والأكثرون إن كل ما قيل في القرآن من غير الأعلام أيضاً أنه معرب ليس كذلك بل عربي توافقت فيه اللغات، ولا بدع في خفاء عربيته كمعنى فاطر وفاتح على مثل ابن عباس ☻ لما قاله الشافعي ☼: من أنه لا يحيط باللغة إلا نبي، وقيل: إن الرحمن معرب رخمن _بالخاء المعجمة_ واستدلال بعضهم بكون الرحمن غير عربي بقوله تعالى: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60] بعيد لأن استفهامهم ليس راجعاً إلى اللفظ حتى يتجه ما قال بل إلى المدلول.
          الرحيم: فعيل حول من فاعل للمبالغة فهو بمعنى ذي الرحمة الكثيرة، لكنها من النعم اليسيرة كملح القدر وشراك النعل، فذكره بعد الرحمن لكونه له كالتتمة والرديف، فلذا عدل عن الترقي إلى التدلي بخلاف الرحمن، فإنه المنعم بجلائل النعم كالإيمان والإحسان، وقيل: هو كالرحمن صفة مشبهة بنيتا للمبالغة من رحم لتنزيله منزلة اللازم أو نقله إلى فعُل _بضم العين_.
          وقال البلقيني: محل كون الصفة المشبهة لا تصاغ إلا من اللازم في غير أوصافه تعالى أما فيها فتصاغ ولو من المتعدي كما هنا، ولا يشكل على ما ذكرنا حصرهم أمثلة المبالغة في خمسة لما قاله ابن قاسم العبادي من أن الحصر فيها بالنظر لما يفيد المبالغة بالصيغة، وما هنا يفيدها بالمادة كما لا يشكل / الحصر أيضاً بقولهم: أن نحو الترحال والتجوال والترداد _بفتح التاء_ فيها مصادر للمبالغة؛ لأن تلك الخمسة لأسماء الفاعلين لا مطلقاً.
          وقال القسطلاني: والاسمان مشتقان من الرحمة، ومعناهما واحد عند المحققين إلا أن الرحمن يختص به تعالى فهو خاص اللفظ؛ لأنه لا يجوز أن يسمى به غيره تعالى عام المعنى من حيث أنه يشمل جميع الموجودات، والرحيم عام من حيث الاشتراك في التسمية به خاص من جهة المعنى لأنه يرجع إلى اللطف والتوفيق، انتهى.
          وقدم الرحمن على الرحيم لاختصاصه بالباري تعالى مطلقاً كلفظ الجلالة.
          وقال ابن عبد السلام: اختصاصه به تعالى بعد الإسلام لا قبله وقرن بينهما للمناسبة، وقيل: قدم لأنه أبلغ.
          قال السيد: وتلك المبالغة إما بحسب شمول الرحمن للدارين، واختصاص الرحيم بالدنيا كما ورد عن السلف يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا، وإما بحسب كثرة أفراد المرحومين وقلتها كما ورد عنهم أيضاً: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة؛ لأن رحمة الدنيا تعم المؤمن والكافر، وإما بحسب جلالة النعم ودقتها، انتهى.
          ولا يعارض ما ذكره الحديث الصحيح المستدل به لترادفهما وهو: (يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما)؛ لأن استواؤهما في تعلق كل منهما بالدارين لا ينافي أن أحدهما أبلغ وأزيد معنى، فليتأمل.
          وقيل: الرحيم أبلغ لما تقدم من قولهم: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، ونعم الآخرة كلها جسام وعلى القول بعلمية الرحمن فلا إشكال في تقديمه هذا، والمشهور أن وصفه تعالى بالرحمة مجازاً عن الإنعام أو إرادته؛ لأنها من الأعراض النفسانية المستحيلة عليه تعالى، وإذا كان مجازاً عن الإنعام فهو صفة فعل من إطلاق اسم السبب أو الملزوم على مسببه أو لازمه البعيد.
          قال الإمام الرازي: إذا وصف الله تعالى بأمر ولم يصح وصفه به يحمل على غاية ذلك وملائمه، وهذه قاعدة في كل مقام، انتهى.
          وقال شيخ مشايخنا إبراهيم الكوراني في ((قصد السبيل)): ولقائل أن يقول: إن الرحمة التي هي من الأعراض النفسانية هي القائمة بنا، ولا يلزم من ذلك أن تكون مطلق الرحمة كذلك حتى يلزم كون الرحمة في حقه تعالى مجازاً ألا ترى أن العلم القائم بنا من الأعراض النفسانية، وقد وصف الحق تعالى بالعلم ولم يقل أحد أنه في حقه مجاز، وكذا القدرة القائمة بنا من الأعراض النفسانية، وقد وصف الحق تعالى بها ولم يقل أحد أنها مجاز في حقه، وعلى هذا القياس الإرادة وغيرها من الصفات فلم لا يجوز أن تكون الرحمة حقيقة واحدة هي العطف، وهو يختلف أنواعه بحسب اختلاف الموصوفين به، فإذا نسب إلينا كان كيفية نفسانية وإذا نسب إليه تعالى كان حقيقة فيما يليق بجلال ذاته من الإنعام أو إرادته، ويؤيد ما ذكرنا أن الأصل في الإطلاق الحقيقة ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة ولا تتعذر هنا، وكون الرحمة منحصرة وصفاً في الكيفية النفسانية ودونه خرط القتاد، وكونها في حقنا كيفية نفسانية لا يدل على كونها مجازاً في حقه تعالى وإلا لكان وصفه تعالى بالعلم والقدرة وغيرهما مجازاً؛ لأنها فينا أعراض نفسانية، ولا قائل به، انتهى.
          وأقول: سبقه إليه في ((حواشي العصام)) البيضاوي أخذاً من ((القاموس)). ويؤيده ما في ((البدائع)) لابن القيم فإنه قال فيه: أسماؤه تعالى التي تطلق عليه وعلى غيره كحي وسميع هل هي حقيقة فيه تعالى مجاز في غيره أو مجاز فيه حقيقة في غيره أو حقيقة فيهما أقوال أظهرها الأخير، انتهى.
          وكذا يؤيده قول السبكي: أجمعت الأمة على أنه تعالى رحيم على الحقيقة، وأن من نفى عنه حقيقة الرحمة كفر، ويؤيده أنه تعالى يوصف بالعلم على الحقيقة قطعاً مع أنه في حقنا من الأعراض النفسانية.
          وكذا قول الإمام السكوني في كتابه المسمى بـ((التمييز)) فيما وقع للزمخشري من الاعتزال في تفسير القرآن من قوله: أو وصف بالرحمة مجازاً هذا اعتزال وضلال بإجماع الأمة؛ لأنها أجمعت على أنه تعالى رحيم على الحقيقة، وأن من نفى عنه حقيقة الرحمة فهو كافر، وإنما قال الزمخشري ذلك لأن الرحمة عند المعتزلة رقة وتغير لأنهم ينكرون الإرادة القديمة ويصرفون رحمته إلى الأفعال أو إلى إرادة حادثة يخلقها لا في محل، انتهى.
          ويجوز أن تكون استعارة تمثيلية بأن يشبه حاله تعالى بحال ملك عطف على رعيته، ورق لهم فعمهم بمعروفه وإحسانه، فأطلقت / عليه تعالى الرحمة مراداً بها غايتها لا مبدأها الذي هو انفعال لاستحالته عليه تعالى، وصح كونها استعارة تمثيلية؛ لأن وجه التشبيه منتزع من عدة أمور، ولا تختص التمثيلية بالمجاز المركب كما لا يختص بها وإن أوهم كلام ((التلخيص)) خلاف الأمرين كما في ((حواشي)) للشيخ يس، وقيل: إن الرحمة في حقه تعالى بمعنى الإنعام أو إرادته حقيقة شرعية أو عرفية لكثرة هذا الإطلاق بدون القرينة.
          فوائد:
          الأولى: قال ابن حجر في ((شرح العباب)): ورد أن النبي صلعم قال لمعاوية ☺: ((ألق الدواة وحرف القلم وانصب الباء وفرق السين ولا تعوِّر الميم، وحسن الله، ومدَّ الرحمن، وجوِّد الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك)). وروي أنه صلعم كان يكتب: باسمك اللهم، فلما نزلت: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود:41] كتب: بسم الله، فلما نزلت: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110] زادها، فلما نزلت بسملة النمل كتبها.
          وروي عن علي ☺: أنه نظر لرجل يكتبها، فقال: جودها، فإن رجلاً جود فغفر له، انتهى.
          الفائدة الثانية: قال الجلال السيوطي في ((تدريب الراوي شرح تقريب النووي)): روى ابن مردويه في ((تفسيره)) بسنده إلى جابر بن عبد الله رضي عنهما قال: (لما نزلت: بسم الله الرحمن الرحيم هرب الغيم إلى المشرق، وسكنت الرياح، وهاج البحر، وأصغت البهائم، ورجمت الشياطين، وحلف الله تعالى بعزته وجلاله أن لا يسمى اسمه على شيء إلا بارك فيه).
          وروى ابن جرير، وابن مردويه في ((تفسيريهما)) وأبو نعيم في ((الحلية)) بأسانيدهم إلى أبي سعيد الخدري ☺ مرفوعاً: (إن عيسى بن مريم ◙ أسلمته أمه إلى الكتاب، فقال له المعلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال له عيسى: وما بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال المعلم له: لا أدري، فقال له عيسى ◙: الباء بهاء الله، والسين سناؤه، والميم ملكه، والله إله الآلهة، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة) وهذا حديث غريب جداً. قال ابن كثير: وقد يكون صحيحاً موقوفاً أو من الإسرائيليات لا من المرفوعات انتهى.
          الفائدة الثالثة: قال الشمس الرملي في ((نهاية المحتاج بشرح المنهاج)): قد ورد أن الله تعالى أنزل مائة كتاب وأربعة كتب على سبعة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنه أودع ما فيها في أربعة منها في القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وأودع ما فيها في القرآن، وأودع ما في القرآن في الفاتحة، وأودع ما في الفاتحة في بسم الله الرحمن الرحيم، بل قيل: إنه أودع ما فيها في الباء، وما في الباء في النقطة انتهى.
          وأقول: تفصيلها كما في ((تفسير)) النسفي: أن صحف شيث ستون، وصحف إبراهيم ثلاثون، وصحف موسى قبل التوراة عشرة ثم التوراة والإنجيل لعيسى، والزبور لداود، والفرقان لمحمد صلعم.
          تنبيه: اعترض على البخاري بأنه لم يأت بخطبة تنبئ عن مقصوده مبدوءة بالبسملة والحمدلة، والتشهد والصلاة والسلام على رسول الله صلعم كما فعل غيره من المصنفين مع أنها مما هو كاللازم عليهم للاقتداء بالكتاب العظيم، وللعمل بقول النبي الكريم: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع) وغير ذلك من الروايات التي تقدم بيانها قريباً، وبقوله صلعم: (كل خطبة ليس فيها تشهد _وفي لفظ: شهادة_ فهي كاليد الجذماء) أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: حسن غريب، وصححه البيهقي، وبقوله ◙: (كل كلام لا يبدأ فيه بذكر الله ثم بالصلاة عليّ فهو أقطع). قال الزرقاني في ((شرح العزية)): وهو وإن كان ضعيفاً يعمل به في فضائل الأعمال.
