رسالة على أول صحيح البخاري

حديث: إنما الأعمال بالنيات

          قال: (الحُمَيْدِيُّ). أقول: (الحُمَيدِيُّ) بصيغة التصغير وياء النسبة، منسوب إلى جدِّه(1) الأعلى حُمَيدٍ، القرشيُّ الأسديُّ، وقِسْ على هذا حالَ (التيميِّ) و(الليثيِّ) فإنَّهما منسوبان إلى (تَيْمٍ) و(لَيثٍ).
          ثمَّ إنَّ الفرق بين (حدَّثَنا) و(حدَّثَني) مبنيٌّ على القاعدة المعروفة عند أهل هذه الصنعة، وهي أنَّه(2) يقول فيما سمعه وحدَه مِن لفظ الشيخ: (حدَّثني)، وفيما سمعه مع(3) غيره من لفظ الشيخ: (حدَّثنا)، وفيما قرأه وحدَه على الشيخ: (أخبرني)، وفيما قرأه بحضرته في جماعة على الشيخ: (أخبرنا)، وهذا اصطلاحٌ(4) معروفٌ عندهم.
          قال: (سَمْعَ عَلْقَمَةَ). أقول: إنَّ ههنا ثلاث(5) درجاتٍ: / السماعُ والحديثُ والإخبارُ، والجمهور على أنَّ أعلاها: (سمعته) ثمَّ (حدَّثَني) ثمَّ (أخبرني).
          ومعنى (سمع علقمةَ يقول): سمع منه قولَه، على أنَّ الفعل في تأويل المصدر، قال الواحديُّ في تفسير قوله تعالى: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:25]: معناه: فاسمعوا منِّي، قاله أبو عبيدة والمبرِّد، قال: ومثل قولك: سمعتُ فلانًا، والمسموعُ قولُه، ولكنَّه مِنَ المحذوف، وهو مِن أكثر الكلام يجري على الألسنة، وحقُّ الكلام أن يقولَ(6): سمعتُ مِن فلان ما قال.
          قال: (عَلَى المِنْبَرِ). أقول: (المِنْبَر) بكسر الميم، على صيغة اسم الآلة، مشتقٌّ مِنَ النَّبْر، وهو الارتفاع، واللام للعهد، والمعهودُ مِنْبَرُ رسولِ الله صلعم بالمدينة.
          قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ). أقول: كانت الترجمة لبيان بُدُوِّ الوحي، والحديثُ لبيان كون الأعمال محتاجةً إلى النِّيَّة، واعتُذِر بأنَّ المصنِّف أورد هذا الحديثَ بدلًا مِنَ الخُطبة وأنزله منزلها، والسلف كانوا يستحبُّون الافتتاح بحديث النِّيَّة بيانًا لإخلاصهم فيه، ولا يذهب عليك أنَّ المناسبَ لهذا الاعتبار تقديمُ حديث الخُطبة على الترجمة.
          قال: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ). أقول: النِّيَّة هي الإرادةُ والقصدُ، سواء كان المرادُ فِعلًا أو تَرْكًا، ومَن خصَّه بالفعل فقد أخطأ؛ لأنَّ الكلام على وَفْق اللغة، وهي لا تساعد تعميمَ الفعل للتَّرْكِ، ومَن فسَّرَ (النيَّة) بعزيمة القلب فقد أفرط، حيث جاوز عن الحدِّ، فإنَّ(7) العزيمةَ فوق الهمَّة، والنيَّة دونها، ومَن قال(8): إنَّ النِّيَّة عبارةٌ عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرضٍ مِن جَلْبِ نفعٍ أو دفعِ ضرٍّ حالًا أو مآلًا؛ فقد فسَّرها بأمرٍ عامٍّ لتحقُّقه في الشوق والإرادة.
          ثمَّ إنَّ القصدَ توجُّهُ القلبِ نحو شيءٍ، ومَن قال: إنَّه عزيمة القلب فقد أخطأ؛ لأنَّ العزيمةَ تصميمٌ(9) للقصد وتوطينُ النفس عليه، ومَن قال في رَدِّه: إنَّ القصدَ إلى الفعل هو ما نجده مِن أنفسنا حال الإيجاد، والعزم قد يتقدَّم عليه(10)؛ فقد أتى بشيءٍ حيث لم يصرِّح بوجود العزم قبل القصد، ولم يقل به أحدٌ مِن ذوي الألباب.
          اعلم أنَّ دواعيَ الإنسان إلى الفعل _على ما ذكره الراغبُ الأصفهانيُّ في «تفسيره»_ على مراتبَ: السانح ثمَّ الخاطر ثمَّ الفكر(11) فيه ثمَّ الإرادة ثمَّ الهمَّة ثمَّ العزم، فالهمَّة: إجماعُ النفس على الأمر وإزماعٌ عليه، والعزمُ: هو العقد على إمضائه؛ ولهذا قال الله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [آل عمران:159].
          والمرادُ مِنَ «العمل» الفعلُ الشامل للقول، فيدخل فيه الأذكارُ دون العقائد، وقرينُه قرينةٌ لذلك، فإنَّ للذِّكْرِ اللِّسانيِّ تعلُّقٌ بالنِّيَّة دون العقد القلبيِّ، وذلك معلومٌ بالوجدان، فمَن قال: (فإن قلت(12): النيَّةُ عملٌ؛ لأنَّه مِن أعمال القلب، فإن احتاجَ(13) كلُّ عملٍ إلى نيَّة(14) فالنيَّة أيضًا تحتاج(15) إلى نيَّة، وهلمَّ جرًّا، قلت: المرادُ بـ«العمل» الجوارحُ نحو الصلاة والزكاة، وذلك خارجٌ عنه بقرينة الفعل دفعًا للَّبْسِ(16)) فقد أخطأ في إيراد السؤال، ولم يُصِب في تقرير الجواب؛ حيث خصَّ «العمل» بما يحصل بالجوارح، فَخَرَج عنه فعلُ اللسان بعدم إطلاق الجارحة(17) عليها، وزعم أنَّه لو احتاج النِّيَّةُ(18) إلى نيَّةٍ أخرى؛ لَلَزِم اللَّبسُ، وغفل عن أنَّ اللازمَ على التقدير المذكور احتياجُ النِّيَّةِ إلى نيَّةٍ أخرى في ترتُّب(19) أمرٍ عليها(20)، لا في تحقُّق نفسها، فغاية ما لزم مِن وجوب انتهاء السلسلة ألَّا يرتب ذلك الأمر على بعض النِّيَّات.
