نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى

          6689- (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) أبو رجاء البلخي، قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ) هو: ابنُ عبد المجيد الثَّقفي، قال: (سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ) الأنصاري (يَقُولُ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) التَّيمي (أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) ☺ (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلعم يَقُولُ: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ) بالإفراد، وأفردها؛ لأنَّ المصدر يقوم مقام الجمع، وإنَّما يجمع لاختلاف الأنواع، وأصلها: نوية، فقلبت الواو ياء، ثمَّ أدغمت في الياء.
          وجملة: ((إنَّما الأعمال...)) إلى آخره في محلِّ مفعول «يقول»، وجملة «سمعت» مثلها ليقول، وسمع من الأفعال الصَّوتية إن تعلَّق بالأصوات تعدى إلى مفعولٍ واحدٍ، وإن تعلَّق بالذَّوات تعدَّى إلى اثنين، الثاني جملة مصدرة بفعل مضارع من الأفعال الصَّوتية هذا اختيار / الفارسي، ومن وافقه.
          واختار ابنُ مالك ومن وافقه: أن تكون الجملة الفعلية في محلِّ حال إن كان المتقدِّم معرفة كما وقع هنا، أو صفة إن كان المتقدم نكرة قالوا: ولا يجوز سمعت زيدًا يضرب أخاك، وإن تعدى إلى ذات؛ لعدم المسموع.
          نعم، قد يجوز بتقدير: سمعت صوت ضرب زيد، واللام في ((الأعمال)) للعهد في العبادات المفتقرة إلى نيَّةٍ فيخرج من ذلك نحو إزالة النَّجاسة والمتروكات كلِّها والأعمال مبتدأ بتقدير مضاف؛ أي: إنَّما صحَّة الأعمال، والخبر الاستقرار الَّذي يتعلَّق به حرف الجر، والباء في ((بالنية)) للتَّسبيب؛ أي: إنما الأعمال ثابتٌ ثوابها بسبب النِّيَّات، ويحتمل أن تكون للإلصاق؛ لأنَّ كلَّ عملٍ تلتصقُ به نية.
          (وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ) رجل وامرأة (مَا نَوَى) وفي رواية: <لكلِّ امرئ> و«ما» موصولة بمعنى الَّذي، وجملة: نوى لا محلَّ لها، والعائد ضمير مفعول محذوف تقديره: ما نواه، وإنما حذف؛ لأنَّه ضمير منصوب متصل بالفعل ليس في الصلة ضمير غيره، ويجوز أن تكون «ما» موصوفة، فيكون التَّقدير: وإنَّما لامرئٍ جزاء شيء نواه، فترجع الصِّلة صفة، والعائدُ على حاله، ويجوز أن تكون مصدرية حرفًا على المختار، فلا تحتاج إلى عائدٍ على الصَّحيح، والتَّقدير: ولكلِّ امرئٍ جزاءُ نيَّته، والفاعل المقدر في نوى ضمير مرفوع متَّصل مستتر تقديره: لكل امرئ الذي نواه هو.
          (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <وإلى رسوله> فمن شرطية موضعها رفع بالابتداء وبنيت؛ لتضمُّنها معنى حرف الشَّرط، وخبرها في فعلها. وقيل: في جوابها. وقيل: حيث كان الضَّمير العائد. وقيل: في فعلها وجوابها معًا، وكان ناقصة اسمها هجرته؛ أي: من تبين، أو ظهرَ في الوجود أنَّ هجرته لله، وإلى لانتهاء الغاية؛ أي: إلى رضا الله ورسوله.
          (فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <وإلى رسوله> الفاء سببية، وهي جواب الشرط، / وجواب الشرط جملة اسميَّة فلا بدَّ من الفاء، أو إذا كقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:36].
          وقاعدة الشَّرط وجوابه: اختلافهما، فيكون الجزاء غير الشرط نحو من أطاع أثيب، ومن عصى عوقب، ووقع هنا جملة الشرط هي جملة الجزاء بعينها فهي بمثابة قولك: من أكلَ أكل، ومن شربَ شرب وذلك غير مفيدٍ؛ لأنَّه من تحصيلِ الحاصل.
          وأُجيب: بأنَّه وإن اتَّحدا في اللَّفظ فلم يتحدا في المعنى، والتَّقدير: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله قصدًا فهجرته إلى الله ثوابًا وأجرًا. قال ابنُ مالك: من ذلك قوله صلعم في حديث حذيفة: ((ولو متَّ مِتَّ على غير الفطرة)). وجاز ذلك لتوقُّف الفائدة على الفضيلة، ومنه قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء:7]، فلولا قوله في الأول: ((على غير الفطرة))، وفي الثَّاني: {لِأَنْفُسِكُمْ} ما صحَّ، ولم يكن في الكلام فائدة.
          (وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) فهجرته جواب الشَّرط، ولم يقل: فهجرته إلى دنيا، كما قال في الشَّرط والجزاء الأوَّل إشارة إلى تحقير الدُّنيا.
          قال الحافظُ العسقلاني: ومناسبةُ الحديث للترجمة أنَّ اليمين من جملة الأعمال، فيُستدلُّ به على تخصيصِ الألفاظ بالنِّيَّة زمانًا أو مكانًا، وإن لم يكن في اللَّفظ ما يقتضِي ذلك، كمَن حلف أن لا يدخلَ دار زيدٍ، وأراد في شهر أو سنة مثلًا، أو حلف لا يكلِّم زيدًا، وأراد في منزله دون غيره، فلا يحنث إذا دخل بعد شهرٍ أو سنة في الأولى، ولا إذا كلَّمه في دار أخرى في الثانية، ولو أحلفه الحاكم على حقٍّ ادَّعى عليه انعقدتْ يمينه على ما نواه الحاكم، ولا تنفعه التَّورية اتِّفاقًا، فإن حلف بغير استحلاف حاكم نفعته التَّورية، لكنَّه إن أبطل بها حقَّ غير يأثم، وإن لم يحنث، ولو حلف بالطَّلاق نفعتْه التَّورية، وإن حلَّفه الحاكمُ؛ لأنَّ الحاكمَ ليس له أن يُحلِّفه بذلك، / قاله النَّووي.
          واستدلَّ به الشَّافعي ومن تبعَه فيمن قال: إن فعلتِ كذا فأنت طالقٌ ونوى عددًا أنه يعتبرُ العدد المذكور وإن لم يلفظَ به، وكذا من قال: إن فعلتِ كذا فأنت بائنٌ إن نوى ثلاثًا بانت، وإن نوى دونها وقع ما نوى رجعيًا.
          وخالف الحنفيَّة في الصُّورتين، واستُدلَّ به على أنَّ اليمين على نيَّة الحالف لكن فيما عدا حقوق الآدميين فهي على نيَّة المستحِلف، ولا ينتفع بالتَّورية في ذلك إذا اقتطع بها حقًّا لغيره، وهذا إذا تحاكما، وأمَّا في غير المحاكمة فقال الأكثر نيَّة: الحالف. وقال مالك وطائفة: نيَّة المحلوف له، وقد سبق أيضًا.
          وقد مضى الحديث في أول الكتاب [خ¦1]، وقد مرَّ الكلام فيه مستقصى.