          وبقوله صلعم فيما رواه الحافظ عبد القادر الرهاوي في ((أربعينه)) عن أبي هريرة ☺ بلفظ: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة علي فهو أقطع أبتر ممحوق من كل بركة) مع أنه لم يبدأ إلا بالبسملة على ما في روايتي أبي ذر والأصيلي.
          وأجيب عنه بأمور:
          منها: أنه لا يتعين في الخطبة سياق مخصوص بحيث يمتنع العدول عنه؛ لأن الغرض منها الافتتاح بما يدل على المقصود، وهنا كذلك فإنه قد صدر كتابه بترجمة بدء الوحي المشتملة على الصلاة والسلام على النبي صلعم، وبالحديث الدال على أن العمل دائر مع النية، فكأنه قال: قصدت جمع وحي السنة المتلقى عن خير البرية على وجه سيظهر حسن / عملي فيه من قصدي الحسن، وإنما لكل امرئ ما نوى، فاكتفى بالتلويح عن التصريح، كما هو عادته في معظم تراجم هذا الكتاب، ومن ثم ختم كتابه بالتسبيح؛ لأن به تتعطر المجالس مع أنه كفارة لما قد يقع فيها من الإثم للمجالس.
          ومنها: إن هذه الأحاديث ليست على شرط المصنف بل تكلم فيها، وتعقب كون حديث الحمد ليس على شرطه بأنه صححه ابن حبان وأبو عوانة لا يدفع الاعتذار عنه كما لا يخفى إلا أن يراد به أنه إذا صح الحديث ولو على غير شرطه، فلا ينبغي له ترك العمل به لا سيما وفيه مخالفة للمصنفين وللكتاب العزيز، فتدبر.
          ومنها: لو سلمنا أنه على شرطه لا تتعين الكتابة والنطق معاً، فيجوز أن يكون نطق بذلك عند ابتداء التأليف، وهو كافٍ إذ ليس في الحديث ما يدل على أنه لا يكون إلا بالكتابة أيضاً.
          ونقل هذا الجواب العيني من جملة أجوبة عن جمع، فقال: قالوا: الذي اقتضاه لفظ الحديث أن يحمد لا أن يكتبه، والظاهر أنه حمد بلسانه.
          ثم رده بأنه يلزمهم عليه إضمار التسمية مع ما فيه من المخالفة لسائر المصنفين، انتهى.
          وأقول: لا يخفى على المتأمل المنصف أن الجمع المجيبين لا يلزمهم إضمار التسمية؛ لأن معنى كلامهم أن الحديث يكفي في العمل به اللفظ، ولا يشترط معه الكتابة أيضاً لا أنها تضر ولو سلم؛ فلم يبالوا بمخالفته للمصنفين؛ لأن ظاهر الحديث معه على أنه لا مخالفة منه لهم بالنسبة لثبوت البسملة خطاً أيضاً في روايتي أبي ذر والأصيلي، فتأمل.
          ومنها: أنه ابتداء بالحمد خطاً أيضاً لابتدائه بالبسملة على ما في روايتي أبي ذر والأصيلي، وهي متضمنة للحمد لذكره أسماء الله الجامع، ثم ذكره من أسماء الصفات الرحمن الرحيم، ولا يراد بالحمد إلا نحو هذا؛ لأنه الوصف بالجميل على جهة التعظيم لكن فيه بُعد، ويرد عليه أيضاً حديث: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله) فإنه يقتضي خصوص لفظه، فتأمل.
          ومنها: أن المراد بالحمد الذكر بدليل إحدى روايتي الخطيب: (كل أمر لا يفتح بذكر الله فهو أبتر، أو أقطع) ولا ينافيه حديث: (بحمد الله) لأن معناه الافتتاح بما يدل على الثناء عليه تعالى، وهو حاصل بالبسملة على ما مرَّ.
          قال الحافظ ابن حجر: ويؤيده أن أول شيء نزل من القرآن يعني على أصح الأقوال {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] فطريق التأسي به الافتتاح بالبسملة والاقتصار عليها لاسيما وحكاية ذلك من جملة ما تضمنه الباب الأول بل هو المقصود بالذات منه، وأيضاً وقوع كتب رسول الله صلعم إلى الملوك مفتتحاً بالتسمية دون الحمدلة والشهادة يشعر بأن لفظهما إنما يحتاج إليه في الخطب دون الرسائل، فكأن المصنف أجرى كتابه مجرى الرسائل إلى أهل العلم لينتفعوا به، انتهى.
          واعترضه العيني بأن لفظ الذكر غير لفظ الحمد، وليس الآتي بلفظ الذكر آتياً بلفظ الحمد مع أن الغرض التبرك باللفظ المفتتح به كلام الله تعالى، انتهى.
          ويمكن أن يجاب: بأن المراد ذكر الله مطلقاً بأي لفظ كان بدليل رواية: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله) لإلغاء المقيدين لتعارضهما لا سيما وقد أجرى المصنف كتابه مجرى الرسائل إلى أهل العلم التي كان النبي صلعم يكتفي فيها بمجرد التسمية، فدل على أن المراد مطلق ذكر الله تعالى، فتدبر.
          ومنها: أنه تعارض الابتداء بالتسمية والحمدلة؛ لأنه إن قدم الحمدلة على البسملة خلاف العادة وإن عكس لم يعد مبتدئاً بالحمدلة، فلذا لم يأت بها ورد بأن هذا كلام من ليس له ذوق من الإدراك لأن الأولية أمر نسبي فكل شيء بعده آخر هو أول بالنسبة إلى ما بعده، فلو جمع بينهما لكان الابتداء بالبسملة حقيقياً وللحمدلة إضافياً، ولذا حذف العاطف والجمع بينهما كذلك أولى لموافقة الكتاب العزيز، وإن قلنا: إن البسملة ليست من الفاتحة، فافهم.
          ومنها: أن الافتتاح بالحمدلة محمول على ابتداء الخطب دون غيرها زجراً عما كانت الجاهلية عليه من تقديم الشعر المنظوم، والكلام المنثور عليها لما روي: أن أعرابياً خطب فترك التحميد، فذكره عليه الصلاة والسلام، ورد بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
          ومنها: أن حديث الافتتاح بالحمد منسوخ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لما صالح قريشاً عام الحديبية كتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فلولا النسخ لما تركه ورد بأنه أبعد الأجوبة لعدم دلالته على ذلك لجواز أن يكون الترك لبيان الجواز.
          وقد يجاب: بأن غالب مكاتباته كذلك إن لم تكن كلها، فيبعد أن يكون الترك في الجميع لبيان الجواز، فتأمل.
          ومنها: أن كتاب الله ╡ مفتتح بالتسمية، وكتب رسول الله صلعم كذلك، فلذا تأسى البخاري بهما ورد بأنه لا يلزم من ذلك ترك التحميد لوجوده / في فاتحة الكتاب، فليتأمل.
          ومنها: أن أول ما نزل: {اقْرَأْ} [العلق:1] و {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] وليس في أولهما الحمدلة، ويعضده ما تقدم من أن كتبه عليه الصلاة والسلام مفتتحة بالبسملة لا بالحمدلة وغيرها ورد بأنه ساقط بالمرة؛ لأن الاعتبار لحال الترتيب العثماني لا للنزول، وإلا لتركت التسمية أيضاً لعدم نزولها أولاً في {اقْرَأْ} على ما قاله بعضهم، فتأمل.
          ومنها: أنه إنما ترك الحمدلة رعاية لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] فلم يقدم بين أيديهما شيئاً بل ابتدأ بكلام رسول الله عوضاً عن كلام نفسه.
          ورده العيني بأن: الآتي بالتحميد ليس بمقدم شيئاً أجنبياً بل ذاكراً ثناءه تعالى بالجميل لأجل التبجيل على أنه مسبوق بالترجمة وبالسند، وهما من كلام نفسه فكيف يكون بالتحميد الذي فيه تعظيم الله تعالى مقدماً بين يدي الله ورسوله ولا يكون بالأجنبي، وقولهم الترجمة وإن تقدمت فهي كالمتأخرة لتقديم الدليل على مدلوله وضعاً ليس بشيء؛ لأن التقديم والتأخير من أحكام اللفظ الظاهر لا المقدر وهو مقدم لفظاً وإن تأخر تقديراً انتهى. فتدبر.
          ومنها: ما ذكره العيني بقوله: والأحسن فيه ما سمعته من أساتذتي الكبار أنه ذكر الحمد والشهادة بعد البسملة كما هو دأب المصنفين في مسودته كما ذكره في بقية مصنفاته، وإنما سقط ذلك من بعض المبيضين فاستمر على ذلك، انتهى.
          وأقول: قال في ((الفتح)): وأبعد من ذلك كله قول من ادعى أنه ابتدأ بخطبة فيها حمد وشهادة فحذفها بعض من حمل عنه الكتاب قال: وكأن قائله ما رأى تصانيف الأئمة من شيوخ البخاري وغيره كمالك في ((الموطأ)) وعبد الرزاق في ((مصنفه))، وأحمد في ((مسنده)) وأبي داود في ((سننه)) إلى غير ذلك ممن لا يحصى ممن لم يبدأ إلا بالتسمية بل هم الأكثر، فيقال فيهم ما ذكر كلا بل يحمل على أنهم حمدوا لفظاً، ويؤيده ما رواه الخطيب عن أحمد: أنه كان يتلفظ بالصلاة على النبي صلعم ولا يكتبها للإسراع، أو غيره أو يحمل على أنهم رأوا ذلك مختصاً بالخطب دون الكتب كما تقدم، ولهذا من افتتح كتابه منهم بخطبة حمد وتشهد كما صنع مسلم، انتهى.
          وأقول: الأولى أن يقال: وإنما سقط ذلك من بعض المبيضين فاستمر على ذلك، انتهى.
          الأولى: إسقاط بعض منهم فافهم هذا، واعلم أن الذي استقر عليه الأئمة المتقدمين افتتاح كتبهم بالتسمية، وكذا غالب الرسائل لما تقدم.
          واختلفوا كما في ((فتح الباري)) فيما إذا كان الكتاب كله شعراً؛ فنقل عن الشعبي منعه، وقال الزهري: مضت السنة أن لا يكتب في الشعر: بسم الله الرحمن الرحيم، وأجازه سعيد بن جبير والجمهور قال الخطيب: وهو المختار، انتهى.
          وأقول: قد يحمل كلام المانعين على ما إذا كان الشعر مذموماً، ففي ((شرح الجوهرة)) للقاني ما نصه: والجمهور على طلبها في الشعر ما لم يكن محرماً أو مكروهاً، وأما ما يتعلق بالعلوم كهذه المنظومة، فمحل اتفاق، انتهى.