          وإنَّما ذُكِرَ كلٌّ مِنَ (العمل) و(النيَّة) على صيغة الجمع؛ لأنَّ المرادَ الأنواعُ، فإنَّ المعتبرَ في كلِّ نوعٍ مِنَ العمل نوعٌ مِنَ النِّيَّة مناسبة، ولذلك لا يكفي في الوضوء نيَّةُ غسل الأعضاء، ولو قيل: إنَّما العمل بالنيَّة لفات بهذا المهمُّ، وهذا ممَّا وُفِّقنا باستخراجه، لا يُقال: إنَّ دخول أداة التعريف يُبطِل / معنى الجمع؛ لأنَّه ليس بعامٍّ، بل مخصوصٌ بمواضعِ النَّفي على ما نصَّ عليه الإمام فخرُ الإسلام البَزدَويُّ في «أصوله».
          وتصديرُ(21) الحديث بلفظة (إنَّما) لإفادة الحصر، ذهب العلَّامة الزَّمخشريُّ إلى عدم الفرق بين (إنَّما) بالكسر و(أنَّما) بالفتح في إفادة الحصر، ورَدَّ عليه أبو حيَّان بأنَّ هذا شيءٌ انفرد به الزَّمخشريُّ، ولا يُعرَف القول بذلك إلَّا في (إنَّما) بالكسر، وقال ابنُ هشام في «مغني اللبيب»: ردُّه مردودٌ؛ فإنَّهما قد اجتمعا في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء:108] فالأُولى لقصر الصِّفة على الموصوف، والثانية بالعكس، فإذا تقرَّر أنَّ التركيبَ المذكورَ يفيدُ الحصرَ فظاهرُ الحديثِ متروكٌ؛ لوجود العملِ حقيقةً بدون النِّيَّة، فلا بُدَّ مِن تقدير شيءٍ، ولأنَّ العاملَ مقدَّرٌ في قوله: «بالنِّيَّات»، إذ لا بُدَّ للجارِّ والمجرور مِن متعلَّقٍ إذا وقع خبرًا لمبتدأ، ولا يجوز تعلُّقه بقوله: «إنَّما الأعمال» لأنَّه رفع بالابتداء فبقي بلا خبرٍ، فلا يجوز.
          والمقدَّر هو (الثوابُ) دون (الصِّحَّة) فإنَّ كثيرًا مِنَ الأعمال توجد وتُعتَبَر شرعًا بدون النِّيَّة، كغسل النجاسة وستر العورة، ولأنَّ قولَه: «ولكلِّ امرئٍ ما نوى» يدلُّ على الثواب والأجر؛ لأنَّ الذي له إنَّما هو الثواب، وأمَّا العملُ فعليه، ولأنَّ آخِرَ الحديث قرينةٌ لذلك على ما ستقفُ عليه إن شاء الله(22).
          ومنهم مَن قال في تقدير [الثواب]: وجهُ تقدير الثواب أنَّ الثوابَ منوطٌ بالنِّيَّة اتِّفاقًا، فلا بدَّ أن يُقدَّر الثواب، أو يُقدَّر شيءٌ يشمل الثواب؛ نحو: حكمُ الأعمال بالنِّيَّات، فإن قُدِّر (الثواب) فظاهرٌ، وإن قُدِّرَ (الحكمُ) وهو نوعان: دنيويٌّ كالصِّحَّة، وأخرويٌّ كالثواب، والأخرويُّ مرادٌ بالإجماع، فإذا قيل: (الأعمال بالنِّيَّات) ويُرَاد به (الثواب) صَدَق الكلام، فلا دلالة على الصِّحَّة(23).
          ويتَّجه على تفريع قوله: (فلا بُدَّ أن يقدَّر الثواب) أن يُقال: لا يلزم مِن كون الثواب منوطًا بالنِّيَّة بالاتِّفاق أن يُراد(24) مِن هذا الحديث الثوابُ، بل يجوز أن يكون شيءٌ آخَرُ منوطًا بالنيَّة، كما أنَّ الثواب كذلك، ويراد ذلك الشيء مِن هذا الحديث لدليلٍ أو قرينةٍ، لا الثواب؛ لأنَّ موافقةَ الحكم للدليل لا يقتضي إرادة منه وثبوته ألبتَّة، نعم إذا لم يكن مانعٌ عنِ الجمع بجواز إرادتهما معًا، وهذا المانعُ موجودٌ، فلا يُرَاد إلَّا أحدهما، والتعيين لمرجِّح، ثمَّ إنَّ مقتضى ما ذكره إرادة الثواب ههنا أو شيء يشمله، وطريقها غير منحصرٍ في التقدير، فإنَّ المجازَ أيضًا طريقٌ لها، والتجوُّزُ بالشيء عن حكمٍ سائغٌ شائعٌ.
          فإن قلت: هل يجوز دفع المحذور المتوجِّه على ظاهر الحديث بتخصيص الأعمال بالعبادات؟
          قلت: قد ذهب إليه بعضُهم وآثره على غيره، ولا مساغَ له؛ لأنَّ آخِرَ الحديث _وهو قوله: «ومَن كانت هجرته إلى دنيا»_ يأباه؛ لأنَّ تلك الهجرةَ ليست مِنَ العبادات، وقد ذكره في صَدَدِ تفصيل تَعلُّق الأعمال بالنِّيَّات.
