نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر

          3297- 3298- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هو: المعروف بالمسندي، قال: (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ) قال: (حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ☻ : أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلعم يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: اقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ) تثنية طُفْية، بضم الطاء المهملة وسكون الفاء وبالمثناة التحتية، وهي: خوصة المقل، وذو الطُّفْيَتين: ضربٌ من الحيَّات في ظهره خطَّان أبيضان كالخوصتين، فشبَّه الخط الذي على ظهر هذه الحيَّة بها، وربَّما قيل لهذه الحية: طُفْيَة، على معنى ذات طفية، وقد يسمَّى الشَّيءُ باسم ما يجاوره، وقيل: هما نقطتان، حكاه القاضي. قال الخليل: وهي حيَّة خبيثة.
          (وَالأَبْتَرَ) هو: مقطوع الذنب، وقال النَّضر بن شُميل: هو أزرق اللون لا تنظر إليه حامل / إلَّا ألقت ما في بطنها، وقيل: الأبترُ: الحية القصيرة الذَّنب، وقال الدَّاودي: هو: الأفعى التي تكون قدر شبرٍ أو أكثر قليلاً، وقوله: والأبتر بالعطف يقتضي التَّغاير بين ذي الطُّفْيَتين والأبتر.
          ووقع في الطَّريق الآتية: ((لا تقتلوا الحيَّات إلَّا كل أبترٍ ذي طفيتين)) وظاهره اتِّحادهما، لكن لا ينفي المغايرة.
          (فَإِنَّهُمَا يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ) أي: يمحوان نورَه، وفي رواية ابن أبي مُليكة التي تأتي بعد أحاديث [خ¦3311] عن ابن عمر ☻ : ((ويُذْهِبُ البَصر)) وفي حديث عائشة ♦: ((فإنَّه يَلتَمِسُ البصرَ)).
          (وَيُسْقطَانِ الْحَبَلَ) بفتح المهملة والموحدة هو: الجنين، وفي رواية ابن أبي مُليكة: ((فإنَّه يُسْقطُ الولدَ))، وفي روايةٍ عن عائشة ♦: ((وتصيب الحَبَل))، وفي روايةٍ أخرى عنها: ((ويُذْهِبُ الحَبَل))، والكلُّ بمعنى واحد.
          وقال الكِرماني: وهما من شرار الحيَّات إذا لحظت الحامل أسقطت الحمل غالباً، وإذا وقع بَصَرُه على بصر إنسانٍ طَمَسه؛ أي: يعميه؛ جعل ما يفعل بالخاصَّة كأنَّه يفعل بالقصد. وقيل: وفي الحيَّات نوعٌ يسمَّى: النَّاظر إذا وقع بصره على عين إنسانٍ مات من ساعته، وقيل: معنى الطَّمس: قصد البصر باللسع والنَّهش.
          قال الدَّاودي: وإنَّما أَمَرَ بقتلهما؛ لأنَّ الجنَّ لا تتمثل بهما، ولهذا أدخل البخاري حديث ابن عمر في الباب، ونَهَى عن قتل ذوات البيوت؛ لأنَّ الجنَّ تتمثل بها، والله تعالى أعلم.
          (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) أي: ابن عمر ☻ بالإسناد السَّابق (فَبَيْنَا أَنَا أُطَارِدُ حَيَّةً) أي: أطلبها وأتبعها (لأَقْتُلَهَا) وفي رواية يونس، عن الزُّهري التي يأتي التَّنبيه عليها: ((قال ابن عمر ☻ : فكنت لا أترك حيَّة إلَّا قتلتها حتَّى طاردت حيةً من ذوات البيوت)). الحديث
          (فَنَادَانِي أَبُو لُبابةَ) بضم اللام وتخفيف الموحدة الأولى، واسمه: رِفَاعة، بكسر الراء وتخفيف الفاء، على الأصح، ابن عبد المنذر الأوسي النَّقيب، قاله الكِرماني.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: صحابيٌّ مشهور، اسمه: بَشِير بفتح الموحدة وكسر الشين المعجمة، وقيل: مُصَغَّر، وقيل: بتحتانية ومهملة مصغراً، وشذَّ من قال اسمه: مروان.
          وفي «التوضيح»: اسمه بَشِير، بفتح الموحدة وكسر الشين / المعجمة، ابن عبد المنذر بن رفاعة بن زيد بن أُميَّة بن زيد بن مالك بن عوف بن مالك بن أوس، ردَّه رسول الله صلعم من الرَّوحاء حين خرج، واستعمله على المدينة، وضرب له بسهمه وآجره، وتوفِّي بعد قَتْلِ عثمان ☺.
          وأخوه مبشر بن عبد المنذر شَهِدَ بدراً وقُتِلَ بها، وأخوهما رفاعة بن عبد المنذر، شهد العقبة وبدراً، وقُتِلَ بأحد وليس له عَقِبٌ، ذَكَرَه كلَّه ابنُ سعدٍ في «الطبقات».