          وقال ابن حجر المكي في ((شرح العباب)): ومنع جمع كتابتها أول الشعر، وجوزها بعض المتأخرين إن كان فيه مواعظ أو حكم، بل قال بعضهم: لا خلاف في طلبها لذلك.
          وقال بعض المحققين: أما قصيدة يرفعها شاعر لممدوحه فلا سبيل لكتابتها فيها، ولعل مراده بامتناع ذلك كراهته تنزيهاً، وإلا ففي الحرمة نظر واضح، انتهى.
          وأقول: ما ذكره من الكراهة موافق لما اختاره في ((التحفة)) من كراهة التسمية على الحرام والمكروه، وهو مذهب الحنابلة، وجرى الرملي ومن وافقه من أئمتنا على حرمتها على الحرام وكراهتها على المكروه، وهو مذهب الحنفية.
          وقال في ((توضيح المالكية)) لخليل: تكره على المكروه والمحرم خلافاً للقرافي في غير الذخيرة، فإنه قال: بحرمتها فيهما.
          ░1▒ (باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلعم): سقط الباب لأبي ذرٍّ والأصيلي، وثبت لغيرهما. وقال ابن الملقن في ((التوضيح)): وقع في بعض نسخ البخاري بغير ذكر باب، وهي سماع أبي العز الحراني.
          وأقول: على سقوط الباب.
          وكان قال الحافظ ابن حجر في أواخر ((المقدمة)) نقلاً عن شيخه السراج البلقيني ما نصه: بدأ البخاري بقوله: كيف بدء الوحي، ولم يقل: كتاب الوحي، ولا كتاب بدء الوحي؛ لأن بدء الوحي من بعض ما يشتمل عليه الوحي. قلت: ويظهر لي / أنه إنما عراه من باب لأن كل باب يأتي بعده ينقسم منه فهو أم الأبواب فلا يكون قسيماً لها.
          قال البلقيني: وقدمه لأنه منبع الخيرات، وبه قامت الشرائع وجاءت الرسالات، ومنه عرف الإيمان والعلوم، انتهى ما في ((المقدمة)).
          وقال ابن الملقن في ((التوضيح)): بدء البخاري بالوحي، ومالك في ((الموطأ)) بوقوت الصلاة، ومنهم من بدأ بالإيمان، ومنهم من بدأ بالوضوء، ومنهم من بدأ بالطهارة، ومنهم من بدأ بالاستنجاء، ولكلٍ وجه.
          وقال البرماوي في ((اللامع الصبيح شرح الجامع الصحيح)): بدأ البخاري بباب بدء الوحي؛ لأنه ينبوع الشريعة، ثم بالإيمان؛ لأنه الأساس والذريعة، ثم بالعلم لأنه قبل العمل كما سيأتي في كلامه ثم بالطهارة لأن الطهور شطر الإيمان، وهي المقدمة للثاني من أركان الإسلام التي بني عليها ثم بالصلاة لأنها الركن الثاني، فذكرت بعد مقدمتها، ثم بالزكاة ثم بالصوم ثم بالحج.
          وفي بعض النسخ أو أكثرها تقديم الحج على الصوم؛ لأن رواية الحديث جاءت بالأمرين ثم بالاعتكاف لأنه من متعلقات الصوم لا سيما عند من يراه شرطاً فيه ثم بالمعاملات لأنها قوام الأبدان لعبادة الملك الديان، انتهى.
          ولم يذكر المناسبة في بقية الكتب غير أنه قال: من تأمل حق التأمل ظهرت له المناسبة في الكل قال: وقد أفرد بيانها في الكل شيخنا أبو حفص البلقيني، انتهى.
          وأقول: قد ذكرناها في أواخر ((الفوائد الدراري)) ملخصاً لها مما ذكره الحافظ في أواخر ((المقدمة)).
          والباب على ثبوته مرفوع خبر لمحذوف نحو هذا أو منصوب بتقدير نحو اقرأ وعليهما فهو غير منون إن أضيف إلى ما بعده لكن يحتاج حينئذ إلى تقدير مضاف ليظهر المعنى كجواب لأن المذكور في الباب جواب الاستفهام لا هو، ولأنه لا يضاف إلى الجملة إلا أحد ثمانية أشياء وليس الباب منها، وهي كما في ((المغني)): أسماء الزمان ظروفاً كانت أو غيرها، وحيث، وآية بمعنى علامة، وذو في نحو قولهم: اذهب بذي تسلم، ولدن، وريث، وقول، وقائل، انتهى.
          لكن ذكر الدماميني في ((شرحه)) لهذا الصحيح المسمى بـ((المصابيح)) أن هذا إنما هو في الجملة التي لم يرد لفظها وإلا فهي في حكم المفرد فيضاف إليها كل اسم، وهنا أريد لفظ الجملة، انتهى.
          أي: هذا باب شرح كيف كان بدء الوحي، انتهى.
          وأقول: لا يخفى على المتأمل ما في قوله، وهنا أريد لفظها كجواب الزركشي بأن الإضافة إلى الجملة كلا إضافة، انتهى. ولو قدره بجواب كما قدرنا لكان ظاهراً، فتأمل.
          ثم قال الدماميني: وحينئذٍ فعد ابن هشام قولاً وقائلاً مما يضاف إلى الجملة غير ظاهر، انتهى.
          لأن ما بعدهما مراد به لفظه دائماً فهو في حكم المفرد كما مر، والكلام فيما يبقى على جملته بدليل أنهم جعلوا نحو قوله صلعم: (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة) مبتدأ وخبراً إذا علمت ذلك فلا اتجاه لقول الشمني في ((حواشي المغني)) المراد بالجملة الأعم مما أريد لفها ومعناها، فتدبر.
          وجوزوا في باب التنوين، فالجملة بعده مستأنفة استئنافاً بيانياً، ويحتمل جعلها بدلاً من باب أو خبر مبتدأ محذوف على ما يأتي، ويجوز فيه أيضاً الإسكان على نية الوقف فهو معرب تقديراً رفعاً أو نصباً أو على التعداد فلا إعراب له أصلاً، بل هو مبني على السكون لوجود الشبه الإهمالي فيه عند ابن مالك، أو لعدم التركيب عند ابن الحاجب وعلى إسقاط الباب، فالجملة مستأنفة أو خبر مبتدأ محذوف بتقدير مضاف لكون الجملة مراداً بها لفظها، فافهم.
          واستبعد الإسكان على التعداد بأن الأصل في الأسماء الإعراب، وهو هنا ممكن بتقدير العامل وإن كان التقدير خلاف الأصل، وبأنه لم تجيء به الرواية.
          ورد هذا العيني: بأن التوقف على الرواية إنما هو في متن الكتاب أو السنة وأما في غيرهما من التراكيب فيتصرف فيه بما تجوزه العربية، انتهى.
          وأقول: قد يمنع بأن أهل هذه الصناعة اعتبروا الرواية في كل ما حكاه الراوي عن غيره بنوع من أنواع التحمل ومنه التراجم، ولهذا تراهم يقولون: ثبتت الرواية بحذف باب مثلاً أو بإثباته إلى غير ذلك، / فتدبر.
          وقال ابن كمال باشا في ((تعليقه)): واحتمال الوقف والتنوين لا يحتملهما المقام لعدم الاستقلال في باقي الكلام، انتهى.
          وأقول: هو غير مسلم وتعليله ممنوع لأن استقلال الباقي ظاهر عند أولى الأفهام سواء جعل مستأنفاً أو خبراً لمحذوف كما مر، فافهم.
          والباب واوي لجمعه على أبواب وبيبان، ويجمع على أبوبة للازدواج كقول ابن مقبل:
هتَّاك أخبية ولَّاج أبوبةٍ                     يخالط البِر منه الجدَّ واللِّينا
          وروى العيني بدل الشطر الثاني: ملء الثواية فيه الجد واللين. كما في ((الصحاح)) ولو أفرده لم يجز، والباب لغة المدخل بين شيئين، ويطلق على النوع كقولهم: من فتح باباً من العلم، وقولهم: علمته الحساب باباً باباً. قيل: وهو المراد هنا، فتأمل، ولم يقل: كتاب؛ لعدم اشتماله على أبواب وفصول وفروع ومسائل، كما هو الغالب فيه، أو لما مر عن البلقيني آنفاً، وكيف اسم استفهام عن الأحوال العامة ومحلها هنا نصب حالاً أو خبراً لكان على جعلها تامة أو ناقصة، ويقال فيها كي كقوله:
كي تجنحون إلى سلم وما ثئرت                     قتلاكم ولظى الهجاء تضطرم
          وكيف: ترد شرطية فتقتضي فعلين، ولا تجزمهما عند البصريين مطلقاً خلافاً لقطرب منهم، وللكوفيين مطلقاً وخلافاً لقوم إذا لم تقترن بما، وترد أيضاً استفهامية والاستفهام بها حقيقي، كما هنا ومجازي نحو: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة:28] لأنها فيه للإنكار أو للتعجب لكن التعجب مصروف للمخاطبين لاستحالته على رب العالمين.
          قال الراغب في ((مفرداته)): ولا يسأل بها إلا عما يصح أن يقال فيه شبيه وغير شبيه، فلا يقال في الله ╡ كيف وكلما أخبر تعالى بها عن نفسه فهو استخبار على طريق التنبيه للمخاطب أو التوبيخ له، انتهى.
          وقال ابن كمال باشا في ((تعليقه)): كيف للاستفهام عن الأحوال، وقد تكون اسماً للحال من غير معنى السؤال، وهو المراد هنا، ومنه ما حكى قطرب عن بعض العرب انظر إلى كيف يصنع أي إلى حال صنعه ولها صدر الكلام وهي مبنية ومحلها الإعراب بحسب العوامل، والضابط فيها أنها إن وقعت قبل ما لا يستغنى عنها، فمحلها بحسب الافتقار إليها ففي نحو كيف أنت رفع على أنها خبر مقدم، وفي نحو كيف كنت نصب خبراً لكان إن قدرت كان ناقصة، وفي نحو كيف ظننت زيداً نصب مفعولاً ثانياً لظننت وإن وقعت قبل ما يستغنى عنها فهي حال في نحو: كيف جاء زيد وكيف كان زيد إن جعلت كان تامة ومفعولاً مطلقاً في نحو: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} [الإسراء:48].
          ونقل عن سيبويه أنها ظرف فموضعها دائماً النصب كذلك، وأنكره الأخفش والسيرافي والأكثرون بل قال ابن مالك: لم يقل أحد أن كيف ظرف إذ ليست زماناً ولا مكاناً لكنها لما كانت تفسر بقولك على أي حال، أو في أي حال لكونها سؤالاً عن الأحوال العامة سميت ظرفاً لأنها في تأويل الجار والمجرور، واسم الظرف يطلق عليهما مجازاً.
          واستحسنه ابن هشام قال: ويؤيده الإجماع على أنه يقال في البدل: كيف أنت أصحيح أم سقيم؛ لأنه لا يبدل المرفوع من المنصوب.