          فإن قلت: ما بالُ تقدير الحكم بدل الثواب؟
          قلت: لا أرى فيه وجهَ الصوابِ وإن جوَّزه القوم؛ إذ لا صحَّة لتعميمٍ للحكمِ الدنيويِّ؛ لأنَّه يشمل الفسادَ، ولا يلزم نيَّةٌ(25) في ثبوته، ومَن غفل عن لازمِ شموله للفساد قال: للخصم أن يقول: إنِّي أحمله على الصِّحَّة _أي: على الدنيويِّ_ بناءً على أنَّ الرسول ◙ بصدد بيان الحِلِّ والحرمة، والصحَّةِ والفساد، ونحوِ ذلك، فهو أقربُ إلى الفهم، فله دلالةٌ على الصِّحَّة، فيكون المعنى: صحَّة الأعمال بالنِّيَّات، وعلى تقدير تخصيصه بالأخرويِّ أيضًا تَكَلُّفٌ؛ لأنَّ أحكامَ الآخرة(26) نوعان: جزاء الحسنة وهو الثواب، وجزاء السَّيِّئة وهو العقاب أو العتاب، والثاني غيرُ مشروطٍ بالنِّيَّة، فمَن قتل نفسًا بغير حقٍّ خطأً يُؤَاخذ به في الآخرة؛ ولذلك يجب به الكفَّارةُ على ما حُقِّق في موضعه.
          فإن قلت: ما بالُ التُّروك؟
          قلت: لا شبهةَ في أنَّ الترك _بمعنى كفِّ النفس_ منوطٌ بالنِّيَّة في ترتُّب / الحكم الأخرويِّ عليه، فإنَّ مَن كفَّ نفسَه عن الزِّنى بنيَّته(27) الانتهاء بنهي الله تعالى يُثَاب عليه، ومَن كَفَّ نفسَه عنه بدون هذه النِّيَّة لا يُثَاب عليه، إلَّا أنَّ النظر في شُمول لفظ (العمل) للتُّروك بالمعنى المذكور، والظاهرُ عدمُ شموله له؛ لأنَّه مِن أفعال القلب، فإنَّ (العملَ) عند الإطلاق [يُصرَف] إلى عمل غير القلبيَّة، ألا ترى أنَّك تقول: ما عملتُ اليوم شيئًا، وإن كنتَ قد عملتَ بقلبك ألفَ شيءٍ.
          فإن قلت: قد بان أنَّ العمل لا يُثَاب عليه بدون النيَّة(28)، فهل يُثَاب على النِّيَّة بدون العمل؟
          قلت: نعم على ما ظهر ممَّا رُوِيَ عنه ◙ أنَّه قال: «مَن همَّ بحسنةٍ ولم يعملها كُتِب له واحدة، ومَن عملها كتب له عشرًا».
          فإن قلت: المفهوم مِن هذا الحديث أن تكون النِّيَّة دون العمل، وقد فُهِم مِن قوله ◙: «نيَّة المؤمن خيرٌ مِن عمله» أن يكون النِّيَّة فوقها، وبينهما منافاةٌ.
          قلت: المفهوم مِنَ الحديث الأوَّل أن تكون النِّيَّة دون الحسنة في الثواب، والمفهوم مِنَ الحديث الثاني أن يكون النِّيَّة أولى مِنَ العمل، ولا منافاةَ بينهما؛ لأنَّ العملَ أعمُّ مِنَ الحسنة، والأولويَّة لا تلزم أن تكون مِن جهة الثواب؛ إذ يجوز أن يكون مِن جهةٍ أخرى كتنوير القلب، فإنَّه أثرُ النِّيَّة الخالصة، وأفضلُ أحوال المؤمن(29)؛ لأنَّ القلبَ أشرفُ أعضائه، والطاعةُ إنَّما تنوِّره بواسطتها، ولو سُلِّم أنَّ أولويَّتَها مِن جهة الثواب، لكن لا يلزم منه أن يكون مِن جهة كثرته؛ إذ يجوز أن يكون مِن جهة دوامه، وقد قيل: إنَّ خلودَ المؤمنِ في الجنَّة جزاءُ نيَّته؛ لأنَّه كان ناويًا أن يطيعَ الله أبدًا، فجوزيَ بالأجر المؤبَّد، ولو(30) سُلِّم أنَّها مِن جهة كثرته، لكن لا نُسَلِّم دلالة الحديث الأوَّل على أنَّ النِّيَّة دون عمل الحسنة مِن جهة كثرة الثواب، فإنَّ المفهوم منه أن يكتب في مقابلة عملِ حسنةٍ عشرًا مِنَ الحسنات، ولا يلزم منه أن يكون ثوابُها أكثرَ مِن ثواب النِّيَّة، وإنَّما يلزم ذلك إن لو ثبتَ مساواةُ الحسناتِ المكتوبة في الثواب، ولم يثبت ذلك، فيجوز أن تكون الحسنةُ المكتوبةُ في مقابلة النِّيَّة أكثرَ ثوابًا مِنَ الحسنات المكتوبة في مقابلة العمل، بل نقول: لا نُسَلِّم أنَّ كلَّ الحسنة المكتوبة يُثَاب عليها، لِمَ لا يجوز أن تكون جزاءُ بعضها دفع العذاب والخلاص عن حقوق بعض العباد كما ورد في بعض الأحاديث؟!
          فإن قلت: إنَّ المراد مِنَ (العمل) في الحديث الثاني ما تقارنُه النِّيَّة، فلا يكون إلَّا حسنة، فما وجهُ كونه أعمَّ منها؟
          قلت: لا نُسَلِّم أنَّ المراد مِنَ (العمل) ما يقارن النِّيَّة، فإنَّ تحقيق أهلِ الخبرة فيه(31) _يُحصِّل تفضيل النِّيَّة عليه(32)_ لا يستدعي ذلك، كيف؟ فإنَّ الأعمالَ الحسنةَ الاتِّفاقيَّة مِن قَبِيل الخير؛ ضرورةَ أنَّها ليست بشرورٍ، ولا واسطةَ بينهما، ولا نيَّةَ فيها، وقد يُقَال في تفضيل النِّيَّة على العمل: إنَّ العملَ يدخل فيه الرياءُ، بخلاف النِّيَّة، لا يُقال: إنَّ العمل إذا دخل فيه الرياءُ لا يكون خيرًا، ولا وجهَ لتفضيل النِّيَّة عليه في الخيريَّة؛ لأنَّا نقول: دخولُ الرياء فيه يمنع ترتُّبَ الثواب عليه، لكن لا يخرج عن حدِّ الخير، فإنَّ مَن بنى مسجدًا رياءً فاعلٌ للخير بلا شُبهةٍ وإن كان محرومًا عن الثواب لعدم إخلاصه.