          وقال أبو عمر: بشير بن عبد المنذر، أبو لبابة الأنصاري، غلبت عليه كنيته، واختُلِفَ في اسمه: فقيل: رفاعة بن عبد الملك، كذا قاله موسى بن عقبة، عن ابن شهابٍ، وكذا قال ابن هشام وخليفة.
          وقال أحمد بن زهير: سمعت أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يقولان: أبو لبابة اسمه: رفاعة بن عبد المنذر، وقال ابن إسحاق: كان نقيباً شهد العقبة وشهد بدراً.
          وزعم قومٌ: أنَّه والحارث بن حاطب خرجا مع رسول الله ╧ إلى بدرٍ، فرَجَّعَهُما وأمَّر أبا لبابة على المدينة، وضرب له بسهمه مع أصحاب بدر.
          قال ابن هشام: ردَّهما من الرَّوحاء، وقال أبو عمر: قد استخلف رسول الله صلعم أبا لبابة على المدينة أيضاً حين خرج إلى غزوة السَّويق، وشَهِدَ مع رسول الله صلعم أُحُداً وما بعدها من المشاهد، وكانت معه رايهُ بني عَمرِو بن عوفٍ في غزوة الفتح، مات في خلافة عليٍّ ☺.
          قال الحافظ العسقلاني: وليس له في «الصحيح» إلَّا هذا الحديث.
          (لاَ تَقْتُلْهَا، فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ. فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ) أي: قال أبو لبابة: إنَّ النَّبي صلعم نهى بعد أمره بقتل الحيات عن قتل ذوات البيوت؛ أي: اللاتي يُوْجَدْنَ في البيوت، ويقال لها: الجِنَّان، وهي حيَّات طوالٌ بيض قلَّما تضر. وفي رواية التِّرمذي عن ابن المبارك: ((إنَّها الحيَّة التي تكون كأنَّها فضةٌ، ولا تلتوي في مشيتها)).
          (وَهْيَ الْعَوَامِرُ) هو من كلام الزُّهري أُدْرِجَ في الخبر، وقد بيَّنه مَعْمرٌ في روايته عن الزُّهري، فساق الحديث، وقال في آخره: قال / الزُّهري: وهي العَوَامر. قال أهل اللغة: عُمَّار البيوت: سكَّانها من الجنِّ، وتسميتهنَّ عوامر؛ لطول لبثهنَّ في البيوت مأخوذٌ من العمر، وهو طول البقاء.
          وعند مسلمٍ من حديث أبي سعيد ☺ مرفوعاً: ((إنَّ لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئاً فحرِّجوا عليه ثلاثاً، فإن ذهب وإلَّا فاقتلوه))، واختلف في المراد بالثَّلاث فقيل: ثلاث مراتٍ، وقيل: ثلاثة أيام. ومعنى قوله: ((حَرِّجوا)) أن يقال له: أنت في حَرَجٍ؛ أي: ضِيْق إنْ لَبِثْتَ عندنا، أو ظهرت لنا، أو عدت إلينا.
          ثمَّ اعلم أنَّ ظاهر الحديث التَّعميمُ في البيوت، وعن مالكٍ: تخصيصه ببيوت أهل المدينة؛ لما في «صحيح مسلم»: ((إنَّ بالمدينة جنًّا قد أسلموا فإذا رأيتم منها شيئاً فآذنوه ثلاثة أيامٍ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنَّما هو شيطان)).
          وقيل: يختصُّ ببيوت المدن دون غيرها، وأمَّا ما في الصَّحاري والأودية تقتل من غير إيذانٍ؛ لعموم قوله صلعم : ((خمسٌ من الفَواسق يُقْتَلْنَ في الحلِّ والحَرَم)) فذكر منهنَّ الحية، وجاء في حديث: ((من تركهنَّ مخافة شرهنَّ فليس منَّا)).
          3299- (وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ) هو: ابن همام الصَّنعاني (عَنْ مَعْمَرٍ) هو: ابن راشدٍ (فَرَأَى أَبُو لُبَابَةَ، أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ) هو: أخو عمر بن الخطَّاب لأبيه، أسلم قبل عمر وكان أسنَّ منه، واستشهد باليمامة، وله في «الصحيح» هذا الحديث.
          أراد البخاريُّ بهذا أنَّ مَعْمَراً رواه عن الزُّهري بهذا الإسناد، على الشَّك في اسم الذي لقي عبد الله بن عمر ☻ ، وروايةُ عَبْدِ الرَّزاق هذه أخرجها مسلمٌ ولم يَسُقْ لفظَها، وساقه أحمد والطَّبراني من طريقه.
          (وَتَابَعَهُ) أي: تابع معمراً (يُونُسُ) أي: ابن يزيد، على الشَّكِّ في اسم الذي لقي عبد الله بن عمر ☻ ، هل هو أبو لبابة، أو زيد بن الخطَّاب ☻ ؟ وهذه المتابعة وَصَلَها مسلمٌ ولم يَسُقْ لفْظَها، وساقه أبو عَوَانة.
