نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: ذكروا النار والناقوس فذكروا اليهود والنصارى

          603- (حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ) ضد الميمنة (قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان التَّنوريُّ البصري، وقد تقدَّم ذكرهما في باب: «رفع العلم» [خ¦80] (قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ) وفي رواية: <خالد الحذاء>، وقد مرَّ غير مرَّة، (عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ) بكسر القاف، عبد الله بن زيد، (عَنْ أَنَسٍ) وفي رواية: <عن أنس بن مالك ☺>. ورجال هذا الإسناد كلهم بصريُّون.
          وقد أخرج متنه المؤلِّف في ذكر بني إسرائيل [خ¦3457]، وأخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه أيضاً.
          (قَالَ) أي: أنَّه قال: (ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ) وهو الذي يضربه النصارى لأوقات الصلاة، وهو على وزن فاعُول، وقد اختلف أنَّه معرَّب أو عربي؟
          وقال ابن الأعرابي: لم يأتِ في الكلام فاعول لامُ الكلمة فيه سينٌ إلَّا النَّاموس، وذكر ألفاظاً أُخر على هذا الوزن، ولم يذكر فيه النَّاقوس، والظَّاهر: أنَّه معرَّب.
          (فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) هكذا ساقه عبد الوارث مختصراً، ورواية عبد الوهَّاب الآتية في الباب الذي بعده أتمُّ منه حيث قال: لمَّا كَثُر الناس ذكروا أن يعلِّموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن يُوروا ناراً، أو يضربوا ناقوساً [خ¦606].
          وأوضح من ذلك رواية رَوْح بن عطاء، عن خالد عند أبي الشَّيخ، ولفظه: فقالوا: لو اتَّخذنا ناقوساً؟ فقال رسول الله صلعم : «ذاك للنَّصارى» فقالوا: لو اتَّخذنا بُوقاً، فقال: «ذلك لليهود» فقالوا: لو رفعنا ناراً، فقال: «ذاك / للمجوس».
          فعلى هذا كأنَّه كان في رواية عبد الوارث: ذكروا النار والنَّاقوس والبوق، وذكروا اليهود والنصارى والمجوس. واللَّف والنَّشر فيه على غير الترتيب، فالنار للمجوس، والنَّاقوس للنَّصارى، والبوق لليهود.
          وسيأتي في حديث ابن عمر ☻ التَّنصيصُ على أنَّ البوق لليهود.
          وقال الكرمانيُّ: يحتمل أن يكون النار والبوق جميعاً لليهود جمعاً بين حديثي أنس، وابن عمر ♥ ، ورواية رَوْحٍ تُغني عن هذا الاحتمال. وقد وقع في حديث أنس ☺ رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب «الأذان» تأليفه من حديث عطاء بن أبي ميمونة، عن خالد، عن أبي قِلابة، عن أنس ☺: كانت الصلاة إذا حضرتْ على عهد رسول الله صلعم سعى رجل في الطَّريق، فينادي: الصَّلاةَ الصَّلاةَ، فاشتدَّ ذلك على النَّاس فقالوا: لو اتَّخذنا ناقوساً. الحديث.
          (فَأُمِرَ بِلاَلٌ) بضم الهمزة على البناء للمفعول، وهذه الصِّيغة يحتمل أن يكون الآمر فيه غير النَّبيِّ صلعم . وفيه خلافٌ عند الأصوليين كما عُرِف في موضعه، لكن يُعيِّن كون الآمر هو النَّبي صلعم ما وقع مصرَّحاً به في رواية النَّسائي وغيره: عن قتيبة، عن عبد الوهَّاب بلفظ: أنَّ النَّبي صلعم أمر بلالاً.
          قال الحاكم: صرَّح برفعه إمام الحديث بلا مدافعة قتيبةُ. وقال الحافظ العسقلاني: ولم ينفردْ به؛ فقد أخرجه أبو عَوانة من طريق عبدان المروزي، عن قتيبة ويحيى بن معين كلاهما عن عبد الوهَّاب. وطريق يحيى عند الدَّارقطني أيضاً، ولم ينفردْ به عبد الوهاب. وقد رواه البلاذُريُّ من طريق ابن شهاب الخيَّاط عن أبي قِلابة.
          وقال الكرماني: قال بعضهم: إنَّ مثل هذا موقوف؛ لاحتمال أن يكون الآمر غير النَّبي صلعم ، ثم قال: والصَّواب: وعليه الأكثر أنه مرفوع؛ لأن إطلاق مثله ينصرفُ عُرفاً إلى الآمر والنَّاهي، وهو رسول الله صلعم .