          ومَن قال: (يحتمل أن يكون المراد منه _يعني: من الحديث الثاني_ أنَّ النِّيَّة خيرٌ مِن عملٍ بلا نِيَّة؛ إذ لو كان المراد خيرٌ مِن عملٍ مَعَ النيَّة؛ يلزم أن يكون الشيءُ خيرًا مِن نفسه معَ غيرٍ) فقد أصاب في ذكر الاحتمال وأخطأ في تعليله(33)، فإنَّه لا يلزم مِن عدم صحَّة المعنى الثاني أن يتعيَّن المعنى الأوَّل(34) لبقاء احتمالٍ آخَرَ؛ وهو أظهرُ الاحتمالات، / وهو أن يكون المراد أنَّ النِّيَّةَ المقارنةَ للعمل خيرٌ مِن عمل المقارن لها، فالأَولى أن يُكتفى بذكر الاحتمال المذكور؛ لأنَّه يكفي في منع التعارض بين الحديثَين كما لا يخفى.
          والأوجهُ عندي في التوفيق بين الحديثين هو أن يُقَال: إنَّ المفهوم مِنَ الحديث الأوَّل أنَّ النِّيَّةَ المجرَّدةَ دون العمل، والمراد مِنَ الحديث الثاني أنَّ النِّيَّة المقارنة للعمل فوق العمل، فلا منافاةَ بينهما؛ إذ لا خفاء في أنَّ النِّيَّة المؤدِّية إلى العمل يكون أقوى وأفضلَ مِنَ النيَّة الغير المؤدِّية إليها، فحقُّها أن يكون فوقها، وعلى هذا يكون الحسناتُ المكتوبةُ في مقابلة العمل مع النِّيَّة أكثرُها في مقابلة الجزء الأقوى؛ وهو النِّيَّة، فافهم هذا، فإنَّه دقيقة ما مسَّها إلَّا خاطري.
          وأمَّا احتمال أن يكون لفظةُ (مِن) في قوله ◙: «مِن عملِه» للبيان، ويكون المعنى: أنَّ نيَّة(35) المؤمن خيرٌ مِن جملة الحسناتِ الواقعة بعمله؛ فممَّا لا ينبغي أن يُلتَفَت إليه؛ لأنَّ شأنَه ◙ أعلى مِن أن يُنسَب إليه إرادةُ مثل هذا المعنى البعيد عنِ الفهم؛ لقصور الدلالة عليه في التركيب المذكور.
          وأمَّا ما قيل(36): (إنَّ الحديثَ المذكورَ ورد حين نوى المسلم بناءَ قنطرةٍ فسبق كافرٌ إليه، فالضمير راجعٌ إلى الكافر، والمعنى أنَّ نيَّة هذا خيرٌ مِن عمل ذلك) فمدخولٌ فيه؛ مِن حيث إنَّ حقَّ المقام في ذكر الكافر، لا إرجاع الضمير إليه؛ لِمَا فيه مِن المغلطة(37) المخلِّ للفصاحة كما لا يخفى، وأيضًا لو كان المعنى ما ذكر؛ لَمَا ساغ للرُّواة روايةُ الحديث المذكور مجرَّدًا عن سبب وُرُودِه؛ لتوقُّف فهم معناه على العِلم بسبب وُرُودِه.
          فإن قلت: قد قضيت حقَّ البيان(38) في نيَّته الحسنة، فما بال السيِّئة؟
          قلت: مذهبُ العامَّة عدمُ المؤاخذة بها(39) وبكلِّ ما في القلب _سوى الكفر_ قَبلَ العمل(40) إلَّا أن يعمل به؛ لقوله ◙: «إنَّ الله تجاوز لأمَّتي عمَّا حدَّثت به أنفسها ما لم تتكلَّم أو تعمل»، ولقوله ◙ حكايةً عنه تعالى: «إذا همَّ عبدي بسيِّئة(41) فلا تكتبوها عليه، فإن عمِلَها فاكتبوها، وإذا همَّ بحسنةٍ فلم يعملها فاكتبوها حسنةً، فإن عملها فاكتبوها عشرًا».
          ومذهبُ كثيرٍ مِنَ الفقهاء والمحدِّثين أنَّ أعمال القلب على نوعين(42): نوعٌ يُسَمَّى همًّا؛ وهو الذي يمرُّ على القلب مِن غير استقرارٍ، ونوعٌ يُسَمَّى عزمًا؛ وهو الذي تَوَطَّنُ النفس عليه، فما كان مِنَ النوع الأوَّل لا يُؤَاخَذُ العبد به، وما كان مِنَ النوع الثاني يُؤَاخَذ به، وقال بعضُ أهل التحقيق: الهمُّ همَّان: همٌّ ثابتٌ؛ وهو إذا كان معه عزمٌ وعقدٌ ورضًا؛ مثل همِّ امرأة العزيز، فالعبدُ مأخوذٌ به، وهمٌّ عارضٌ مِن غير اختيارٍ؛ وهو الخطرةُ وحديثُ النفس مِن غير اختيارٍ ولا عزمٍ؛ مثل همِّ يوسف ◙، فالعبد غيرُ مأخوذٍ به ما لم يتكلَّم أو يعمل به.
          قال: فنيَّة السَّيِّئة إن وصلت حدَّ العزم يُؤَاخذ بها، وإن بقيت في حدِّ الخطرة لا يُؤَاخذ بها.