          (وَابْنُ عُيَيْنَةَ) أي: سفيان بن عيينة؛ أي: تابع مَعْمراً ابنُ عيينة أيضاً على الشَّك. وهذه المتابعة وصلها مسلمٌ، وقال: حدَّثني محمَّد بن عمرو النَّاقد:حدَّثنا سفيان بن عُيينة، عن الزُّهري، عن سالمٍ، عن أبيه، عن النَّبي صلعم : / ((اقتلوا الحيَّات وذا الطفيتين والأبتر، فإنَّهما يستسقطان الحبل ويلتمسان البصر)) قال: فكان ابن عمر ☻ يقتل كلَّ حيةٍ وجدها، فأبصره أبو لبابة بن عبد المنذر أو زيد بن الخطَّاب، وهو يطارد حيَّة، فقال: إنَّه قد نهى عن ذوات البيوت، وَوَصَلها أيضاً أبو داود، وَوَصَلَها أيضاً أحمدُ والحميديُّ في «مسنديهما» عنه.
          (وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ) أي: تابع معمراً أيضاً في الشَّك إسحاق بن يحيى الكلبي الحِمْصي، وهو المشهور بابن جني، قال الحافظ العسقلانيُّ: روينا هذه في نسخته (وَالزُّبَيْدِيُّ) أي: تابع معمراً أيضاً في الشَّك محمَّد بن الوليد الزُّبَيدي، بضم الزاي وفتح الموحدة وسكون المثناة التحتية وبالدال المهملة، الحمصي.
          وهذه المتابعة وَصَلها مسلمٌ، وقال: حدَّثنا حاجب بن الوليد: حدَّثنا محمَّد بن حرب، عن الزُّبيدي عن الزُّهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله، عن ابن عمر ☻ قال: سمعتُ رسول الله صلعم يَأمر بقتل الكلاب يقول: ((اقتلوا الحيات والكلاب، واقتلوا ذا الطُّفْيَتين والأبترَ، فإنَّهما يلتمسان البصر)) الحديث. وفيه: ((بينا أطارد حيةً يوماً من ذوات البيوت مرَّ بي زيد بن الخطَّاب أو أبو لبابة)) إلى آخره.
          (وَقَالَ صَالِحٌ) هو: ابنُ كيسان الهذلي (وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ) اسمه: محمَّد بن أبي حفصة، واسم أبي حفصة: ميسرة البصري (وَابْنُ مُجَمِّعٍ) بضم الميم وفتح الجيم وكسر الميم المشددة، وقيل: بفتحها، هو: إبراهيم بن إسماعيل بن مُجَمِّع بن يزيد بن حارثة الأوسي الأنصاري المدني.
          (عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ☻ فَرَآنِي أَبُو لُبابةَ وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ) يعني: أنَّ هؤلاء الثَّلاثة رَوَوا الحديثَ عن الزُّهري، عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر ☻ بواو الجمع، فجمعوا فيه بين أبي لبابة وزيد بن الخطَّاب بلا شكٍّ.
          فأمَّا رواية صالحٍ: فوصلها مسلم ولم يسق لفظها، وساقه أبو عَوانة، وأمَّا رواية ابن أبي حفصة فقال الحافظ العسقلانيُّ: رويناها في نسخته من طريق أبي أحمد بن أبي عدي موصولةً، وأمَّا رواية ابن مُجَمِّع فوصلها البغوي وابن السَّكن في كتاب «الصحابة». قال ابن السَّكن: لم أجد من جمع بين أبي لبابة وزيد بن الخطَّاب إلَّا ابن مُجمِّع هذا، وجعفر بن برقان، / وفي روايتهما عن الزُّهري مقالٌ. انتهى.
          وغفل عمَّا ذكره البخاريُّ، وهو عن الفربري عنه، فسبحان من لا يذهل، ويحتمل أنَّه لم يقع له موصولاً من رواية ابن أبي حفصة وصالح، فصار من رواه بالجمع أربعة، لكن ليس فيهم من يقارب الخمسة الذين رووه بالشَّك إلَّا صالح بن كيسان.
          وسيأتي في الباب الذي يليه من وَجْهٍ آخر: أنَّ الذي رأى ابن عمر هو أبو لبابة بغير شكٍّ، وهو يرجِّح ما جنح إليه البخاريُّ من تقديمه لرواية هشام بن يوسف، عن معمر المقتصرة على ذكر أبي لبابة، والله تعالى أعلم.
          وفي الحديث: النَّهي عن قتل الحيات في البيوت إلَّا بعد الإنذار، إلَّا أن يكون أبتر أو ذا طُفْيَتين، فيجوز قتله بغير إنذارٍ. وقد وقع في حديث أبي سعيدٍ ☺ عند مسلمٍ الإذن في قَتْلِ غيرهما بعد الإنذار، وفيه: ((فإن ذهب وإلَّا فاقتلوه فإنَّه كافرٌ)).
          قال القرطبي: والأمر في ذلك للإرشاد، نعم، ما كان منها مُحَقَّق الضَّرر وجب.
          ومطابقته للتَّرجمة من حيث إنَّ ذا الطُّفْيَتين من جملة ما يُطْلَقُ عليه اسم الدَّابة.