نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح

          3463- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) قال ابن السَّكن: هو محمَّد بن مَعْمَر بن رِبْعِي القيسي البصري، وعليه الأكثر، كذا نقله عن الفِرَبري، وقال أبو عبد الله الحاكم: هو محمَّد بن يحيى الذُّهلي، قال: (حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ) هو: ابن منهال، قال: (أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ) هو: ابنُ حازم (عَنِ الْحَسَنِ) البصري، أنَّه (قَالَ: أَخْبَرَنَا جُنْدَبُ) بضم الجيم وسكون النون وفتح المهملة على الأصح (ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ) هو مسجدُ البصرة (وَمَا نَسِينَا مُنْذُ حَدَّثَنَا) بفتح الدال، وأشار بذلك إلى تحقُّقه لما حدَّث به، وحُسْنِ ضَبْطه، وكمالِ حفظه، وقُرْبِ عَهْده به واستمرارِ ذِكْرِه له.
          (وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ جُنْدَبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ) ويروى: <على النَّبي> ( صلعم ) فيه إشارة إلى أنَّ الصَّحابة عدول، وأنَّ الكَذِبَ مأمونٌ من قِبَلهم، ولاسيَّما على النَّبي صلعم (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ) قال الحافظُ العسقلاني: لم أقف على اسمه (بِهِ جُرْحٌ) بضم الجيم وسكون الراء بعدها مهملة، وتقدَّم في الجنائز [خ¦1364] بلفظ: ((به جِراح)) وهو بكسر الجيم، وذكره بعضُهم بضم المعجمة وآخره جيم، وهو تصحيف، قاله الحافظ العسقلاني، ووقع في رواية مسلم أنَّ رجلاً خرجت به قَرْحة، بفتح القاف وسكون الراء، وهي حبَّة تخرج في البدن؛ وكأنَّه كان به جُرْح، ثمَّ صار قَرْحةً أو كان كلاهما.
          (فَجَزِعَ) أي: لم يصبر على الألم (فَأَخَذَ سِكِّيناً فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ) السكين تذكَّر وتؤنَّث. وقوله: ((فحزَّ)) بالحاء المهملة وتشديد الزاي؛ أي: قطع بغير إبانة، ووقع في رواية مسلم: ((فلمَّا آذته انتزع سهماً من كنانته فنكأها)) وهو بالنون والهمز؛ أي: نخس موضع الجرح، ويمكن الجمع بأن يكون فَجَّرَ الجُرْحَ بذُبابةِ السَّهم فلم يَنْفَعْه فحزَّ موضعه بالسِّكين، ودلَّت رواية البخاري على أنَّ الجرح كان في يده.
          (فَمَا رَقَأَ) بالقاف والهمز؛ / أي: لم ينقطع يقال: رقأ الدَّم إذا سكن وانقطع (حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) وفي نسخة: <╡> (بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ) هو كناية عن استعجاِله الموتَ (حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) فإنَّه لما استعجلَ الموت فتعاطى سبَبَه عصَىَ الله تعالى فناسب أن يُعَاقَبَ، ودلَّ ذلك على أنَّه حزَّها لإرادة الموت لا للتَّداوي الذي يغلبُ على الظَّن الانتفاع به، وقد استُشْكِلَ قوله: ((بادرني عبدي بنفسه)) وقوله: ((حرَّمت عليه الجنَّة)) لأنَّ الأوَّل يقتضي أن يكون من قُتِلَ فقد مات قَبْلَ أجله؛ لما يوهمه سياق الحديث من أنَّه لو لم يَقْتُل نفسَه كان قد تأخَّر عن ذلك الوقت وعاش، لكنه بادر فتقدَّم.
          والثَّاني: يقتضي تخليد الموحِّد في النَّار. فالجواب عن الأوَّل: أنَّ المبادرة من حيث التسبُّبُ في ذلك والقصدُ له والاختيار، وأطلق عليه المبادرة لوجود صورتها، وإنَّما استحقَّ المعاقبة؛ لأنَّ الله لم يُطْلِعْه على انقضاء أجله، فاختارَ هو قَتْلَ نفسه فاستحقَّ المعاقبة لعصيانه. وقال القاضي أبو بكر: قضاءُ الله مطلق ومقيَّد بصفة، فالمُطْلَق: يمضي على الوجه بلا صارف، والمقيَّد على وجهين؛ مثاله: أن يقدِّر لواحد أن يعيش عشرين إن قتل نفسه وثلاثين سنة إن لم يَقْتُل، وهذا بالنِّسبة إلى ما يَعْلَمُ به المخلوق كمَلَك الموت مثلاً، وأمَّا بالنِّسبة إلى عِلْمِ الله تعالى فإنَّه لا يقعُ إلا ما عَلِمَه، ونظير ذلك الواجب المخيَّر، والواقع منه معلوم عند الله، والعبدُ مخيَّر في أيِّ الخصال يفعل.
          والجواب عن الثَّاني من أوجه:
          أحدها: أنَّه كان استحلَّ ذلك الفعل فصار كافراً. وثانيهما: أنَّه كان كافراً في الأصل وعوقب بهذه المعصية زيادةً على كفره. وثالثها: أنَّ المراد أن الجنَّة حرِّمت عليه في وقتٍ ما كالوقت الذي يدخل فيه السَّابقون، أو الوقت الذي يُعذَّبُ فيه الموحِّدون في النَّار، ثمَّ يخرجون. ورابعها: أنَّ المراد جنَّة معينة كالفردوس مثلاً. وخامسها: أنَّ ذلك ورد على سبيل التَّغليظ والتَّخويف، وظاهره غير مراد. وسادسها: أنَّ التَّقدير: حرِّمت عليه الجنَّة إن شِئْتُ اسْتِمْرَار ذلك. وسابعها: قاله النَّووي / يحتمل أن يكون ذلك شَرْعُ من مضى: أنَّ أصحاب الكبائر يكفرون بفعلها.
          وفي الحديث: تحريم قتل النَّفس سواء كانت نفس القاتل أو غيره، وقيل: الغَيْر يؤخذُ منه تَحْريم قَتْلِه بِطَريقِ الأولى. وفيه: الوقوف عند حقوق الله تعالى. وفيه: رحمته بخلقه حيث حرَّم عليهم قتل نفوسهم، وأنَّ الأنفس مُلْكُ الله. وفيه: التحدُّث عن الأمم الماضية، وفضيلة الصَّبر على البلاء، وترك التضجُّر من الآلام لئلا يفضي إلى أشد منها. وفيه: تحريم تعاطي الأسباب المفضية إلى قتل النَّفس. وفيه: التَّنبيه على أنَّ حُكْمَ السراية يترتَّبُ عليه ما يترتَّب على ابتداء القتل. وفيه: الاحتياطُ في التَّحديث والضبطُ له والتَّحفظُ فيه بذِكْرِ المكان، والإشارةُ إلى حِفْظِ المحدِّث وتوقيفه لمن حدَّثه ليركن إليه السَّامع بذلك، والله تعالى أعلم.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة تؤخذ من قوله: ((كان فيمن كان قبلكم)) فإنَّه أعم من أن يكون من بني إسرائيل ومن غيرهم. والحديث قد مضى في كتاب الجنائز، في باب ما جاء في قاتل النَّفس [خ¦1364] بأتم منه.