          ومَن لم يفرِّق بينهما وقال: (إنَّ(43) السيِّئة أيضًا يُعاقَب عليها بمجرَّد النِّيَّة، لكن على النِّيَّة لا على السَّيِّئة، حتَّى لو عزم أحدٌ تركَ الصلاة بعد عشرين سنة يأثم في الحال؛ لأنَّ العزمَ مِن أحكام الإيمان، ويُعاقَب على العزم لا على ترك الصلاة) فقد أخطأ في تقرير الدعوى، ولم يُصِب في تحرير الدليل؛ لأنَّ النِّيَّة على ما اعترفتْ به نفسُه ليست بعزيمةٍ، فتعليلُه بقوله: (لأنَّ العزمَ) لا يُطَابِق المعلَّل؛ فتأمَّل.
          ثمَّ إنَّ ما ذكره مِنَ الفرق بين نيَّته الحسنة ونيَّة السَّيِّئة مِن حيث إنَّ نيَّة الحسنة يُثَاب الناوي على الحسنة، ونيَّة السَّيِّئة لا يُعاقَب عليها، بل على نيَّتها؛ لا يكاد يتمُّ على ما اختاره مِن [أنَّ] العبد يُؤاخَذ على نيَّته(44) السَّيِّئة مجرَّدةً عنِ العمل؛ لأنَّ السَّيِّئةَ حينئذٍ سيِّئةٌ قطعًا، كما أنَّ نيَّته الحسنةَ حسنةٌ، فالعقابُ على نيَّته السَّيِّئة عقابٌ على السَّيِّئة؛ كما أنَّ الثوابَ على نيَّته الحسنة ثوابٌ على الحسنة.
          فإن قلت: هل في قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}(45) [البقرة:286] دلالةٌ على عدم المؤاخذة بمجرَّد النيَّة في السَّيِّئة؟
          قلت: ظنَّ بعضُهم أنَّ فيهما دلالةٌ على ما ذكر، ولكنَّه مِن قَبِيل بعض الظنِّ، فإنَّ معناه: ينفعها(46) ما كسبت مِن خيرٍ، ويضرُّها ما اكتسبت مِن شرٍّ، لا يُؤاخَذ بذنبِها غيرُها، ولا يُثَاب غيرُها / بطاعتها، فأعمال(47) القلب ليست مِن قَبِيل الكسبِ؛ لأنَّ الكسبَ _على ما ذكر في «الكواشي»_ القولُ بِجرِّ نفعٍ أو دفعِ ضرٍّ؛ ولهذا [لا] يُوصَف به تعالى، وقال صاحب «التيسير»: هو اجتذابُ الحظِّ بما هي له مِنَ الأسباب، فلا تعرُّضَ في الآية للنِّيَّة.
          وذهب بعضهم في تقرير قوله ◙: «إنَّما الأعمال بالنِّيَّات» إلى أنَّ المعنى: أنَّ الأعمالَ تُحتَسَب إذا كانت(48) بنيَّةٍ، ولا تُحتَسَب إذا كانت بلا نيَّةٍ، ويردُّ عليه أنَّه مخالفٌ لِمَا نقله(49) القاشانيُّ في تفسير الآية السابقةِ ذِكْرها؛ مِن أنَّ صاحبَ اليمين يَكتُب كلَّ سيِّئةٍ صدرت عن صاحبها ولو اتِّفاقًا، وأمَّا صاحب الشمال فلا يَكتُب كلَّ حسنةٍ صدرت عن(50) صاحبها حتَّى مضت عليه ستُّ ساعاتٍ، فإنِ استغفرَ فيها أو تاب أو ندم؛ لم يَكْتُب وكان عفوًا، وإن أصرَّ كتب.
          فإن قلت: أليس الوجهُ المختار أيضًا مخالِفًا له؟
          قلت: ذلك الوجه إنَّما يكون مخالفًا له إن لو ثبت أنَّ كتابة الحسنات لا يكون إلَّا لإعطاء الثواب في مقابلتها، وذلك غيرُ ثابتٍ، فيجوز أن يكون كتابةُ بعضها رفع العذاب أو تخفيفه، ويكون كتابة الحسنات الاتِّفاقيَّة مِن ذلك القَبِيل.
          قيل: يُستَفاد مِنَ الحديث مسألةٌ أصوليَّة؛ وهي أنَّه لا يجوز تكليف الغافل، فإنَّ الفعل امتثالًا يعتمد العلم، ولا يكفي مجرَّد الفعل.
          فإن قلت: فما قولُك في إيجاب معرفة الله للغافل؟
          قلت(51): لا دخلَ له في المبحث؛ لأنَّ المرادَ تكليفُ الغافل عن تصوُّر التكليف، لا عن التصديق بالتكليف، ولهذا كان الكُفَّار مكلَّفين؛ لأنَّهم تصوَّروا التكليفَ لمَّا قيل لهم: إنَّكم مكلَّفون وإن كانوا غافلين عن التصديق.
          ويتَّجه أن يُقَال: ولأنَّ ما ذكره على عدم قدرة الغافل على الامتثال، لا عدم جواز التكليف _وإن تَشَبَّث فيه بلزوم تكليف ما لا يُطاق_ فهو كافٍ في أصل المطلوب بلا حاجةٍ إلى ضميمةٍ، فافهم مِنَ الحديث المذكور؛ لأنَّ المحذورَ المذكورَ على تقدير تكليف الغافل لازمٌ، سواء كان الفعلُ الذي يفعله الغافلُ امتثالًا أو لم يكن، / فلا وجهَ لتوزيع(52) المسألة المذكورة على الحديث المذكور.