          وعلى ما تقرر من أنها للسؤال عن الأحوال العامة المنتظم فيها جميع الأحوال يحمل ما ذكره الزمخشري من الفرق بينها وبين الهمزة بأن كيف سؤال تفويض لإطلاقه ولا كذلك الهمزة، فإنها سؤال حصر وتوقيت إذ نحو قولك: كيف جاء زيد قد فوضت فيه الجواب إلى المسؤول بأي حالة كانت بخلاف نحو قولك: أراكباً رأيت زيداً أم ماشياً؟ فإنك قد أقت وحصرت الجواب على المسؤول.
          تنبيه: لا ترد كيف حرف عطف خلافاً لمن زعمه مستدلاً بنحو قوله:
إذا قل مال المرء لانت قناته                     وهان على الأدنى فكيف الأباعد
          بجر الأباعد. قال في ((المغني)): وهو خطأ لاقترانها بالفاء العاطفة بل هي مرفوعة المحل على الخبرية لمبتدأ محذوف مضاف إلى الأباعد أي: فكيف حال الأباعد فحذف المضاف وأبقى المضاف إليه على حاله كقراءة ابن جماز: {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} [الأنفال:68] بالجر، أو بتقدير: فكيف الهوان على الأباعد / فحذف المبتدأ والجار أو بالعطف بالفاء ثم أقحمت كيف بين العاطف والمعطوف لإفادة الأولوية بالحكم، انتهى.
          و(بَدْء) بفتح الموحدة وسكون الدال المهملة وبالهمز آخره، من بدأت الشيء: فعلته ابتداء، وبدأت بالشيء ابتدأت به، وبدأ الله الخلق وأبدأهم بمعنى، وروي أيضاً: <بدوّ> بتشديد الواو، كظهور وزناً ومعنى، ورجح النووي الأول، وتبعه في ((الفتح)) فقال بعد أن نقل عن عياض الروايتين: ولم أره مضبوطاً في شيء من الروايات التي اتصلت إلينا إلا أنه وقع في بعضها: كيف كان ابتداء الوحي، فهذا يرجح الأول وهو الذي سمعناه من أفواه المشايخ، وبأن المصنف استعملها كثيراً كبدء الحيض، وبدء الأذان، وبدء الخلق، انتهى.
          وأقول: لا يخفى على المتأمل أنه ليس في كلام ((الفتح)) المذكور ما يفيد أنه لم تجيء الرواية بالثاني ليرد عليه بكلام عياض المسطور كما يوهمه كلام العيني حيث قال بعد ذكر كلام عياض: وبهذا يرد على من قال: لم تجيء الرواية بالوجه الثاني، انتهى.
          بل كلامه يفيد أنه ما رآه مضبوطاً في شيء من رواياته وأنه سمع الأول من مشايخه، وهذا لا ينافي رواية عياض الوجهين، فتدبر.
          والأحاديث المذكورة في الباب تدل للوجهين لأنه بين فيها كيف يأتيه الملك ويظهر له وكيف كان ابتداء أمره أول ما ابتدئ به، فتأمل.
          وقيل: الراجح الثاني لظهوره في المقصود، وقيل: لأنه أعم لشموله نوعي أحاديث الباب الكاشف عن حال ظهور الوحي والكاشف عن حال ابتدائه ولا يستلزم أحد المعنيين الآخر بل بينهما عموم وخصوص من وجه.
          وقال البرماوي في ((اللامع الصبيح)): بَدْأ _بالهمز وسكون الدال_ مصدر بدأ بمعنى: البُداءة، وبضم أوله وتشديد الواو بلا همز: مصدر بدا يبدو: ظهر. قيل: والأحسن الأول لجمعه المعنيين، وقيل: بالعكس لأنه الأظهر في المقصود، والظاهر أن أحدهما لا يستلزم الآخر، انتهى. ومثله شيخ الإسلام، وقال الكرماني: البدو على وزن فعل يحتمل أن يكون مهموزاً فهو بمعنى الابتداء، وأن يكون ناقصاً فهو بمعنى الظهور، انتهى.
          ولعله لم يتعرض للمصدر المشهور، وهو بُدوُّ _بضم الموحدة وبتشديد الواو_ لشهرته.
          وقال في ((القاموس)) في باب المعتل: بَدَا بدْواً وبدوّاً وبداءة: ظهر، وبداوة الشيء: أول ما يبدو منه، وبادي الرأي: ظاهره، وبدا له في الأمر بدوًّا وبَدَاءً وبداةً: نشأ له فيه رأيٌ، انتهى.
          (والْوَحْيِ): مصدر وحى كرمى، والأكثر استعمال مصدر الفعل المجرد وفعل المزيد فيه كما نطق بذلك القرآن وأصله لغة الإعلام بخفاء، وقيل: بسرعة ومنه الوحا الوحاء يمد ويقصر بمعنى السرعة والبدار.
          وقال الراغب: أصل الوحي الإشارة السريعة ولتضمنه السرعة قيل: أمر وحي، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة، وحمل على ذلك قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم:11] انتهى.
          وقال الجوهري: الوحي الكتاب وجمعه وحي مثل حَلي وحُلي قال لبيد:
فمدافع الريان عُرِّي رسمها                      خلقاً كما ضمن الوحيَّ سلامها
          انتهى.
          وقيل: الوحي: التفهيم، كقولك: أوحيت إلى زيد مسألة، والوحي أيضاً كلما دللت به من كتابة أو مكتوب أو كلام خفي أو رسالة أو إشارة أو تسخير، أو إلهام أو أمراً، أو رؤيا أو تصويت شيئاً فشيئاً، وكلما ألقيته إلى غيرك والصوت يكون في الناس وغيرهم والوسوسة، ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121] فمن الأول {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا} [مريم:11] أي: كتب ويحتمل أنه من الخامس؛ أي: فأشار، ومنه بمعنى الإشارة:
يرمون بالخطب الطوال وتارة                     وحي الملاحظ خيفة الرقباء.
          ومن الثالث: وحي لها القرار فاستقرت؛ أي: كلمها بكلام خفي، ومنه بمعنى التسخير: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68] أي: سخرها لاتخاذ بيوت من الجبال، وقيل: بمعنى الإلهام؛ أي: الدلالة وإلا فإلهام الحقيقي إنما يكون للعاقل كقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص:7].
          ويطلق الوحي على القرآن والسنة من إطلاق المصدر على المفعول كقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] وأما شرعاً فهو كما قال الكرماني ومن تبعه: كلام الله المنزل على نبي من أنبيائه.
          ورده ابن كمال باشا بقول الوحي في اصطلاح أهل الشرع غير مخصوص بكلام الله تعالى كما توهم بل ينقسم إلى متلو وهو القرآن، وغير متلو، انتهى.
          وأقول: قد يقال المراد بكلام الله / المنزل ما يشمل الوحي غير المتلو ولو مجازاً، ويقال: هذا إطلاق آخر أخص، فقد قال في ((فتح الباري)): وقد يطلق الوحي ويراد به اسم المفعول منه؛ أي: الموحى وهو كلام الله المنزل على النبي صلعم انتهى. فتدبر.
          على أن البرماوي والقسطلاني، قالا: هو إعلام الله أنبياؤه الشيء بكتاب أو رسالة ملك أو منام أو إلهام أو غير ذلك مما سيأتي. ثم قال ابن كمال باشا: اعلم أن الوحي الظاهر ثلاثة أقسام:
          الأول: ما ثبت بلسان الملك فوقع في سمعه بعد علمه بالمبلغ بآية قاطعة والقرآن من هذا القبيل.
          والثاني: ما وضح له بإشارة الملك من غير بيان بالكلام كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت) الحديث، وهذا يسمى خاطر الملك.
          والثالث: ما تبدى لقلبه بلا شبهة بإلهام الله تعالى، وكله حجة، انتهى.
          (إِلَى رَسُوْلِ اللَّهِ): متعلق بالوحي قبل أو ببدأ، والرسول في الأصل صفة مشبهة يستوي فيها المذكر والمؤنث والمثنى والمجموع؛ لأنه فعول ومن العرب من يثنيه ويجمعه، ومنه {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} [طه:47] {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا} [هود:69] ويأتي مصدراً، ومنه قول الشاعر:
ألا أبلغ أبا عمرو رسولاً                     بأني عن فُتاحتكم غني
          والرسول: لغة المرسل، والجمع: رُسُل _بضمتين، وبضم فسكون_ وأرسل ورسلاء كظرفاء.
          وشرعاً: إنسان حر ذكر من بني آدم أوحي إليه بشرع يعمل به وأمر بتبليغه فإن لم يؤمر به فهو نبي، وهذا هو المشهور. وقيل: الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه وله كتاب أو نسخ لشرع من قبله فإن لم يكن له كتاب أو نسخ فهو نبي فقط كيوشع فكل رسول نبي ولا عكس، وعزى هذا القول للمحققين.
          وقيل: النبي أخص إذ لا يشترط فيه مع ما ذكر في الرسول أن ينفرد عن أمته بحكم، وعلى هذه الأقوال فبينهما عموم وخصوص مطلق.
          وقال جمع منهم المحقق ابن الهمام: بالترادف بإرجاعهما إلى معنى الرسول المشهور، وقيل: بينهما عموم وخصوص وجهي إما بناء على انفراد الرسول في الملك، وإما بناء على انفراد الرسول بمن لم يختص في نفسه بحكم عن أمته، وانفراد النبي فيمن لم يؤمر بالتبليغ، واجتماعهما فيمن خص مع التبليغ بحكم عن أمته، وجرى على هذا القول صاحب ((القاموس)) في كتابه (الصلات والبشر في الصلاة على خير البشر).
          قيل: وتعريف الرسول بأنه من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه غير جامع لإخراجه مثل آدم ونوح وسليمان عليهم الصلاة فإنهم رسل بلا خلاف على الصحيح في آدم، ولم ينزل عليهم كتاب إلا ما ورد أن كتاب آدم حروف الهجاء، وكذا تعريفه بأنه الذي معه كتاب كموسى والنبي بأنه المنبئ عن الله تعالى وإن لم يكن معه كتاب كيوشع ◙.
          وأجيب: بأن المراد بقولهم معه كتاب أنه مأمور بتبليغه، وإن لم يكن منزلاً عليه فلا يرد نحو سليمان، فتأمل.
          هذا وقد اختلف في عدد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فقيل: الأنبياء مائة ألف وعشرون ألفاً، وقيل: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً وهو المشهور، وقيل: مائتا ألف وأربعة وعشرون ألفاً، وقيل: لا يعلم عددهم إلا الله، وأما الرسل فثلاثمائة وثلاثة عشر، وقيل: وأربعة عشر، وقيل: وخمسة عشر لما في ((صحيحي)) ابن حبان والحاكم من حديث أبي ذر (قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف وعشرون ألفاً) وفي رواية: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً) وفي رواية: (مائتا ألف وأربعة وعشرون ألفاً). قلت: يا رسول الله كم الرسل من ذلك؟ قال: (ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً).
