رسالة على أول صحيح البخاري

حديث: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي

          قال: (يُوسُف). أقول: قال الفرَّاء: يوسُف يوسَف يوسِف ثلاث لغاتٍ، وحُكيَ فيه الهمزة أيضًا(1).
          قال: (عَن هِشَامٍ). أقول: ادَّعى مسلمٌ إجماع العلماء قديمًا وحديثًا على أنَّ الحديث المعنَّنِيَّ _وهو الَّذي فيه فلانٌ عن فلان_ محمولٌ على الاتِّصال والسَّماع إذا أمكن لقاء مَن انتهت العنعنة إليه بعضهم بعضًا بشرط براءتهم مِنَ التَّدليس، والتدليس _على ما فسَّره التُّوربشتيُّ_: وهو أن يقول المحدِّث(2): قال فلان: أخبرنا فلانٌ، وقد أدرك فلانًا ورآه، إلَّا أنَّ بينه وبين فلان الَّذي يروي عنه الحديث الذي دلَّس(3) فيه راويًا آخر، ترك ذكره؛ لتوهُّم(4) أنَّه سمع مِن شيخه، ونقل مسلمٌ عن بعض أهل عصره أنَّه قال: لا تقوم(5) الحجَّةُ به، ولا يُحمل على الاتَّصال حتَّى يثبت(6) أنَّهما التقيا في عمره مرَّة واحدةً أو أكثر، ولا يكفي إمكان تلاقيهما.
          ثمَّ قال: وهذا قولٌ ساقطٌ مخترعٌ مَستحدثٌ، لم يُسْبَق إليه، ولا مساعدَ إليه مِن أهل العلم عليه، وإنَّ القول به بدعةٌ باطلةٌ، وأطنب في الشناعة(7) على قائله.
          قيل: والذي(8) ردَّه هو المختار الصَّحيح الَّذي عليه أئمَّة هذا الفنِّ؛ البخاريُّ وغيره، والدَّليل عليه أنَّ المعنعن عند ثبوت التلاقي إنَّما يحصل على الاتِّصال، لأنَّ الظاهر مِمَّن ليس بمدلِّس، أنَّه لا يُطلق ذلك إلَّا على السَّماع، ثمَّ الاستقراء يدلُّ عليه، فإنَّ عادتهم أنَّهم لا يطلقون ذلك إلَّا فيما سمعوا، إلَّا المدلِّس، فإذا ثبت التَّلاقي؛ غلب على(9) الظَّنِّ الاتِّصال.
          ويُردُّ عليه أنَّ الكلام بعد شرط براءتهم عنِ التَّدليس، فبعد العلم بأنَّه لا تدليس فيهم؛ لم يبقَ احتمالٌ سوى السَّماع، / وليت شعري! مَن يقول: إنَّه لا يغلب(10) على الظَّنِّ الاتِّصال فيما إذا أمكن التَّلاقي؟! ولم يثبت هل يقول ببقاء غلبة(11) الظنِّ بأنَّه لا تدليس فيهم أو لا يقول به؟ وعلى الثَّاني يخرج الكلام عنِ المبحث؛ لِمَا عَرفْتَ أنَّ الكلام على تقدير تحقُّق الشَّرط، وعلى الأوَّل تلزم(12) المكابرة؛ ضرورةَ أنَّ مرجوحيَّة احتمال الاتِّصال مستلزم لراجحيَّة(13) احتمال التَّدليس، ومع ذلك كيف تبقى(14) غلبة الظَّنِّ بعدم التَّدليس فيهم؟
          وأَعْجبُ مِن هذا قولُ مَن قال: اختُلِف في المعنعن؛ فقال بعض العلماء: هو مرسلٌ، والصَّحيح [الذي] عليه الجماهير أنَّه متَّصل إذا أمكن لقاءُ مَن أُضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضًا؛ يعني: مع براءتهم عنِ التَّدليس.
          ثمَّ قال بعدما بيَّن أنَّ البخاريَّ لم يكتفِ بإمكان التَّلاقي، بل اعتبر ثبوت التَّلاقي مرَّة وأكثر: وهذا مِن جملة مرجِّحات «صحيح البخاريِّ» على «صحيح مسلم»، حيث لم يحمل البخاريُّ الحديث على الاتِّصال حتَّى يثبت اجتماعُهما(15). انتهى.
          وذلك أنَّه بعد الحكم بأنَّ الصَّحيح هو الاكتفاء بإمكان التَّلاقي لا يبقى وجهٌ لِأن يُقال: إنَّ عدم الاكتفاء به(16) مِن جملة مرجِّحات «صحيح البخاريِّ» على «صحيح مسلم» لأنَّه حينئذ يكون الشَّرط المذكور غيرَ صحيح، فلا يصلح اعتبارُه مرجِّحًا، كما لا يخفى.
          قال: (الحَارِث بْن هِشَامٍ). أقول: هو أخو أبي جهلٍ، وقد يُكتب بدون الألف تخفيفًا(17)، و(هشامٌ) بكسر الهاء وتخفيف الشِّين.