          قال: (وَإِنَّمَا لِكُلِّ). أقول: بمعنى: ليس لأحدٍ مِن عمله إلَّا ما نواه عند العمل، ثمَّ إنَّه فَرقٌ بين قولنا: مَن نوى شيئًا لم يحصل له غيره، وبين قولنا: مَن لم ينوِ شيئًا لم يحصل له، فقوله: «إنَّما الأعمال بالنيَّات» يحتملهما(53)، وقوله: «إنَّما لامرئٍ ما نوى» يشيرُ إلى الأوَّل، وإلى أنَّ حُسنَ القَبول بحسن النيَّة منوطٌ، وأنَّ مقاديرَ المثوبات على مراتب النِّيَّات، وأمَّا أنَّ تعيينَ المنويِّ شرطٌ، فلا يكفيه أن ينويَ الصلاةَ الفائتةَ، بل يشترط(54) كونُها ظهرًا؛ فلا دلالة في القول المذكور عليه، نعم في القول الأوَّل نوعُ إشارةٍ إليه على ما ذكرناه فيما سبق، وكذا لا دلالةَ فيه على أنَّ النيَّاتِ إنَّما تكون مقبولةً إذا كانت مقرونةً بالإخلاص كما توهَّم، نعم فيه دلالةٌ على أنَّ حظَّ كلِّ امرئٍ مِنَ العمل على حسب ما نواه، فالنِّيَّة أصلٌ، والعملُ تابعٌ لها، فإن كانت خالصةً لله تعالى فهي له تعالى، وإن كانت للدنيا فهي لها، على ما يُفصِح عنه البيان الواقعُ بعده.
          و(كلُّ) لفظةٌ واحدةٌ، ومعناه جمعٌ، فعلى هذا نقول: كلٌّ حضر، وكلٌّ حضروا، على اللفظ مرَّةً وعلى المعنى أُخرى(55)، قال ابنُ هشامٍ: «كل» اسمٌ موضوعٌ لاستغراق أفرادِ المُنَكَّرِ؛ نحو: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، والمُعرَّفِ المجموع: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ} [مريم:95]، وأجزاءِ المعرَّف؛ نحو: كلُّ زيدٍ حسنٌ.
          قال : (امْرِئٍ). أقول: (الامرُؤ) و(المَرْء): الرجلُ، قَصَرَ عليه في «الصحاح»، وفي «القاموس»: الإنسان والرجل، والصحيحُ ما في «الصحاح»؛ لأنَّ تاء التأنيث تلحقهما، ويقال: (امْرَأة) و(مَرْأة)، ولا تلحق(56) (الإنسان)، ولا يقال: إنسانة(57)، بل يقال للمرأة أيضًا: إنسان، وذلك دليلٌ على أنَّ مفهوم (المرء) ليس هو مفهومَ (الإنسان)، ولا يُجمَع مِن لفظه، وإن جئتَ بألف الوصل كما في الحديث؛ كان فيه ثلاثُ لغاتٍ: فتح الراء على كلِّ حالٍ حكاه الفرَّاء، وضمُّها على كلِّ حال، وإعرابُها على كلِّ حال، تقول: هذا امرُؤٌ، ورأيتُ امرَأً، ومررتُ بامرِئٍ؛ / معرَبًا مِن مكانَين، وهذه امرَأة؛ مفتوحة الراء على كلِّ حالٍ(58).
          ثمَّ إنَّ تخصيصَ (المرء) بالذِّكْر لأصالته في الأحكام، لا لاختصاص الحكم، على ما أشرنا إليه فيما سبق، ولا حاجةَ إلى التجوُّز أو التقدير لتعميم الحكم للمرأة كما تُوُهِّمَ؛ لأنَّ الأصل في الأحكام المشتركة بين الرجل والمرأة أن يُذكَر في الرجل، ويُعلَم حكم المرأة منه بالتَّبَع؛ تقليلًا لذكر المرأة بقدر الإمكان، وهذه الدقيقةُ لكونها من محاسن الآداب شائعٌ اعتبارُها في كتاب الله تعالى وكلامِ رسوله ◙؛ كما لا يخفى على مَن تتبَّع مواردَ الأحكام الشرعيَّة.
          قال: (ما نَوَى). أقول: نوى الشيء نيَّةً: قصده، كذا في «القاموس»، وما ذكره الجوهريُّ حيث قال: (نويت نيَّةً؛ أي: عزمت) ليس بصحيحٍ؛ لأنَّ العزيمة على ما اعترف به نفسُه صريمةُ أمرٍ، ولا تقول [ذلك] إلَّا إذا أردتَ فعله وقطعتَ عليه، والنيَّة(59) تتحقَّق قبل ذلك، وقد مرَّت زيادةُ تفصيلٍ يَتَعلَّق بهذا المقام.
          قال: (فَمَنْ كَانَتْ). أقول: جزاء شرطٍ مقدَّر؛ أي: وإذا كانت الأعمال تابعة للنِّيَّات؛ فمَن كان هجرته إلى الله وإلى رسوله...، فالفاء للسببيَّة، لا للتَّفصيل كما توهَّم مَن قال: دلَّ قوله: «وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى» على أنَّ الأعمال بحسن النِّيَّة إن كانت خالصةً لله تعالى؛ فهي له تعالى، وإن كانت للدُّنيا فهي لها، وعلى هذا المعنى ينبغي أن يُحمَل ما بعد الفاء التفصيليَّة. انتهى.
          (كان) ناقصة، وخبرها: (إلى الله)، ويحتمل أن تكون(60) تامَّة، ويتعلَّق (إلى الله) بـ(هجرته)، والأوَّل أَولى؛ لأنَّ (إلى الله) في الجزاء لا يتعلَّق بـ(هجرته)، وحسنُ الانتظام بين طرفَي الكلام يقتضي أن يكون(61) ما في الجزاء على سنن ما في الشَّرط، وقد عرفتَ أنَّ المرادَ تمثيلٌ وتصويرٌ للحكم الكليِّ في جُزْئِيٍّ من المقال، فلا يتفاوت الحال ببقاء «كان» في المضيِّ، وانتقاله إلى معنى الاستقبال، هكذا حقِّق المقال، ولا تلتفِت إلى ما قد قيل أو يُقال.
          قال: (هِجْرَتُهُ). أقول: (الهجرة) في اللِّغة: التَّرك، وقد يُراد بها تركٌ مخصوصٌ؛ وهو ترك العشيرة والوطن، ومنه المهاجرين الَّذين تركوا وطنهم بمكَّة وتحوَّلوا(62) إلى المدينة، وعليه ورد قوله ◙: «لا هجرة بعد الفتح»، والهجرة المعهودة(63) في عهد النَّبيِّ ◙ قد كانت إلى الحبشة عندما آذى الكفَّارُ الصحابةَ، وقد كانت مِن مكَّة إلى المدينة، وقد كانت ممَّن أسلم مِن أهل مكَّة ليأتي إليه ◙ ثمَّ(64) يرجع إلى مكَّة، / وقد تكون(65) عمَّا نهى الله تعالى عنه، والحديث متناولٌ لهذه الأنواع كلِّها، ومَن قال(66): (وههنا أراد ترك الوطن ومفارقة الأهل) فقد أخطأ؛ إذ لا باعث للعدول عنِ المعنى النحويِّ العامِّ المناسب للمقام، ومفارقة الأهل ليست بشرطٍ في الهجرة المعهودة.