          وأيضاً: مقصود الرَّاوي بيانَ مشروعيَّته، وهي لا تكون إلا إذا كان الأمر صادراً من الشارع، وقضيَّته: وقوع ذلك عقيب المشاورة في أمر النِّداء إلى الصلاة ظاهرٌ في أنَّ الآمر بذلك هو النَّبي صلعم لا غيره، كما استدلَّ به ابن المنذر وابن حبَّان.
          (أَنْ يَشْفَعَ) بفتح الياء والفاء (الأَذَانَ) أي: يأتي بألفاظه مثنَّاة إلا لفظ التَّكبير في أوَّله، فإنَّه أربع، وإلَّا كلمة التوحيد في آخره، فإنَّها مفردة، فالمراد معظم ألفاظه، (وَأَنْ يُوتِرَ) بضم التحتية وكسر الفوقية، من الإيتار (الإِقَامَةَ) أي: يأتي بألفاظها فرادى إلا لفظ الإقامة عند الشَّافعي، فإنه يثنَّى عنده، وأما لفظ التَّكبير، فإنه وإن كان صورتها مكرَّرة، لكنه بالنسبة إلى الأذان مفرد.
          وفي هذا الحديث التصريح بأنَّ الأذان مثنى والإقامة فرادى، وبه قال الشافعي وأحمد.
          وحاصل مذهب الشَّافعي: أنَّ الأذان تسعة عشر كلمة بإثبات التَّرجيع، والإقامة إحدى عشر كلمة. وأسقط مالك تربيع التَّكبير في أوَّله، وجعله مثنى، وجعل الإقامة عشرة بإفراد كلمة الإقامة.
          وقال الخطَّابي: والذي جرى به العمل في الحرمين والحجاز / والشام واليمن ومصر، والغرب إلى أقصى بلاد الإسلام أنَّ الإقامة فرادى. ومذهب عامِّة العلماء: أن يكون لفظ «قد قامت الصلاة» مكرَّراً إلا مالكاً، فالمشهور عنه أنَّه لا يكرِّره. وقال: فرق بين الأذان والإقامة في التَّثنية والإفراد؛ ليُعلَم أنَّ الأذان إعلام بورود الوقت، والإقامة أمارة لقيام الصلاة، ولو سوَّى بينهما لاشتبه الأمر في ذلك، وصار سبباً لأن يفوتَ كثيرٌ من الناس صلاةَ الجماعة إذا سمعوا الإقامة، فظنُّوا أنها الأذان. انتهى.
          وقال محمود العيني: والعجب من الخطَّابي كيف يصدر عنه مثل هذا الكلام الذي تمجُّه الأسماع، ومثل هذا الفرق الذي بيَّن بين الأذان والإقامة غير صحيح؛ لأنَّ الأول إعلام الغائبين، ولهذا لا يكون إلَّا على المواضع العالية كالمنابر ونحوها، والإقامة إعلام الحاضرين من الجماعة للصلاة فكيف يقع الاشتباه بينهما، بل التِّكرار في الأذان؛ ليكون أبلغَ في إعلام الغائبين، وأمَّا إفراد الإقامة؛ فلكونها للحاضرين لا يحتاج فيها إلى التِّكرار، وإنما كرَّر لفظ: «قد قامت الصلاة»؛ لكونه هو المقصود منها.
          قال: وأبعد من ذلك قوله: إنَّ تثنية الإقامة يكون سبباً لفوات كثيرٍ من النَّاس صلاة الجماعة؛ لظنِّهم أنَّها الأذان، وكيف يظنُّون هذا وهم حاضرون.
          هذا وقال أبو حنيفة ☼ : يثنِّي الإقامة أيضاً احتجاجاً بالأحاديث الصَّحيحة الدَّالة على تثنية الإقامة.
          منها: ما رواه البيهقي في «سننه الكبير» من حديث ابن المبارك، عن يونس، عن الزُّهري، عن سعيد، عن عبد الله بن زيد بن عبد ربِّه.
          وأبو عَوانة في «صحيحه» من حديث الشَّعبي عنه، ولفظه: «أذَّن مثنى، وأقامَ مثنى». وحديث أبي محذورة عند الترمذيِّ، وقد صحَّحه: «علَّمه الأذان مثنى مثنى، والإقامة مثنى مثنى». وحديث أبي جحيفة: «أن بلالاً ☺ كان يؤذِّن مثنى مثنى، ويُقيم مثنى».
          وروى الطَّحاويُّ من حديث وكيع، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن مجمِّع بن حارثة، عن عُبيد مولى سلمة بن الأكوع: أنَّ سلمة بن الأكوع كان يُثنِّي الأذان والإقامة.
