نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك

          6538- (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن المديني، قال: (حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (أَبِي) هشام الدَّستوائي (عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة (عَنْ أَنَسٍ) ☺ (عَنِ النَّبِيِّ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <حدَّثنا أنس بن مالكٍ أنَّ النَّبي> ( صلعم كَانَ يَقُولُ) وسقط لفظ: «كان يقول» في رواية غير أبي ذرٍّ (ح) تحويلٌ من سندٍ إلى آخر.
          قال البخاري: (وَحَدَّثَنِي) بالإفراد (مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ) بفتح الميمين بينهما عين مهملة ساكنة آخره راء، القيسيُّ البصري، المعروف بالبحرانيِّ ضدُّ البراني، قال: (حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بضم العين وتخفيف الموحدة، قال: (حَدَّثَنَا سَعِيدٌ) بكسر العين، ابن أبي عَرُوبة، أخرجه من طريقين واللَّفظ لسعيدٍ، وأمَّا لفظ هشامٍ فأخرجه مسلمٌ والإسماعيليُّ من طرقٍ عن معاذ بن هشام عن أبيه بلفظ: ((يقال للكافر)) والثَّاني مثله، وهو بضم أول «يُجاء». و«يُقال»، وسيأتي بعد بابٍ في «باب صفة الجنَّة والنَّار» [خ¦6557] من رواية أبي عمران الجوني عن أنسٍ ☺ التَّصريح بأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الذي يقول له ذلك، ولفظه: ((يقول الله ╡ لأَهْوَنِ أهل النَّار عذاباً يوم القيامة: لو أنَّ لك ما في الأرض من شيءٍ لكنت تفتدي به، فيقول: نعم)).
          ورواه مسلمٌ والنَّسائي من طريقٍ ثابتٍ عن أنسٍ، وظاهر سياقه: أنَّ ذلك يُقال للكافر بعد أن يدخل النَّار، ولفظه: ((يُؤتى بالرَّجل من أهل النَّار، فيقال: يا ابن آدم كيف وجدتَ مضجعك؟ فيقول: شرَّ مضجعٍ، فيقول: هل تفتدِي بقُراب الأرض ذهباً؟ فيقول: نعم يا ربِّ، فيقول: كذبت)). ويحتمل أن يرادَ بالمضجع هنا: مضجعُه في القبر فيلتئمَ مع الرِّوايات الأُخر.
          (عَنْ قَتَادَةَ) أنَّه قال: (حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) ☺ (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلعم كَانَ يَقُولُ: يُجَاءُ) على البناء للمفعول، من المجيء (بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَ) أي: أخبرني (لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً، أَكُنْتَ) بهمزة الاستفهام على سبيل الاستخبار / (تَفْتَدِي بِهِ؟) بالفاء؛ أي: من النَّار (فَيَقُولُ: نَعَمْ) يا ربِّ (فَيُقَالُ لَهُ) زاد مسلمٌ: ((كذبت)).
          (قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ) بضم السين على بناء المفعول (مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ) أي: أهون وهو التَّوحيد، وفي رواية أبي عمران: ((فيقول: أردت منك ما هو أهون من هذا، وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلَّا أن تشرك)) [خ¦3334]. وفي رواية ثابت: ((قد سألتك أقلَّ من ذلك ولم تفعل فيؤمر به إلى النَّار)).
          قال القاضي عياض: يشير بذلك إلى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] الآية، فهذا الميثاق الذي أُخذ عليهم في صلب آدم، فمن وَفَّى به بعد وجوده في الدُّنيا فهو مؤمنٌ، ومن لم يَفِ به فهو الكافر؛ فمراد الحديث: أردت منك حين أخذت الميثاق، فأبيت إذ أخرجتك إلى الدُّنيا، ويحتمل أن يكون المراد بالإرادة هنا: الطَّلب، والمعنى: أمرتك فلم تفعل؛ لأنَّه سبحانه وتعالى لا يكون في ملكه إلَّا ما يريد.
          واعترض بعض المعتزلة وقال: كيف يصحُّ أن يأمر بما لا يريد؟ والجواب: أنَّ ذلك ليس بممتنعٍ ولا مستحيلٍ. وقال المازريُّ: مذهب أهل السُّنة أنَّ الله تعالى أراد إيمان المؤمن، وكفر الكافر، ولو أراد من الكافر الإيمان لآمن؛ يعني: لو قدَّره على الوقوع لوقع(1) .
          وقال أهلُ الاعتزال: بل أراد من الجميع الإيمان، فأجاب المؤمنُ وامتنع الكافر، فحملوا الغائب على الشَّاهد؛ لأنَّهم رأوا أنَّ مُريد الشَّرِّ شريرٌ، والكفر شرٌّ؛ فلا يصحُّ أن يريده الباري.
          وأجاب أهل السُّنة عن ذلك: بأنَّ الشَّر شرٌّ في حقِّ المخلوقين، وأمَّا في حقِّ الخالق، فإنَّه يفعل ما يشاء، وإنَّما كانت إرادة الشَّر شرًّا؛ لنهي الله عنه، والباري ليس فوقه أحدٌ، فلا يصحُّ أن تُقاس إرادته على إرادة المخلوقين.
          وأيضاً فالمريد لفعلٍ ما إذا لم يحصل على ما أراده آذن ذلك بعجزه وضعفهِ، والباري تعالى لا يوصفُ بالعجز والضَّعف، فلو أراد الإيمانَ من الكافر ولم يؤمن لآذن ذلك لعجزٍ وضعفٍ تعالى الله عن ذلك.
          وقد تمسَّك بعضُهم بهذا الحديث المتَّفق / على صحَّته. والجواب عنه ما تقدَّم، واحتجُّوا أيضاً بقوله تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]. وأُجيبوا: بأنَّه من العام المخصوص بمن قضى الله له الإيمان فعباده على هذا الملائكة ومؤمنو الإنس والجن.
          وقال آخرون: الإرادة غير الرِّضى، ومعنى قوله: {لاَ يَرْضَى}؛ أي: لا يشكره لهم ولا يُثْيِبُهم عليه، فعلى هذا فهي صفة فعل، وقيل: معنى الرِّضى أنَّه لا يرضاه ديناً مشروعاً لهم، وقيل: الرِّضى صفةٌ وراء الإرادة، وقيل: الإرادة تطلق بإزاء شيئين: إرادة تقديرٍ وإرادة رضى، والثَّانية أخصُّ من الأوَّل، والله ╡ أعلم، وقيل: الرِّضى من الله إرادة الخير كما أنَّ السَّخط إرادة الشَّر.
          وقال النَّووي: قوله: ((فيقال له: كذبت)) معناه: لو رددناك إلى الدُّنيا لَمَا افتديت؛ لأنَّك سُئلت أيسر من ذلك فأبيت، ويكون في معنى قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]، وهذا يجمع معنى الحديث مع قوله تعالى: {أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ} [الرعد:18].
          وفي الحديث من الفوائد: جواز قول الإنسان: يقول الله خلافاً لمن كرهَ ذلك. وقال: إنَّما يجوز قال الله، وهو قول شاذٌّ مخالفٌ لأقوال العلماء من السَّلف والخلف، وقد تظاهرتْ به الأحاديث، وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4].
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة من حيث إنَّ فيه نوع مناقشةٍ.
          وقد مضى الحديث في «كتاب الأنبياء» [خ¦3334].


[1] في هامش الأصل: في نسخة: لو قدره عليه لوقع.