          قيل: لهذا الحديث سببٌ ذَكَرَهُ جمعٌ مِن أئمَّة(67) الحديث عن ابن مسعودٍ: أنَّ رجلًا كان يخطب امرأةً بمكَّة، يُسمَّى قيس، فأبت أن تَزَوَّجَ به، وهاجرت إلى المدينة فتبعها الرجل رغبةً في نكاحها، فقيل له: مهاجر(68) أمِّ قيسٍ، ورووا أنَّه ◙ قصد بهذا التعريض توبيخَه على صنعه ذلك، وزجرًا له ولغيره أن يقصدوا شيئًا ظاهره طاعة(69) وباطنه خلافها، وإيَّاك أن تَوَهَّم أنَّ ما ذُكِرَ يقتضي حمل الهجرة على الهجرة مِن مكَّة إلى المدينة(70)؛ لأنَّ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وقد تقرَّر في الأصول أنَّ مورد النصِّ لا يصلح مخصِّصًا لِمَا في عبارة النصِّ مِنَ العموم.
          قال: (إِلَى الله وَرَسُولِهِ؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ). أقول: أي: مَن قصد بهجرته القُربة إلى الله تعالى ورسوله ◙.
          ومَن ذهب عليه هذه الكناية؛ ذهب إلى تقدير(71): مقبولة، ثمَّ اعترض بفقد الدلالة على خصوص الخبر المحذوف، وقد تبيَّن بما ذُكِر أنَّ الجزاء متَّحدٌ مع الشرط صورةً، ومخالفٌ له في المعنى، وأنَّه ليس مِن قبيل:
أنَّا أبو النجم وشِعري شِعري                     كما سبق إلى بعض الأوهام
          ثمَّ إنَّ تكرار (إلى الله ورسوله(72)) في الجزاء لضرورة الاحتراز عمَّا في إتيان الضمير مِنَ الجمع بينَ الله تعالى ورسوله ◙ في ضميرٍ واحد(73)، وفيه ترك الأدب على ما أشار إليه(74) النبيُّ صلعم بقوله: «بئس خطيب القوم أنت! قل: ومَن عصى الله ورسوله فقد غوى» في الردِّ على مَن قام(75) بين يدي رسول الله ◙ وقال: (مَن أطاع الله ورسوله فقد اهتدى، ومَن عصاهما فقد غوى)، فالتكرار المذكور لتعظيم الله تعالى، لا لتعظيم الله الهجرةَ كما تُوهِّم.
          قيل: لا يوجد في بعض النسخ قوله: (فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فقد كانت هجرته إلى الله ورسوله)، والاعتماد على نسخة الإثبات؛ لِمَا سيأتي في هذا في غير موضعٍ مِن غير طريق الحميديِّ مُثبتًا فيه هذا القول، ومِن طريق الحميديِّ أيضًا رُوي الحديث تامًّا، فليس النقصان مِن جهته.
          قال: (إِلَى دُنْيا). أقول: بغير تنوين؛ لأنَّه تأنيث (الأدنى)، ثمَّ غُلِّب على هذه الدار، وإنَّما سُمِّيت دنيا؛ لدنوِّها منَّا، أو مِنَ الزوال، ومَن وَهِم أنَّ موصوفها محذوفةٌ؛ أي: الحياة الدنيا؛ فقد وهم، والعجب أنَّه بعدما ذهب إلى ما ذكر قال: إنَّ الوصفيَّة خُلِعت عنها رأسًا، وهل هذا إلَّا(76) تناقضٌ صريحٌ، وأعجب منه قوله: الدَّليل(77) على جعلها اسمًا، قلب الواو ياءً؛ لأنَّه لا يجوز القلب(78) إلَّا في (فُعْلَى)(79) الإسميَّة، فكأنَّه غَفِل عن كونها وصفًا قبل العلميَّة، فإنَّ القلب حينئذٍ موجودٌ ولا اسميَّة، ثمَّ إنَّها لمَّا كانت في الأصل وصفًا، امتنعت عن الصَّرف للوصفيَّة ولزوم التَّأنيث، فإنَّ عِلِّيَّة العلميَّة لا تمنع(80) تأثيرَ الوصفيَّة الأصليَّة في المنع عنِ الصرف على ما حُقِّق في محلِّه، وباعتبار غلبته على هذه الدار خَرَج عن حُكم الأوصاف، وأُجريَت مجرى ما لم يكن وصفًا، فجاز استعماله منكَّرًا غير مضافٍ، فلم يتَّجه على عبارة الحديث مثل ما اتَّجه على قول أبي نُوَاس:
كأنَّ صُغرى وكُبرى مِن مواقعها                     حصباءُ درٍّ على أرضٍ من الذَّهب /
          قال ابن الاثير في «المثل السَّائر»: وقول أبي نُوَاس: «صغرى وكبرى» غير جائزٍ، فإنَّ «فُعلَى [أفعل]» لا يجوز حذف الألف واللَّام منها، وإنَّما يجوز حذفها مِن «فُعلى» الَّتي لا «أفعل»(81) لها؛ نحو: «حُبْلى»، إلَّا أن يكون «فُعْلى» «أفعل» مضافة، وههنا قد عَريَت عن الإضافةِ وعن الألف واللَّام، فانظر كيف وقع أبو نُوَاس في مثل هذا الموضع مع قربه وسهولته؟!