          وفي ((مسند)) الطيالسي والبزار: (ثلاثمائة وخمسة عشر) ويؤخذ عدد الرسل كما قال بعضهم: من اسم محمد بالجمل، فافهم.
          وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة:213]: وعن كعب: (الذي علمته من عدد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون).
          تنبيه: لا يخفى أن المراد برسول الله هنا بنبينا محمد صلعم خاتم الأنبياء والمرسلين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين، ولنذكر نسبه الشريف المتفق عليه تشريفاً لكتاب، واعتناء به لما أن معرفته في الجملة من الواجب على أولي الألباب، فنقول:
          هو _كما قال المصنف في باب مبعث النبي صلعم_: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن / نزار بن معد بن عدنان.
          وأمه صلعم نسباً: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، فتلتقي مع النبي صلعم في الأب السادس.
          وأما أمه رضاعاً فهي: حليمة بنت عبد الله بن الحارث السعدية، أسلمت هي وزوجها.
          والده صلعم رضاعاً، واسمه: الحارث بن عبد الله العزى بن رفاعة السعدي، وأبواه صلعم نسباً من أهل الجنة أيضاً، وإن ماتا في الفترة لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] مع أنه وردت أحاديث ليست بشديدة الضعف بينها الحافظ السيوطي في مؤلفات له عديدة تبعاً لبعضهم مصرحة بأن الله تعالى أحياهما، فآمنا بما يجب الإيمان به، ونفعهما إيمانهما إكراماً له صلعم فهما من أهل الجنة، ولا يجري فيهما الأقوال في أهل الفترة على الصحيح الذي جرى عليه كثير من أرباب الكمال فعليك به ولا تغتر بغيره من المقال.
          ولقد أحسن الإمام ابن ناصر الدين حافظ الشام حيث قال:
حبا الله النبي مزيد فضل                     على فضل وكان به رءوفاً
فأحيى أمه وكذا أباه                     لإيمان به فضلاً لطيفاً
فسلم فالقديم بذا قدير                     وإن كان الحديث به ضعيفاً
          وقال الإمام القسطلاني في ((المواهب)): فالحذر الحذر من ذكرهما بما فيه نقص، فإن ذلك قد يؤذي النبي صلعم لأن العرف جار بأنه إذا ذكر أبو الشخص بما ينقصه أو وصف بوصف فيه نقص تأذى ولده بذكر ذلك عند المخاطبة. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات) رواه الطبراني في ((الصغير)). ولا ريب أن أذاه صلعم كفر يقتل فاعله إن لم يتب، ولقد أطنب بعض العلماء في الاستدلال لإيمانهما، فالله يثيبه على قصده الجميل، انتهى.
          ومولده صلعم كان عام الفيل على الصحيح بمكة، وقيل: بعده بثلاثين أو أربعين أو خمسين يوماً، وقيل: غير ذلك، وكانت ولادته يوم الاثنين أول الفجر، وقيل: قبيله من ربيع الأول لاثنتي عشرة ليلة خلت منه، وقيل: لعشرة، وقيل: لثمانية، وقيل: لليلتين، وبعثه الله تعالى نبياً ورسولاً إلى الناس كافة بمكة على رأس أربعين سنة أو بعد أن نبأه ثلاث سنين، وأقام بها بعد ذلك ثلاث عشرة سنة على الأصح، ثم هاجر يوم الاثنين إلى المدينة ودخلها يوم الاثنين ضحى لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فأقام عشر سنين، ثم انتقل إلى الدار الآخرة وعمره ثلاثة وستون سنة على الصحيح يوم الاثنين في أوائل ربيع الأول بالمدينة الشريفة، ودفن بها في المكان الذي قبض به يوم الأربعاء، وقيل: ليلتها وعلى ضريحه الشريف من المهابة والجلالة والجمال ما منحه مولاه ذو الإفضال والكمال، وقد زرته مراراً ولله الحمد عام حججت سنة ثلاثة وثلاثين ومائة وألف، فنسأله تعالى أن لا يجعله آخر العهد، وأن يشفعه فينا بدخول دار النعيم والخلد.
          وقوله صلعم جملتان فعليتان خبريتان لفظاً إنشائيتان معنى فهما في قوة اللهم صل وسلم عليه وجمع بينهما خروجاً من كراهة إفراد أحدهما عن الآخر تنزيهاً عندنا كالمالكية، وامتثالاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وكراهة إفراد أحدهما عن الآخر نقلها النووي عن العلماء.
          قال ابن حجر في ((شرح العباب)): وظاهر العبادة أنه إجماع والعذر عمن أفرد أن الكراهة فيمن اتخذه عادة وجمعهما بلسانه، أو الكراهة بمعنى خلاف الأولى، ويحمل الترك على الذهول والنسيان وعلى هذه الأوجه يحمل ما وقع للشافعي، انتهى.
          وصرح القهستاني من الحنفية بعدم كراهة إفراد إحداهما عن الأخرى، وهو مقتضى كلام العيني في ((شرحه)) فإنه قال: الواجب من ذكر الصلاة عليه أن يذكر السلام معها لقرانها في الأمر بالتسليم، ولهذا كره أهل العلم ترك ذلك.
          قال: قلت: يرد هذا ورود الصلاة في آخر التشهد مفردة.
          فإن قيل: ورد تقديم السلام، فلهذا قالوا: هذا السلام عليك فكيف نصلي عليك؟
          قلت: يمكن أن يجاب بما روى النسائي أن النبي صلعم كان يقول في آخر قنوته: (وصلى الله على النبي) وبقوله عليه الصلاة والسلام: (رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي). ويجوز أن يدعي أن المراد بالتسليم في الآية الاستسلام لوروده / في سورة النساء لتخصيصه بالمؤمنين، ويجوز أن يدعي أن جملة (وسلموا) مؤكدة لـ(صلوا)، انتهى.
          وأقولُ: ليتأمل في كلا وجهيه. ونقل السيد أحمد الحموي في ((حواشي الأشباه)): أنه لا خلاف بين العلماء مطلقاً في عدم كراهة الإفراد لغير نبينا، انتهى.
          وفيه: أن العلامة ابن قاسم العبادي تردد في ذلك، وذكر بعضهم إلحاق بقيتهم به لطلب الصلاة عليهم ومثليهم الملائكة، فتأمل.
          ومعنى الصلاة لغة: الدعاء ولما فيها من العطف والشفقة عديت بعلى للمنفعة وإن عدي بها الدعاء للمضرة، وصح عن السلف وتبعهم أكثر الخلق أنها من الله تعالى الرحمة المقرونة بالتعظيم، ومن الملائكة الاستغفار ومن الآدميين التضرع والدعاء بخير.
          تنبيه: قد اعترض أبو عبد الله التيمي على البخاري بثلاثة أمور حيث قال:
          واعلم أنه لو قال: كيف كان الوحي وبدؤه، لكان أحسن؛ لأنه تعرض لبيان كيفية الوحي ولابتدائه وأنه كان ينبغي له أن لا يذكرَ عقب الترجمة لبدء الوحي حديث: (إنما الأعمال بالنيات) ليكون أقرب إلى الحسن، وأن حديث ابن عباس: (كان رسول الله صلعم أجود الناس) لا يدل على بدء الوحي.
          وأجاب عن الأول: بأن المصنف لم يقصد بهذه الترجمة تحسين العبارة، وإنما مقصوده فهم السامع والقارئ إذا قرأ الحديث علم مقصوده من الترجمة فلم يشتغل بها تعويلاً منه على فهمه، انتهى.
          وأقول: الاعتراض أقوى، ويمكن دفعه أيضاً بأن غرض البخاري من هذا الباب ذكر كيفية بدء الوحي أولاً وبالذات ليناسب جعله مفتتحاً به، وأما ذكر كيفية الوحي في غير الابتداء فبالتبعية فاندفع دعواه الأحسنية، وبأن ذكر كيفية ابتداء الوحي يستلزم ذكر كيفية الوحي مطلقاً، فاكتفى البخاري بالتلويح عن التصريح.
          وأما رد الكرماني لكلام التيمي وإن تبعه العيني بقوله: ليس قوله لكان أحسن مسلماً لأنا لا نسلم أنه ليس بياناً لكيفية بدء الوحي إذ يعلم مما في الباب أن الوحي كان ابتداؤه في حال المنام ثم يقظة في حال الخلوة بغار حراء على الكيفية المذكورة من الغط ونحوه، ثم ما فر عنه لازم له على تقديره أيضاً إذ البدء عطف على الوحي كما قرره فيرد عليه أيضاً، انتهى.
          فغير وارد ولا ملائم لكلام التيمي إذ لم يدع أنه لا يفهم مما يأتي إلا الوحي لا ابتداؤه أيضاً كما لا يخفى على المتأمل لكلامه، كيف وقد قال: لو قال كيف كان الوحي وبدؤه لكان أحسن...الخ، وقد قرره الحافظ ابن حجر كما قلنا.
          نعم تعقب الكرماني له بأن المراد من بدء الوحي حاله مع كل ما يتعلق بشأنه أيُّ تعلق كان متجه، ومن ثم ذكره في ((الفتح)) وأقره، وقول الكرماني أيضاً ليس قوله كان ينبغي مسلماً إذ هو بمنزلة الخطبة، وقصد التقرب كما قال هو بنفسه والسلف كانوا يستحبون افتتاح كلامهم بحديث النية بياناً لإخلاصهم فيه، انتهى.
          لا يدفع اعتراضه بأن الدليل عقب المدلول أقرب إلى الحسن بل يصحح الكلام وليس هو المدعى. نعم: قد يدعي أن البخاري اعتبره من جملة الترجمة فلم يقع الدليل حينئذٍ إلا عقب المدلول لكن يبعد ذلك ذكر السند، وأما قوله أيضاً: وكذا حديث ابن عباس لا يدل على بدء الوحي، ليس بمسلم إذ فيه بيان حال الرسول عند ابتداء الوحي أو عند ظهوره، انتهى.
          ففيه أن في الحديث المذكور بيان أن النبي صلعم أجود الناس وأنه أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وأنه يدارسه في كل ليلة من رمضان، وهذا ليس فيه ابتداء الوحي إلا أن يقال: إنه صادق به، فتدبر.
          وإذا كان كذلك فيقوي الاعتراض بأنه كان اللائق أن يقول في الترجمة: كيف كان الوحي وبدؤه، ويمكن دفعه بما قدمناه، فافهم. على أنه تقرر عندهم أن الزيادة على الترجمة من قبيل الزيادة في الجواب، وهو محمود كجوابه صلعم لما سئل عن طهورية ماء البحر بقوله: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) وهو حديث رواه أصحاب السنن الأربعة وأحمد وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة.
          ولا شك أنه يعلم من مجموع ما في الباب من الأحاديث / كيفية بدء الوحي، ولا يلزم ذلك في كل حديث بل يجوز أن يكون في بعضها زيادة كما هنا وهي من الزيادة في الإحسان كما لا يخفى على أهل العرفان.
