نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: أعطها ولو خاتمًا من حديد

          5029- (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ) بفتح العين، فيهما وآخر الثاني نون، / هو: ابنُ أوس الواسطي، نزل البصرة، وروى مسلم عنه بواسطة، قال: (حَدَّثَنَا حَمَّادٌ) هو: ابنُ زيد (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) بالحاء المهملة والزاي، سلمة بن دينار (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) بسكون الهاء والعين، السَّاعدي الأنصاري ☺، أنَّه (قَالَ: أَتَتِ النَّبِيَّ صلعم امْرَأَةٌ) اختُلِفَ في اسمها فقيل: هي خولة بنتُ حكيم، وقيل: هي أمُّ شريك الأزديَّة، وقيل: ميمونة، حكى هذه الأقوالَ الثَّلاثة أبو القاسم بن بشكوال في كتاب «المبهمات».
          وقال الشَّيخ زين الدين: لا يصحُّ شيءٌ من هذه الأقوالَ الثَّلاثة؛ أمَّا خولة فإنَّها لم تتزوَّج، وكذلك أم شريك لم تتزوَّج، وأمَّا ميمونة ♦ فكانت إحدى زوجاتهِ صلعم ، فلا يصحُّ أن تكون هذه؛ لأنَّ هذه قد زوَّجها لغيره.
          (فَقَالَتْ: إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِه) وفي رواية أبي ذرٍّ عن الحَمُّويي: <وللرسول> (فَقَالَ) صلعم لها: (مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَالَ رَجُلٌ) لم يُسَمَّ: (زَوِّجْنِيهَا) يا رسول الله (قَالَ) صلعم : (أَعْطِهَا ثَوْبًا) صداقًا (قَالَ: لاَ أَجِدُ) ثوبًا (قَالَ: أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) أي: ولو كان الذي تعطيها خاتمًا، وكلمة ((من)) بيانيَّة، ويروى: <ولو خاتم> بالرفع، فوجهُه إن صحَّت الرِّواية أن يكون مرفوعًا بكان التَّامة المقدَّرة؛ أي: ولو كان خاتم.
          (فَاعْتَلَّ لَهُ) أي: حزنَ وتضجَّر لأجل ذلك، وقد جاء اعتلَّ بمعنى تشاغلَ (فَقَالَ) ويروى(1) : <قال> بدون الفاء؛ أي: النَّبي صلعم (مَا مَعَكَ) أي: أي شيءٍ تحفظُه (مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ: كَذَا وَكَذَا) أي: معي سورة كذا وكذا. وقد جاءَ في رواية أبي داود عن أبي هُريرة ☺: ((سورة البقرة والتي تليها)). وعند الدَّارقطني عن ابنِ مسعود ☺: ((البقرة وسورة ص المفصل)). وعن أبي أمامة ☺: ((زوج النَّبي صلعم رجلًا من الأنصار على سبعِ سور)).
          (قَالَ) صلعم : (فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) الباء في بما للتَّعويض، وتسمَّى باء المقابلة على تقدير / مضاف؛ أي: زوَّجتُكَها بتعليمِكَ إيَّاها ما معك من القرآن. وقالت الحنفيَّة: بل هي للسَّببية، والمعنى: زوَّجتكها بسبب ما معك من القرآن. وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
          وفي الحديث: جواز عقد النِّكاح بلفظ الهبة، وهو مذهبُ أبي حنيفة ☼ وأصحابه والنَّووي والحسن بن حي، وصورته أن يقولَ الرجل: وهبتُ لك ابنتي، فيقول الآخر: قبلتُ أو تزوَّجت، سواء في ذلك سَمَّيا المهرَ أو لا، فإن سمَّياه فَلَها المسمَّى، وإلَّا فلها مهرُ مثلها. وقال الشَّافعي: لا ينعقدُ بلفظ الهبة، وبه قال ربيعة وأبو ثور وأبو عُبيد ومالك على اختلافٍ عنه. ولا خلاف في جوازِ هبة المرأة نفسها للنَّبي صلعم وهو من خصائصهِ؛ لقوله ╡: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50] الآية.
          وقال ابنُ القاسم عن مالك: لا تَحِلُّ الهبة لأحدٍ بعد النَّبي صلعم .