          قال: (يُصِيبُها). أقول: أي: يريدها، مِن أصاب الشَّيء؛ بمعنى أراده، ذَكَرَه ابن فارس في «مجمل اللُّغة»، وعلى هذا معنى قوله: (يَتَزَوَّجها)(82) يريد: تزوَّجها، ومَن غفل عن هذا قال: أي: يصل إليها.
          قال: (أَوِ امْرَأَةً). أقول: إنَّما خصَّها بالذِّكر مع اندراجها تحت (دنيا يصيبها) تعريضًا وتوبيخًا بمهاجر(83) أمِّ قيس، وتنبيهًا على الإنابةِ، وقد مرَّ تفصيلُ قصَّته وكونه سببًا لورود الحديث.
          قال: (فَهِجْرَتُهُ). أقول: الجملة خبر المبتدأ الَّذي هو (من(84) كانت)، ودخول الفاء في الخبر لتضمُّن المبتدأ معنى الشَّرط، ثمَّ إنَّ ما ذكره في معرض الجزاء كناية عن عدم خطأ المهاجر المذكور مِنَ القربة والثَّواب، وبهذا الاعتبار تحصل(85) فائدةُ الإخبار، ومَن غفل عن هذا؛ قال: إنَّ الجزاءَ محذوفٌ، وهو: فلا ثواب له عند الله تعالى، والمذكور مستلزمٌ له دالٌّ عليه، أو فهجرته(86) قبيحةٌ خبيثة.
          اعلم أنَّ الحديث المذكور وقع ههنا مختصرًا، وهو طويلٌ مشهور، ذكر المصنِّف في سبعة مواضع مِن كتابه، فذكره ههنا، ثمَّ في (الإيمان) وفي (النِّكاح) و(العتق) و(الهجرة) و(ترْك الحِيَل(87)) و(النُّذور).


[1] في (ب): (هذه).
[2] في (ب): (أن).
[3] في (ب): (من).
[4] في (ب): (إصلاح).
[5] في (ب): (ثلاثة).
[6] (أن يقول): ليس في (ب).
[7] (عن الحدِّ فإن): ليس في (ب).
[8] القائل الكرماني في «الكواكب».
[9] في (ب): (تعميم).
[10] (عليه): ليس في (ب).
[11] في النسختين: (السايخ)، وعبارة مطبوع تفسير الراغب: «السابح ثمَّ الخاطر ثم التخيل والتفكير فيه».
[12] في النسختين: (احتياج).
[13] في (ب): (كل نية إلى عمل).
[14] (تحتاج): ليس في (ب).
[15] القائل هنا العيني كما في «العمدة».
[16] في «العمدة»: «للتسلسل»، وهي أولى.
[17] في النسختين: (الخارجة).
[18] في (ب): (نيته).
[19] في (أ): (ترتيب).
[20] (عليها): ليس في (ب).
[21] (وتصدير): ليس في (ب).
[22] زيد في (ب): (تعالى).
[23] (على الصحة): ليس في (ب).
[24] في الأصلين زيادة (بالحديث).
[25] في (ب): (نيته).
[26] في (ب): (الأخروية).
[27] في (ب): (بنية).
[28] (النيَّة): ليس في (ب).
[29] (المؤمن): ليس في (ب).
[30] في (ب): (ولم).
[31] (فيه): ليس في (ب).
[32] (النية عليه): ليس في (ب).
[33] في (ب): (يقليله)، وهو تحريف.
[34] (الأول): ليس في (ب).
[35] في (أ): (نيته).
[36] نقل ذلك الكرماني ومن بعده العيني.
[37] في (ب): (مغلطة).
[38] في (ب): (التبيان).
[39] (بها): ليس في (ب).
[40] (العمل): ليس في (ب).
[41] في (ب): (سيئة).
[42] في هامش (ب): (أعمال القلب على نوعين).
[43] (إن): ليس في (ب).
[44] في (ب): (نية)، وكذا في المواضع اللاحقة.
[45] في النسختين: (اكتسبت)، والمثبت موافق للتلاوة.
[46] في (ب): (ينقصها)، وهو تحريف.
[47] في النسختين: (في أعمال).
[48] في (أ): (كا).
[49] في (ب): (ذكره).
[50] في النسختين: (عنه).
[51] القائل الكرماني، وكذا التساؤل قبله والجواب عليه منه.
[52] في (ب): (لتوجيه).
[53] في النسختين: (يحتملها).
[54] في (ب): (يشتطر).
[55] (أخرى): ليس في (ب).
[56] في (ب): (يلحق).
[57] في هامش (أ): (إنسانة فتانة).
[58] زيد في (ب): (معربًا مِن مكانين، وهذه امرَأة؛ مفتوحة الراء على كلِّ حالٍ)، وهو تكرار.
[59] في (ب): (فالنية).
[60] في (ب): (يكون).
[61] (أن يكون): ليس في (ب).
[62] في (ب): (ويحولوا).
[63] (المعهودة): ليس في (ب).
[64] في (ب): (مم).
[65] في (ب): (يكون).
[66] لعله يقصد الكرماني، فهذا قوله في «الكواكب».
[67] في (ب): (الأئمة).
[68] في (ب): (فهاجر).
[69] (طاعة): سقط من (ب).
[70] في (أ): (مدينة).
[71] في (ب): (تقرير).
[72] في (ب): (وإلى رسوله).
[73] في هامش النسختين: (فيه إشكالٌ؛ فإنَّ النبيَّ ◙ جمع في أحاديث كثيرة؛ منها: ما في «المصابيح»: عن أنسٍ ☺ قال: قال رسول الله صلعم: «ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: مَن كان الله ورسوله أحبَّ إليه على ما سواهما ...» الحديث).
[74] (إليه): ليس في (ب).
[75] في (ب): (قال).
[76] في (ب): (إلى).
[77] في (ب): (والدليل).
[78] (القلب): ليس في (ب).
[79] في (أ): (الفعلى).
[80] في (ب): (يمنع).
[81] في (ب): (فعل).
[82] في (ب): (يزوجها).
[83] في (ب): (بهاجر).
[84] (من): ليس في (ب).
[85] في (ب): (يحصل).
[86] في النسختين: (في هجرته).
[87] في النسختين: (الخيل).