          وقال شيخ الإسلام: والمراد ببدء الوحي حاله مع كل ما يتعلق به أي تعلق كان فلا يرد الاعتراض بأنه لم يتعرض في الحديث لبيان كيفية بدء الوحي فقط بل لبيان كيفية الوحي على أنه تعرض له بعد في حديث عائشة حيث ذكر فيه أن ابتداءه كان رؤيا منام، ولا يضر نقص الترجمة عن المترجم له إنما يعاب العكس، انتهى. وبما قررناه ظهر لك حسن صنيع البخاري.
          واندفع الاعتراض عليه كما لا يخفى على من تأمل.
          (وَقَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ) ولابن عساكر: <وقول الله سبحانه> ولأبوي ذر والوقت والأصيلي: <وقول الله ╡> وهو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف للدلالة عليه؛ أي: وقول الله سبحانه مما يتعلق بهذا الباب، ولعله أولى من جعل العيني الخبر: {إِنَّا أَوْحَيْنَا} [النساء:163] الآية لاحتياجه إلى حذف وتأويل ليفيد الكلام، فتدبر.
          ويجوز رفعه عطفاً على باب، وجوز الحافظ بن حجر رفعه عطفاً على الجملة الاستفهامية على حذف باب، وكذا على إثباته مع تنوينه قال: لأنها في محل رفع.
          واعترضه العيني: بأنه لا وجه له لأن الجملة إنما تستحق الإعراب إذا وقعت موقع المفرد، وليست هاهنا واقعة موقع مفرد يقتضي الرفع وإنما يقتضي النصب على الحالية أو الخبرية لكان، انتهى.
          وأقول: هو غير ظاهر على إطلاقه إذ الجملة على حذف باب إن لم تكن مستأنفة فهي في محل رفع خبر المحذوف فتكون واقعة موقع مفرد كذلك، وأما على إثباته وتنوينه فالواقع منصوباً على الحالية أو الخبرية لكان هو كيف لا الجملة بأسرها، إلا أن يحمل كلامه على التجوز، فليتأمل.
          ولا يجوز جره عطفاً على الوحي لما لا يخفى بل على الجملة المضاف إليها باب كما أشار إليه الكرماني لكن على حذف مضاف أي: وباب معنى قول الله، أو باب ذكر قول الله...إلخ، ولا يقدر باب كيفية قول الله لما يأتي بما فيه، وجوز الكرماني رفعه أيضاً عطفاً على بدء، واعترض بأن كلام الله تعالى لا يكيف.
          وأجاب البرماوي: بأنه يصح على تقدير: كيف نزول قول الله، أو كيف فهم معنى قول الله أو نحو ذلك، وبأن المراد كلام الله المنزل المتلو لا مدلوله وهو الصفة القديمة القائمة به تعالى.
          واعترض ابن كمال باشا على كلام الكرماني بوجهيه، واختار وجهاً آخر فقال: وقول الله ╡ مجرور عطفاً على محل جملة كان بدء الوحي لا على جملة كيف كان بدء الوحي كما توهم إذ لا وجه لتشريكه لها في عنوان الباب، ولا على لفظ الوحي إذ لا صحة لدخول البدء له ولا وجه لرفعه عطفاً على بدء الوحي؛ لأن المقصود بيان حال قول الله ╡ لا بيان حال كينونته، والمراد من إيراده بيان بدء الوحي إجمالاً بالآية الكريمة، انتهى، فتأمله.
          وقال النووي في ((شرحه)): وقول مجرور ومرفوع عطفاً على كيف، وفيه تسمح إذ المعطوف عليه الجملة بأسرها لا كيف وجدها كما مر لكنه توسع، فأطلق الجزء وأراد الكل.
          وقال العيني: وقال بعض الشراح يعني ابن الملقن: قال النووي في ((تلخيصه)): وقول الله مجرور أو مرفوع معطوف على كيف.
          قلت: وجه العطف في كونه مجروراً ظاهر، وأما الرفع فكيف يكون بالعطف على كيف وليس فيه الرفع، فافهم انتهى كلام العيني.
          وأقول: فيه أن دعواه ظهور الجر إنما هو باعتبار محل الجملة على إثبات باب وعدم تنوينه، وإذا كان بهذا الاعتبار ظاهراً فيكون الرفع مثله أيضاً؛ لأنه مبني على إثبات باب وتنوينه أو على حذفه، وجعل الجملة الاستفهامية فيهما خبر المحذوف، وليس في كلام النووي كبعض الشراح أن الجر والرفع على إثبات باب وعدم تنوينه كما يشير إليه كلام العيني، وحينئذٍ فلا ينبغي إنكار صحة الرفع، وادعاء ظهور الجر في ذلك، فتأمله بإنصاف.
          والقول كالمقال والمقالة، والقيل مصدر لقال، وهو اللفظ الموضوع لمعنى فهو أخص من اللفظ مطلقاً لشمول اللفظ للمهمل، وقيل: مترادفان، وقيل: القول خاص بالمركب مطلقاً، وقيل: خاص بالمفيد، وعلى الأول فهو أعم من الكلام، والكلم والكلمة لانفراده عنها في نحو: غلام زيد.
          وقال في ((القاموس)): القول الكلام أو القول في الخير، والقال والقيل والقالة في الشر، أو القول مصدر، والقيل / والقال: اسمان له أو قال قولاً وقيلاً ومقالة وقولة ومقالاً فيهما فهو قائل وقال وقؤول بالهمز وبالواو جمع قول، وقيل وقالة ورجل قوال وقوالة [وتِقولة] وتِقوالة _بكسرهما_ انتهى، وأطال في ذلك.
          ويطلق القول مجازاً، وقيل: حقيقة عرفية على الرأي والاعتقاد، كقولك: قال الشافعي: يندب الوتر، وقال أبو حنيفة بوجوبه، ويستعمل أيضاً في غير النطق كقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] وكقوله:
قالت له الطير تقدم راشداً                     إنك لا ترجع إلا حامداً
          ({إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء:163]): أي: أرسلنا إليك جبريل عليه الصلاة والسلام بالوحي قرآناً أو غيره وأثر صيغة التعظيم تفخيماً للموحي والموحى إليه. قال ابن بطال: معنى الآية {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء:163] وحي إرسال كما أوحينا إلى الأنبياء قبلك لا وحي إلهام؛ لأن الوحي ينقسم إلى وجوه.
          قال البرماوي: مراده لا وحي إلهام فقط، وإلا فلا يسعد في الإلهام للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، انتهى. وأقول: وبه يعلم ما في قول القسطلاني: أي: وحي إرسال فقط، فافهم.
          ({كَمَا أَوْحَيْنَا} [النساء:163]): أي: كوحينا أو كالذي أو كشيء أوحيناه ({إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163]): زاد في رواية أبي ذر: <الآية>؛ أي: اقرأها فلهذا نتكلم عليهما بكمالها، وهي في أواخر سورة النساء، والكاف ومدخولها متعلقان بمحذوف في محل نصب صفة مصدر محذوف؛ أي: إيحاء مثل إيحائنا إلى المذكورين أو حال من ذلك المصدر المقدر معرفاً على رأي سيبويه لا من كاف إليك؛ أي: حال كون إيحائنا إليك مماثلاً إيحاءنا إليهم، وما تحتمل المصدرية والموصولة والنكرة الموصوفة كما أشرنا إلى ذلك، والعائد على الأخيرين محذوف ولظهور الإيحاء إلى النبيين قبله وشهرته عند المنازعين صح التشبيه به، وتبين لك أن وجه الشبه في المشبه أخفى منه في المشبه به، وإنما خص إبراهيم مع من بعده بالذكر مع دخولهم في النبيين تشريفاً لهم وتعظيماً، فإن إبراهيم أول أولي العزم بعد نوح وعيسى آخرهم، والباقين من أشراف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومشاهيرهم، ولم يذكر موسى معهم ليبرزه على نمط أعظم من الأول بقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] قاله البيضاوي.
          وهذه الآية وما قبلها جواب لأهل الكتاب عن افترائهم حيث قالوا: إن كنت صادقاً فأنزل علينا كتاباً من السماء، جملة كما أتى به موسى، أو كتاباً محرراً بخط سماوي على ألواح كما كانت التوراة أو كتاباً نعاينه حين ينزل أو كتاباً إلينا بأعياننا أنك رسول الله، واحتجاج عليهم بأن أمره في الوحي كسائر الأنبياء، ولذلك أكد فإنه جواب للمنكرين عليه.
          قال الشيخ عبد القاهر في نحو: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] {ويَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]: وما أشبهه التأكيد في مثل هذه المقامات لتصحيح الكلام السابق والاحتجاج له وبيان وجه الفائدة، انتهى.
          وقيل: هذه الآية تعليل لقوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [النساء:162] الآية، واستبعد بأن التفسير الأول هو المأثور.
          وقال العصام في ((حواشي)) البيضاوي: أقول _والله أعلم_: الأنسب الأظهر أنه تعليل لإيمان الراسخين في العلم بما أنزل إلى محمد صلعم لأن رسوخ العلم يستلزم معرفة أن الوحي إليه كالوحي إلى سائر الأنبياء، وقوله: {أَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [النساء:163] وقوله: {وَرُسُلاً} في وجه، وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] كلها في حيز التشبيه لوحي الله إليه ◙، وكأن البيضاوي أشار إليه فيما يأتي قريباً، وقد فضل الله محمداً صلعم بأن أعطاه مثل ما أعطى كل واحد منهم، انتهى.
          وقال الخفاجي: ظاهر قوله: {كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [النساء:163] يدل على أن من قبل نوح لم يكن يوحى إليه كما أوحي لنبينا لا أنه غير موحى إليه أصلاً كما قيل، انتهى، فتدبر.
          وخص نوحاً عليه الصلاة والسلام بالذكر دون آدم وشيث وإدريس؛ لأنه الأب الثاني للبشر، وقدمه على من بعده؛ لأنه أول رسول أذاه قومه، فكانوا يضربونه بالحجارة حتى يقع على الأرض كما وقع لنبينا مثله في الطائف، وقيل: لأنه أول أولي العزم، وقيل: لأنه أول مشرع عند بعضهم، وقيل: لأنه أول نبي عوقب قومه بتكذيبهم إياه، ففيه تهديد لأمة محمد صلعم أن يقعوا فيه فيعاقبون.
          ورد الأخيرين العيني بقوله: أما الأول فلا نسلم أنه أول مشرع، بل أول مشرع آدم فإنه نبي مرسل إلى بنيه، وشرع لهم شرائع، ثم قام بالأمر بعده شيث فكان نبياً مرسلاً، ثم إدريس بعثه الله إلى أولاد قابيل على أن رفعه الله إلى السماء، / وأما الثاني فإن شيثاً أول من عذب قومه بالقتل لما ذكر العزيزي في ((تاريخه)): أنه سار إلى أخيه قابيل فقاتله بوصية أبيه له بذلك متقلداً سيف أبيه، وهو أول من تقلد بالسيف، وأخذ أخاه أسيراً وحبسه إلى أن مات كافراً انتهى.
          وأجيب: بأن المراد أول نبي عذب قومه بدعائه، أو بأمر سماوي أو عام فتأمل.