          قال: (سَأَلَ). أقول: السُّؤال إذا كان بمعنى الالتماس يتعدَّى إلى مفعوليه بنفسه، يقال: سألته الرَّغيفَ، وإذا كان بمعنى الاستفسار؛ يتعدَّى إلى الأوَّل بنفسه، وإلى الثَّاني بـ(عن)، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:83] وههنا بمعنى الاستفسار، إلَّا أنَّه حذف ثاني مفعوليه لانفهامه عنِ التَّفصيل المذكور بقوله: (فقال) والمعنى: سأل رسولَ الله صلعم عن كيفيَّة إتيان الوحي، ثمَّ إنَّ السُّؤال عن أظهر أقسام الوحي، الظاهر: وهو ما يكون بعبارة المَلَك بقرينة الجواب، فإنَّه ◙ أجاب ببيان كيفيَّة هذا القسم، ويحتمل أن يكون السُؤال عن إتيان مطلق الوحيِّ، ويكون الاقتصار(18) في الجواب عن كيفيَّة إتيان أحد أقسامه، لأنَّ السَّائل إنَّما يفهم هذا، ومقتضى البلاغة إيراد الكلام على قدر فهم المخاطب؛ ولذلك قال ◙: «كلِّم النَّاس على قدر عقولهم»، ويَرِدُ جوابهم بحسب مقولهم.
          قال: (يَأتِيكَ الوَحْيُ). أقول: الإتيان حقيقة مِن أوصاف الأجسام، والَّذي يوحى إليه ◙ مِن قبيل الأعراض، فلا بُدَّ له مِن صرف لفظ (يأتيك) إلى معنًى مجازيٍّ له(19)؛ وهو يصل إليك، ويظهر عندك، والاختلاف في التَّعدية _حيث كان لفظ (يأتي) متعدِّيًا بنفسه، ولفظا(20) (يصل) و(يظهر) متعدِّيان بالغير_ لا يضرُّ؛ لأنَّ ما هو المجازُ عن أحدِ المعنيين المذكورين مجموعُ (يأتيك)، لا (يأتي) وحده، فافهم، وإيَّاك أن تُوهم مِن ظاهر قولنا: (إنَّ ما هو المجازُ عن أحدِ المعنيين المذكورين مجموعُ «يأتيك»، لا «يأتي» وحده)(21) ألَّا يكون التَّجوُّز في المسنَد وحده، بل في المسنَد والمسند إليه معًا؛ لظهور بطلانه، فإنَّ المسنَد إليه على حاله لا تصرُّف فيه، نعم؛ في نفس المسنَد له نوعُ تصرُّفٍ؛ حيث كان تعلُّق معنى (يأتي) له قويًّا غير محتاجٍ إلى الواسطة بخلاف تعلُّق معنى (يصل) و(يظهر) فإنَّهما ضعيفان محتاجان إلى الواسطة، وللتنبيه على هذا قلنا: (إنَّ ما هو المجاز ليس «يأتي» وحده).
          وأمَّا احتمال التَّجوُّز في الإسناد فيأباه المقام؛ لأنَّ السُّؤال عن كيفيَّة إثبات الوحي نفسه، لا عن كيفيَّة إتيان مبلِّغه على ما يُفصِح عنه قوله ◙ في الجواب: «أحيانًا يأتيني المبلِّغ(22) » كما لا يخفى، ولا يلزم مِن ذلك ألَّا يكون الآتي مِن القسم الأوَّل للوحي الظَّاهر؛ لأنَّ ما مُثِّل له بصلصلة الجرس، إنَّما هو عبارة المَلَك حال تبليغه، غايته أنَّه لم يتعرَّض لحاله؛ لعدم ظهوره حينئذ، لا في صورة مَلَكيَّة ولا في صورة بشريَّة، والحمل على الاستعارة _بأن يُشبَّه الوحيُ برجلٍ، ويُنْسَب إلى المشبَّه ما هو مِن خواصِّ المشبَّه به؛ وهو الإتيان_ ممَّا لا يتحمَّله المقام؛ لأنَّ السَّائل في مقام الاستفسار عن حال الوحي، فليس له التصرُّف(23) فيه بالتَّشبيه والتَّمثيل، وإنَّما ذلك وظيفة المسؤول عنه، كما لا يخفى على مَن له ذوقٌ سليمٌ. /


[1] أي: يؤسف.
[2] في (ب): (المحدثين).
[3] في (ب): (الحديث وليس).
[4] زيد في (ب): (لتوهم)، وهو تكرار.
[5] في (ب): (تقول).
[6] في (ب): (ثبت).
[7] في (ب): (وأطنب الشفاعة).
[8] (والذي): ليس في (ب).
[9] في (ب): (علت عن).
[10] في (ب): (تغلب).
[11] في (ب): (مظبة).
[12] في (ب): (يلزم).
[13] في (ب): (يستلزم الراجحية).
[14] في (ب): (يبقى).
[15] في (ب): (ثبت اجتماعها).
[16] (به): ليس في (ب).
[17] أي: الحرث.
[18] في (ب): (الاقتضاء).
[19] (له): ليس في (ب).
[20] في (ب): (ولفظ).
[21] زيد في (ب): (فافهم، وإيَّاك أن تُوهم مِن ظاهر قولنا: إنَّ ما هو المجازُ عن أحدِ المعنيين المذكورين مجموعُ «يأتيك»، لا «يأتي» وحده)، وهو تكرار.
[22] هذا اللفظ ليس في البخاري.
[23] (التصرف): ليس في (ب).