          وفيه أيضًا ما يستدلُّ به الشافعي على جواز النِّكاح بما تراضى عليه الزَّوجان كالسَّوط والنَّعل، وإن كانت قيمتُه أقلَّ من درهم، وبه قال أبو ربيعة وأبو الزِّناد وابنُ أبي ذئب ويحيى بنُ سعيد واللَّيث بنُ سعد ومسلم بنُ خالد الزِّنجي وأحمدُ وإسحاقُ والثَّوريُّ والأوزاعيُّ وداودُ وابنُ وهب من المالكيَّة. وقال مالك: لا يجوزُ أقلُّ من ربع دينار قياسًا على القطعِ في السَّرقة. وقال ابنُ حزم: وجائز أن يكون صداقًا كلُّ ما لَه نِصْفٌ قَلَّ أو كَثُر، ولو أنَّه حبَّة برٍّ أو حبَّة شعيرٍ أو غير ذلك. واستدلَّ على ذلك بقوله: ((ولو خاتمًا من حديد)). وعن إبراهيم النَّخعي: أكره أن يكون المهر بمثل أجرِ البغي، ولكن العشرة والعشرين، وعنه: السُّنة في النِّكاح: الرطل من الفضة. وعن الشَّعبي: كانوا يكرهون أن يتزوَّج الرجل على أقل من ثلاث أَوَاْقٍ. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوزُ أن يكون الصَّداق أقل من عشرة دراهم؛ / لما روى ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن شريك، عن داود الزَّعافري، عن الشَّعبي قال: قال عليٌّ ☺: لا مهرَ بأقل من عشرة دراهم.
          والظَّاهر أنَّه قال ذلك توقيفًا؛ لأنَّه باب لا يوصل إليه بالاجتهادِ والقياس. فإن قيل: قال ابنُ حزم: الرِّواية عن علي ☺ باطلةٌ؛ لأنَّها عن داود الزَّعافري، وهو في غاية السُّقوط، ثمَّ هي مرسلةٌ؛ لأنَّ الشَّعبي لم يسمعْ من علي ☺ قطُّ حديثًا.
          أُجيب: بأنَّه قال ابن عدي: لم أرَ له حديثًا منكرًا جاوزَ الحدَّ إذا روى عنه ثقة، وإن كان ليس بقويٍّ في الحديث، فأنَّه يُكْتَبُ حديثُه ويُقْبَلُ عنه إذا روى عنه ثقةٌ.
          وذكر المِزيُّ: أن الشَّعبي سَمِعَ عليَّ بن أبي طالب ☺، ولئن سلمنا أنَّ روايتَه مرسلةٌ فقد قال العجليُّ: مرسل الشَّعبي صحيحٌ، ولا يكاد يرسل إلَّا صحيحًا. والجواب عن قوله: ((ولو خاتمًا من حديد)) أنَّه خارجٌ مخرج المبالغة، كما في قوله: ((تصدقوا ولو بظِلْف مُحْرَق))، وفي لفظ: ((ولو بفِرْسَن شاةٍ)). وليس الظِّلف والفِرْسن ممَّا يتصدَّق بهما، ولا ممَّا ينتفعُ بهما. ويقال: ولعلَّ الخاتم كان يساوي ربعَ دينار. ويقال: لعلَّ التماسه للخاتم لم يكن كل الصَّدَاق، بل شيءٌ يعجِّلُه لها قبل الدُّخول، وفيه أيضًا: جوازُ اتِّخاذ خاتم الحديد. واختَلَفَ العلماءُ في جوازِ لبسه. وفيه أيضًا ما يستدلُّ به الشَّافعي وأحمد في رواية، والظَّاهرية على جواز التَّزويج على سورة من القرآن، وعليه أن يُعَلِّمها. ولم يجوِّز ذلك أبو حنيفة وأصحابه ومالك وأحمد في روايةٍ صحيحةٍ واللَّيث بن سعد وإسحاق بن راهويه، وقالوا: إذا تزوَّجها على تعْلِيم سورة، فالنِّكاح صحيحٌ، ويجبُ فيه مَهْرُ مِثْلِها. وهذا كمن تزوَّج امرأة ولم يُسَمِّ لها مهرًا فإنَّه يجبُ مهر المثل.
          وأجاب الطَّحاوي عنه: بأنَّ قوله: ((زوَّجتُكَها بما معك من القرآن)) إنْ حُمِلَ على الظَّاهر فذلك على السُّورة لا على تعليمها، وإذا كان ذلك / على السُّورة فهو على حرمتها، وليس فيه التَّعرض للمهر، كما في تزوج أم سليم على إسلامه، فلم يكن ذلك الإسلام مهرًا في الحقيقة، والسُّورة لا تكون مهرًا بالإجماع، ويكون المعنى: زوَّجتكها بسبب حرمةِ ما معك من القرآن وبركتهِ، فتكون الباء للتَّعليل، كما في قوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40]. فإن قيل: في رواية ابن ماجه: ((زوَّجتُكَها على ما معك من القرآن)). وفي «مسند السنة»: ((مع ما معك من القرآن)).