          وقيل: العلة مجموعهما، فلا يرد كون آدم أول الأنبياء مطلقاً، نقله في ((الفتح))، لكن يرد عليه: أن شيثاً اجتمع فيه الأمران فليتأمل.
          وفي ((فتح الصفا بشرح الشفا)) لابن أقبرس: نوح أول رسول إلى الكفار، وآدم أول رسول إلى بنيه، ولم يكونوا كفاراً، ورسالته إليهم لتبليغ الإيمان والطاعة لله تعالى، وكذا بعده شيث وإدريس، وهو أول من خط بالقلم، ونظر في علم النجوم والحساب، وأول من خاط الثياب ولبسها، وكانوا يلبسون الجلود انتهى.
          وفي كلام الشيخ محي الدين بن العربي قدس سره: لم يجيء نص في القرآن برسالة إدريس عليه الصلاة والسلام، بل قيل فيه: صديقاً نبياً، وأول شخص افتتحت به الرسالة نوح ◙، ومن كانوا قبله إنما كانوا أنبياء كل واحد منهم على شريعة من ربه، فمن شاء دخل معه في شرعه، ومن شاء لم يدخل، فمن دخل ثم رجع كان كافراً انتهى.
          ثم قال العيني: والذي يظهر لي من الجواب الشافي عن هذا أن نوحاً ◙ هو الأب الثاني، وجميع أهل الأرض من أولاد نوح الثلاثة سام وحام ويافث لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77] وذلك لأن كل من كان على وجه الأرض قد هلكوا بالطوفان إلا أصحاب السفينة، ولم يكن فيها كما قال قتادة: إلا نوح وامرأته وسام وحام ويافث ونساؤهم فجميعهم ثمانية.
          وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم، وقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين نفساً، وقال ابن عباس: كانوا ثمانين إنساناً أحدهم جَرهم، ولما خرجوا من السفينة ماتوا كلهم إلا نوحاً وبنيه الثلاثة ونساؤهم، ثم مات نوح وبقي بنوه الثلاثة، فجميع الخلق منهم، وكان نوح أول الأنبياء المرسلين بعد الطوفان، وجميع الأنبياء بعده إلا آدم وشيثاً وإدريس، فلذلك خصه الله بالذكر وعطف عليه الأنبياء لكثرتهم بعده. انتهى.
          وتعقب بأن ما ذكره لا يفيد لإمكان أن يقال: لمَ لم يقدم الأب الأول، وقد يجاب بأنه لاحظ فيه القرب مع كونه أباً لجميع من بعده، فلا يرد آدم ولا إبراهيم فتدبر.
          وفي ((شرح السيرة العراقية)) للأجهوري: روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث سمرة بن جندب ☺ قال: قال رسول الله صلعم: (سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم).
          قال الشيخ برهان الدين الناجي الدمشقي: ولم يكن سام نبياً خلافاً لما وقع لأبي الليث السمرقندي في ((بستانه)) ومن قلده فاحذره، واسم نوح عبد الغفار، وإنما لقب بنوح؛ لأنه كان ينوح على قومه، ويتأسف عليهم لكونهم غرقوا بلا توبة ولا رجوع إلى الله تعالى.
          وروى الفريابي، وابن جرير، والحاكم وصححه عن سلمان ☺ قال: (كان نوح ◙ إذا لبس ثوباً أو طعم طعاماً حمد الله تعالى فسمي عبداً شكوراً).
          وكان ◙ أطول الأنبياء عمراً حتى قيل: إنه عاش ألف سنة وثمانمائة، ولما نزل عليه الوحي كان عمره ثلاثمائة وخمسين سنة، {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] يدعوهم. ثم نقل الأجهوري عن الشيخ زروق: أن شعيباً ◙ عاش ثلاثة آلاف سنة، وكان في غنمه اثنا عشر ألف كلب انتهى. ومراده بقوله: فسُمي عبداً شكوراً وصفه بذلك، وقد ذكر غيره أن اسمه يشكر.
          وقال البيضاوي في تفسير سورة الأعراف: نوح بن لمك بن متوشلخ بن إدريس أول نبي بعده بعث وهو ابن خمسين سنة أو أربعين. وقال في تفسير سورة العنكبوت: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] أي: بعد المبعث، إذ روي أنه بعث على رأس أربعين سنة، ودعا قومه تسعمائة وخمسين سنة، وعاش بعد الطوفان سنتين.
          وقال الثعالبي في ((العرائس)): فبعث الله نوحاً نبياً ورسولاً وهو ابن خمسين سنة، وأبوه متوشلخ مؤمن كأمه شمخاء بنت أنوش رحمهما الله، ولذا دعا لهما بقوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28].
          وفي ((مشكاة الأنوار)): واختلفوا في كمال عمره، والأصح أنه ألف وأربعمائة وخمسون مائتان وخمسون بعد هلاك قومه بالطوفان، وتسعمائة وخمسون يدعوهم انتهى.
          وقال بعضهم: عمره ألف وأربعمائة وثمانون، وهو مصروف على الصواب، وزعم بعضهم أنه يجوز فيه الصرف وعدمه، ومثله في ذلك شيث ولوط.
          فائدة: سائر أسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعجمية إلا / أربعة محمد وصالح وشعيب وهود، فهي عربية مصروفة وباقيها أعجمية ممنوعة من الصرف إلا أربعة أيضاً فهي أعجمية مصروفة نوح ولوط وشيث وعزير على أحد وجهين من أنه عربي، وقيل: أعجمي.
          واختلف من آدم أيضاً، فقيل: أعجمي، وقيل: عربي لكنه ممنوع من الصرف اتفاقاً كما نقله النووي في ((التهذيب)) عن ابن منصور الجواليقي، وقوله: والنبيين من عطف العام على الخاص جمع نبيء _بالهمز وتركه فيهما_ وبهما قرئ في السبع فيهما، وتقدم ما بينه وبين الرسول من النسب لكن بقي الكلام في اشتقاقه، فالنبيء _بالهمز_ مشتق من إلينا وهو الخبر؛ لأنه مخبر عن الله تعالى ولو بنبوته على ما نقله بعضهم من أنه يجب على النبي أن يخبر بنبوته ليحترم أو ولو لنفسه بناء على التغاير الاعتباري فإنه باعتبار أنه مخبر عن نفسه باعتبار أنها مخبرة كما أشار إلى ذلك الدواني، فتأمل.
          وأما بترك الهمزة فهو مشتق من النبوة أو النباوة وهي الرفعة؛ لأنه مرفوع الرتبة على غيره من الخلق، وقيل: هو مخفف المهموز، والأول أبلغ، فقد قال الراغب: النبي _بغير همز_ أبلغ من النبيء _بالهمز_؛ لأنه ليس كل منبئ رفيع المحل، ولذلك قال ◙ لمن قال له: يا نبيء الله، قال: (لست بنبيء الله، ولكن نبي الله) لما رأى أن الرجل خاطبه بالهمز لبغض منه، انتهى.
          وقال في ((شرح العمدة)): كان رسول الله صلعم يكره أن يقال له: نبيء الله _بالهمز_ لأنه بالهمز مسيلمة الكذاب يقال له: نبىء سوء، انتهى. لكن قال الدواني في أوائل ((شرح العقائد العضدية)): واشتقاقه من النبأ بمعنى الخبر أو من النبوة بمعنى الارتفاع، أو هو منقول من النبي بمعنى الطريق، انتهى من بعده متعلق بـ {أَوْحَيْنَا} الأولى أو بمحذوف حال من {النَّبِيِّينَ} أو من الضمير في {إِلَيْكَ} أو من الإيحاء إليك المفهوم من {أَوْحَيْنَا}، وعلى كل فالضمير راجع إلى نوح، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [النساء:163] عطف على {أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [النساء:163] فهو داخل معه في حكم التشبيه، وإعادة الفعل لمزيد تقرير الإيحاء، و {إِبْرَاهِيمَ} قرأه هشام بالألف بدل الياء، وهو إبراهيم بن آزر، وقيل: إنه عمه، وهو أول من تسمى بإبراهيم قيل: معناه أب رحيم أنزل عليه عشر صحف، وبلغ عمره مائة وخمسة وسبعين سنة، وقيل: مائتي سنة. وكلام النووي يشير إلى ترجيحه، فإنه نقل في ((تهذيبه)) عن كعب الأحبار: أن سبب وفاة إبراهيم ◙: أنه أتاه ملك في صورة شيخ كبير فضيفه، وكان يأكل ويسأل الطعام ولعابه على صدره ولحيته، فقال له إبراهيم: يا عبد الله ما هذا؟ قال: بلغت العمر الذي يكون صاحبه هكذا، فقال: كم أتى عليك؟ فقال: مائتا سنة، ولإبراهيم يومئذ مائتا سنة، فكره الحياة لئلا يصير إلى هذه الحال، فمات بلا مرض. وعن ابن السكن الهجري قال: توفي إبراهيم وداود وسليمان فجأة، انتهى.
          وقال في ((العباب الفقهي)): ورد موت الفجاءة أخذة أسف؛ أي: غضب قال: وروى أن جماعة من الأنبياء ماتوا فجأة، وأنه موت الصالحين.
          قال النووي: فيحتمل أنه أخذة أسف لغير المستعدين، وأنه رفق بالمستعدين، انتهى.
          واختلف في مكان ولادة إبراهيم، فقيل: بكُوْثَى _بضم الكاف وبفتح المثلثة عقب الواو الساكنة مقصوراً_ بلدة من إقليم بابل في العراق، وقيل: ولد بالسوسن من أرض الأهواز، وقيل: ولد ببرزة قرية بغوطة دمشق، والصحيح الأول، وإنما ينسب إليه هذا المقام؛ لأنه ◙ تعبد الله تعالى فيه لما جاء مغيثاً للوط، قاله النووي.
          وقال العيني في ((تاريخه)): قال عامة السلف من علماء السير: ولد إبراهيم زمن نمرود بن كنعان لكن اختلفوا في أي مكان ولد، فقال ابن عباس: ببابل من أرض نمروذ، وقال مجاهد: بكوثى، وقال عكرمة: بالسوسن من أرض الأهواز، وقال السدي: مكان بين البصرة والكوفة، وقال الربيع بن أنس: بكسكر، وقال وهب: بحران وقال ابن عساكر: ببرزة، ثم قال ابن عساكر: والصحيح الأول أنه ولد بكوثى، انتهى ما قاله العيني.