          وروى أيضاً من حديث ثوبان ☺ بإسناده: أنَّه كان ثوبان يؤذِّن مثنى مثنى، ويُقيم مثنى. وقد روي عن علي ☺: أنَّه مرَّ بمؤذِّن أوتر الإقامة فقال له: اشفعها لا أمَّ لك.
          فقد ظهر بهذه الدَّلائل أنَّ قول النووي في «شرح صحيح مسلم»: وقال أبو حنيفة: الإقامة سبع عشرة كلمة، وهذا المذهب شاذٌّ. قولٌ واهٍ لا يلتفت / إليه، وكيف يكون شاذًّا مع وجود هذه الأحاديث الصَّحيحة، فإن قالوا: حديث أبي مَحْذورة لا يوازي حديثَ أنسٍ المذكور من جهةٍ واحدةٍ فضلاً عن الجهات كلِّها، مع أنَّ جماعةً من الحفَّاظ ذهبوا إلى أن هذه اللفظة في تثنية الإقامة غير محفوظة. ثم رووا من طريق البخاري عن عبد الملك بن أبي محذورة: أنَّه سمع أباه أبا محذورة يقول: إنَّ النبي صلعم أمره أن يشفعَ الأذان ويوتر الإقامة.
          فالجواب: أنَّ الترمذي قد صحَّحه، وكذا ابن خُزيمة وابن حبَّان صحَّحا هذه اللَّفظة.
          فإن قالوا: سلَّمنا أن هذه محفوظة، وأنَّ الحديث ثابت، ولكن نقول: إنَّه منسوخ؛ لأن أذان بلال هو آخرُ الأذانين.
          فالجواب: أنَّ حديث أنس ☺ دلَّ على أنَّ أذان بلال كان أوَّل ما شرع الأذانُ، وحديث أبي محذورة كان عام حُنين، وبينهما مدَّة مديدة. وقد روي عن النَّخعي أنَّه قال: أوَّل من أفرد الإقامة معاويةُ ☺.
          وقد روى الطَّحاويُّ بإسناده عن مجاهد أنَّه قال في الإقامة مرَّة مرَّة: إنما هو شيء أحدثه الأمراء، وكانت الإقامة في عهد النَّبي صلعم مثنى مثنى حتى استخفَّه بعض أمراء الجور لحاجة لهم، فليتأمَّل.
          فإن قيل: ظاهر الأمر الوجوب، لكن الأذان سنة.
          فالجواب: أن ظاهر صيغة الأمر الوجوبُ لا ظاهر لفظة: «أُمِر»، وهاهنا لم يذكر الصِّيغة، سلَّمنا أنَّه للإيجاب، لكنَّه لإيجاب الشفع لا لأصل الأذان، ولا شكَّ أن الشفع واجب؛ ليقع الأذان مشروعاً، كما أن الطَّهارة واجبةٌ؛ لصحة صلاة النفل.
          ولئن سلَّمنا: أنه لنفس الأذان يقال: إنَّه فرض كفاية؛ لأنَّ أهل بلدة لو اتَّفقوا على تركه قاتلناهم، أو أنَّ الإجماع مانعٌ عن الحمل على ظاهره، كذا قال الكرماني.
          وتعقَّبه محمود العيني: بأنه كيف يقول الإجماع مانع عن الحمل على ظاهره. وقد حمله قومٌ على ظاهره، فقال ابنُ المنذر: إنَّه فرض في حقِّ الجماعة في الحضر والسفر. وقال مالك: يجب في مسجد الجماعة. وقال عطاء ومجاهد: لا تصح صلاة بغير أذان، وهو قول الأوزاعي، وعنه: يعاد في الوقت. وقال أبو عليٍّ والإصطخري: هو فرض في الجمعة. وقالت الظَّاهرية: هما واجبان لكلِّ صلاة. واختلفوا في صحَّة الصلاة بدونهما. وقال داود: هما فرض الجماعة، وليسا بشرط لصحَّتها.
          وذكر محمد بن الحسن ما يدلُّ على وجوبه، فإنَّه قال: لو أنَّ أهل بلدة اجتمعوا على ترك الأذان لقاتلتهم عليه، ولو تركه واحدٌ ضربتُه وحبستُه. وقيل: / إنه عند محمد من فروض الكفاية. وفي «المحيط»، و«التحفة»، و«الهداية»: الأذان سنَّة مؤكَّدة، وهو مذهب الشافعي، وإسحاق. وقال النووي: وهو قول جمهور العلماء، وقد تقدم ذكر منشأ الخلاف في ذلك.