          فالجواب: أمَّا على فإنَّها تجيءُ للتَّعليل كالباء كما في قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] ؛ أي: لهدايته إيَّاكم، ولا ينافي هذا تسميةُ المال، وأما مع فإنَّها للمصاحبة، والمعنى: زوَّجتُكَها لمصاحبتك القرآن، وهذا كسابقهِ لا يقال: الأصل في الباء أن تكون للمُقابلة؛ لأنَّا نقول: لو سلَّمنا ذلك لا يصحُّ أن تكون هنا للمقابلة؛ لأنَّه يلزم أن تكون المرأةُ موهوبةً. وذلك لا يجوزُ إلَّا للنَّبي صلعم لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50].
          فإن قيل: فليكنْ المعنى: زوَّجتكها بأن تُعَلِّمَها ما معك من القرآن، أو مقدارًا ما منه، ويكون ذلك صداقُها كما يدلُّ عليه ما جاءَ في رواية مسلم: ((انْطَلِقْ فقد زوَّجتُكَها، فَعَلِّمْها من القرآن)). وفي رواية عطاء: ((فعلَّمها عشرين آية)).
          أُجيب: بأنَّه قد مرَّ أن ذلك لا ينافي تسمية المال فيكون قد زوَّجها منه مع تحريضهِ على تعليم القرآن، ويكون المهرُ مسكوتًا عنه، فإمَّا أن يكون النَّبي صلعم قد أصدق عنه، كما كفَّر عن الواطِئ في رمضان، إذ لم يكن عنده شيءٌ رفقًا بأمَّته، وإمَّا أنَّه أبقى الصَّداق في ذمَّته دينًا عليه إلى أن ييسر عليه، والله تعالى أعلم.
          قال ابن بطَّال: وجه إدخال هذا الحديث في هذا الباب: أنَّه صلعم زوَّجَه المرأةَ لحُرْمَةِ القرآن. وتعقَّبه ابن التِّين: بأنَّ السياق يدلُّ على أنَّه زوَّجها له على أن يُعَلِّمَها. وقال العيني: في كلٍّ منهما نظر. أمَّا الأول: فلأنَّ الترجمةَ ليست في بيان حرمةِ القرآن. وأمَّا الثاني: فدَلالته على التَّزويج على تعليم القرآن غيرُ صريحة. /
          لكن لا يخفى عليك أنَّه يكفي في توجيهِ المطابقة بينهما أدنى مناسبة بينهما، وهي حاصلةٌ في كلٍّ منهما، إذ كلٌّ منهما يدلُّ على فضلِ القرآن، وهو يدلُّ على فضلِ تعلُّمه وتعليمهِ.
          ويمكن أن يوجه المطابقة بينهما: بأن فَضْلَ القرآن ظَهَرَ على صاحبه بحِفْظه كذا وكذا سورة في العاجل بأن قام له مقام الذي يتوسَّل به إلى بلوغ غرضهِ، وأمَّا نَفْعُه في الآجل فظاهرٌ لا خفاء به، ولم يحصل له ذلك الفضل إلَّا من فضل القرآن.
          فدخلَ تحت قوله: ((خيرُكم من تعلَّم القرآن)) لأنَّه تعلَّم ودَخَلَ في المتعلِّمين، ودخل أيضًا تحت قوله: ((وعَلَّمه)) لأنَّه صلعم إنَّما زوَّجه إيَّاها على أن يعلِّمها القرآن. ومن لطائفِ إسناد الحديث: أنَّ فيه التَّحديثَ في موضعين، والعنعنةَ في موضعين.
          وقد أخرجه البخاريُّ في النِّكاح في مواضع [خ¦5087] مُطَوّلًا ومختصرًا أيضًا كما هنا، وأخرجه مسلمٌ في النِّكاح، وكذا أبو داود فيه، والتِّرمذي فيه أيضًا، والنَّسائي فيه، وفي فضائل القرآن، وابن ماجه في النِّكاح.


[1] في هامش الأصل: وهي رواية أبي الوقت وأبي ذرٍّ. منه.