          وهو أول من هاجر من وطنه في طاعة الله تعالى حفظاً لإيمانه حين سأله النمروذ أن يخرج من وطنه إلى حيث شاء، فأجابه إلى ذلك لما يئس من إيمانه، فخرج وهو ابن سبعين سنة ومعه ابن أخيه لوط وابنة عمه زوجته سارة، وأبوه آزر إلى حران العراق، فأقاموا بها خمسين سنة، ومات بها آزر بعد سنتين، ثم سار إبراهيم ولوط إلى قرية برزة، ثم إلى قرية حَبْرون _بفتح الحاء المهملة وبالموحدة الساكنة_ واشتهرت بالخليل؛ لأنه دفن فيها، وكذا زوجته سارة، وماتت ولها مائة وسبعة وعشرون سنة، وولده إسحاق وزوجته الجميع في الغار بها، وكذا يوسف لكنه دفن بغار آخر بخارج الغار قريباً منه لما نقله موسى بن عمران من مصر وإسماعيل وإسحاق هما من أولاد إبراهيم لصلبه لكن إسماعيل أمه هاجر، وكان أكبر من إسحاق / بثلاثة وعشرين سنة.
          وفي ((تهذيب)) النووي: قيل: إن إسحاق ولد بعد إسماعيل بأربع عشرة سنة، وعاش إسماعيل مائة وسبعة وثلاثين سنة، قيل: ودفن بين الميزاب والحجر، وتوفيت أم إسماعيل وعمره عشرون سنة ولها تسعون سنة، فدفنها في الحجر، قاله النووي. وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة وأمه سارة ودفنت في الغار كما مر.
          ويعقوب: هو إسرائيل وهو أبو الأسباط، ونباه الله تعالى زمن جده إبراهيم، قيل: مات هو والعيص في يوم واحد، وكان توءماً للعيص لكنه ولد عقبه، فلذا قيل له: يعقوب، ومات بمصر وعمره مائة وسبعة وأربعون سنة لكنه حمله ابنه يوسف منها، ودفنه بقرب جده إبراهيم صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين.
          فائدة: ذكر بعضهم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم من نسل يعقوب إلا ثلاثة عشر نبياً: آدم وشيث وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ولوط وشعيب وأيوب ومحمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين عليهم أجمعين.
          والأسباط: هم أولاد يعقوب جمع سبط، وهم في العجم كالقبائل في العرب، قال البغوي: هم اثنا عشر سبطاً، سموا بذلك؛ لأنه ولد لكل واحد منهم جماعة، وسبط الرجل حافده، ومنه قيل للحسن والحسين: سبطا رسول الله صلعم، وكان في الأسباط الأنبياء، وقيل: هم بنوا يعقوب من صلبه صاروا كلهم أنبياء، انتهى.
          وعيسى: أي: ابن مريم عبد الله ورسوله لا أب له مثل عيسى عند الله كمثل آدم. قال الجوهري: عيسى بن مريم عبراني أو سرياني، وجمعه عيسَون _بفتح السين وأجاز الكوفيون ضمها قبل الواو، وكسرها قبل الياء_، والنسبة إليه عيسوي وعيسي، انتهى. ومثله في هذا الجمع موسى فيقال فيه موسون _بفتح السين وضمها_ عند الكوفيين.
          واختلف في مدة حمل مريم به، فقيل: ساعة، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: تسعة أشهر، وقيل: ثمانية، وقيل: سنة، وقيل: خمسة عشر، وكلم الناس، وهو ابن أربعين يوماً ثم لم يتكلم بعدها حتى بلغ زمن كلام الصبيان.
          وأيوب: أي: ابن أموص من أسباط عيص بن إسحاق، وأمه من ولد لوط ◙، وكان رومياً، بعث إلى البثنة من الجولان، وكانت شريعته التوحيد وإصلاح ذات البين، قال ابن الكلبي: كانت منازله البثنة من أرض الشام، والجابية من كورة دمشق، وكان الجميع له، ومقامه بقرية تعرف بدير أيوب وقبره بها، وكان أعبد أهل زمانه وأكثرهم مالاً، وكان لا يشبع حتى يشبع الجائع ولا يكتسي حتى يكسو العاري.
          وقال النووي في ((تهذيبه)): وكان أيوب ببلاد حوران، وقبره مشهور عندهم بقرية بقرب نوى عليه مشهد ومسجد وقرية موقوفة على مصالحه، وفيها عين جارية فيها قدم في حجر يقولون: إنه أثر قدمه، يغتسلون فيها متبركين، ويقولون: إنها المذكورة في القرآن، انتهى. توفي عليه الصلاة والسلام وله ثلاثة وتسعون سنة، وقيل: خمس وتسعون، وقيل: مائتان، وهو النبي المبتلى الصابر على بلائه حيث أذهب الله أهله وأمواله، وابتلاه في ظاهر جسده مدة سبع سنين وسبعة أشهر وسبع ساعات، وقيل: ثمانية عشرة سنة وقيل: ثلاث عشرة سنة وهو مع ذلك شاكر لمولاه صابر على بلواه، ثم رد الله عليه جميع ما أذهبه قيل: بأعيانهم، وقيل: بأمثالهم، وقد زرته ولله الحمد في مدفنه، ومدحته بأبيات من قصيدة مقصورة نظمتها حين زيارته بعد زيارة النووي، فسعد الأسمر أعاد الله علينا من بركاتهم فقلت:
ومنه قصدنا للنبي جواره                     لأيوب من للصبر قد حمل اللوا
ومن أخبر الرحمن عنه بأوبة                      إلى ربه سبحانه جل عن توى
وأعطاه فضلاً ضعيف ما قد أزاله                     لرحمائه منه وذكرى من استوى
          ومطلع هذه القصيدة التي امتدحنا بها هؤلاء الثلاثة:
ركبنا ظهور الخيل نستعذب النوى                      وسرنا سحيراً ذاهبين إلى نوى
          ويونس: أي: ابن مَتَّى _بفتح الميم وتشديد الفوقية المفتوحة بعدها ألف_ مقصور اسم أبيه على الصحيح، وقيل: اسم أمه، ويقال فيه: متتى، بفك الإدغام.
          وقال العيني في ((تاريخه)): يونس بن متى، وقيل: متى أمه، ولم يشتهر نبي بأمه غير يونس، والمسيح ♂، وكان متى رجلاً صالحاً من سبط بنيامين، مات ويونس في بطن أمه له أربعة أشهر، انتهى. بعثه الله تعالى بعد سليمان ♂، وقيل: بعد إلياس، وقيل: بعد شعيب.
          وهارون: هو أخو موسى / بن عمران عليهما الصلاة والسلام، توفي في التيه على الأصح كموسى ♂، لكن موته قبل موسى، وعمره مائة وثلاثة وعشرون سنة.
          قال المسعودي: ودفن هارون في جبل السراة مما يلي الطور، وقبره مشهور في مغارة يسمع منها في بعض الليالي دوي عظيم يجزع منه كل ذي روح. وزاد العيني في ((تاريخه)): وقيل: هو مدفون في طور يقال له: طور هارون في بلاد الشوبك، انتهى.
          وما روي أنه تبع جنازته أربعون ألفاً كلهم يسمون هارون من بني إسرائيل، ففيه بعد جداً، وأما موسى، فقال النووي في ((تهذيبه)) نقلاً عن الثعلبي أنه توفي وله مائة وعشرون سنة.
          وسليمان: أي: ابن داود ♂، قال النووي: كان عمره ثلاثاً وخمسين سنة، وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان عسكره مائة، فرسخ للإنس خمسة وعشرون، ومثلها للجن، ومثلها للطير، ومثلها للوحش. قيل: دفن عند قبر إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
          ({وَآَتَيْنَا دَاوُودَ} [النساء:163]) أي: ابن إِيْشا _بكسر الهمزة وتحتية ساكنة وشين معجمة_ توفي وله مائة سنة وستة أشهر مدة ملكه منها أربعون سنة. وروى عن وهب بن منبه: أنه شيع جنازته أربعون ألف راهب سوى سائر الناس. وهو غريب. وقال العيني في ((تاريخه)): داود اسم أعجمي. قال ابن عباس: هو بالعبرانية القصير العمر، وقيل: سمي به؛ لأنه داوى جراحات القلوب، انتهى.
          ({زَبُوراً}): بفتح الزاي، كتاب داود، وكان صحفاً، وقرأ حمزة: {زُبُوراً}بضم الزاي، وهو جمع زبر _بكسرها أو فتحها_ بمعنى مزبور، قيل: كان يقرأه على اثنين وسبعين صوتاً بين الروابي، فتقوم الإنس والجن والوحوش والطيور لسماع صوته، ويركد الماء الجاري، وتسكن الريح.
          وعطف {آَتَيْنَا} على {أَوْحَيْنَا} مع أنه بمعناه للإشارة إلى أن الموحى إليه نوع آخر إذ ليس فيه أحكام. قال القرطبي: كان فيه مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الأحكام، وإنما هي حكم ومواعظ وتحميد وتمجيد، وثناء على الله تعالى.
          وقال أبو السعود: وأثره على أوحينا لتحقيق المماثلة في أمر خاص هو إيتاء الكتاب بعد تحقيقها في مطلق الإيحاء، وسيأتي الكلام مستوفى على هؤلاء الأنبياء كغيرهم منهم عند ذكر البخاري لهم إن شاء الله تعالى.
          تنبيه: مناسبة هذه الآية للترجمة واضحة من جهة أن صفة الوحي إلى نبينا توافق صفة الوحي إلى من تقدمه من النبيين، ومن جهة أن أول أحوال الأنبياء في الوحي الرؤيا الصالحة، ففي ((الدلائل)) لأبي نعيم بسند حسن عن علقمة بن قيس صاحب ابن مسعود قال: إن أول ما يؤتى به الأنبياء الوحي في المنام حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي بعد في اليقظة.
          وقال بعضهم: بدأ البخاري بهذه الآية في أول كتابه لمناسبتها لما ترجم له، ومن عادته الغالية أن يضم إلى الترجمة ما يناسبها من قرآن أو تفسير أو حديث ليس على شرطه، أو أثر عن أحد من الصحابة أو التابعين.
          وقال ابن بطال: واعلم أنه لما كان كتابه مقصوراً على أخبار النبي صلعم طلب تصديره بأول شأن الرسالة والوحي ولم يرد أن يقدم عليه شيئاً، ولهذا لم يقدم عليه الخطبة.
          وقال النووي: ذكر البخاري الآية؛ لأن عادته أن يستدل للترجمة بما وقع من قرآن وسنة مسندة وغيرها، وأراد أن الوحي سنة الله تعالى في أنبيائه، انتهى.
          واعترض بأن بين قوله هنا: لأن عادته أن يستدل...إلخ، وبين تجويزه الرفع والجر في (وقول الله تعالى) عطف على كيف تدافعاً؛ لأن مقتضى العطف المذكور جعل الآية جزءاً من الترجمة، ومقتضى استدلاله بها جعلها مغايرة لها؛ لأن الدليل يجب مغايرته للمدلول، انتهى.
          وأقول: قد يجاب بأنه لا شك في مغايرة أجزاء المركب له ولا مانع من جعل بعض أجزاء الترجمة دليلاً على بعض آخر منها، ويكون في قوله: لأن عادته أن يستدل للترجمة تجوُّزٌ، وبأن ما يورد قبل المقصود من حيث جعل بعضه دليلاً على بعض آخر ليس من الترجمة، ومن حيث أنه غير مقصود بالذات جزء منها فلا تدافع لاختلاف الحيثية، فتدبر.