نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم

          3133- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ) هو: أبو محمَّد الحجبي البصري، قال: (حَدَّثَنَا حَمَّادٌ) هو: ابنُ زيد، قال: (حَدَّثَنَا أَيُّوبُ) هو: السَّختياني (عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ) بكسر القاف، عبد الله بن زيد الجرمي البصري (قَالَ: وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَاصِمٍ الْكُلَيْبِيُّ) نسبة إلى مصغر الكلب التَّميمي، والقائل لذلك هو أيُّوب، بين ذلك عبد الوهاب الثَّقفي عن أيُّوب، كما سيأتي في ((الأيمان والنُّذور)) [خ¦6649].
          (وَأَنَا لِحَدِيثِ الْقَاسِمِ أَحْفَظُ) أي: من حديث أبي قلابة (عَنْ زَهْدَمٍ) بفتح الزاي وسكون الهاء وفتح الدال المهملة، ابن مُضَرِّب، بالضاد المعجمة، من التَّضريب الجرمي الأزدي البصري، وقد مرَّ في ((الشَّهادات)) [خ¦2651].
          قال الكلاباذي: حديث القاسم وأبي قلابة كلاهما عن زَهْدَم، وروى أيُّوب عن القاسم مقروناً بأبي قلابة في الخُمُس.
          (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى) عبدُ الله بن قيس الأشعري (فَأَتَى ذِكْرُ دَجَاجَةٍ) كذا في رواية أبي ذرٍّ: <فأتى> بصيغة الماضي من الإتيان معروفاً ومجهولاً، ولفظ: ذِكْر، بكسر الذال وسكون الكاف، ودجاجة بالجرِّ والتنوين على الإضافة، وكذا في وراية النَّسفي، وفي رواية الأَصيلي: <فأُتِي> بضم الهمزة على البناء للمفعول، وذَكَرَ بفتحتين، ودجاجةً بالنصب والتنوين على المفعولية، كأن الرَّاوي / لم يستحضر اللَّفظ كلَّه وحفظ منه لفظ دجاجة.
          قال القاضي عياض: وهذا أشبه لقوله في الطَّريق الأخرى: ((فأُتِي بلَحْمِ دجاج))، ولقوله في حديث الباب: فدعاه للطَّعام؛ أي: الذي فيه الدَّجاجة، وسيأتي في ((النذور)) بلفظ: ((فأتى بطعامٍ فيه دجاج)) [خ¦6649]. وفي رواية مسلم: ((فدعي بمائدةٍ وعليها لحم دجاج))، وفي لفظ: عن زَهْدَم الجرمي: دخلت على أبي موسى وهو يأكل لحم دجاجٍ، وفي رواية التِّرمذي عن زَهْدَم قال: ((دخلت على أبي موسى وهو يأكل دَجَاجاً، فقال: ادن فكل، فإنِّي رأيت رسول الله صلعم يأكله)). وقال: هذا حديثٌ حسنٌ.
          والدَّجاجةُ بفتح الدال وكسرها لغتان مشهورتان، وحكي فيه أيضاً ضمها وهي لغة ضعيفة.
          قال الدَّاودي: اسم الدَّجاجة يقع على الذَّكر والأنثى، وقال صاحب «التوضيح»: ولا أدري من أين أخذه، وقال العينيُّ: قاله أهل اللغة، والتاء فيه للوحدة.
          (وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ) هو نسبةٌ إلى بطن من بني بكر بن عبد مناة، وهو بفتح المثناة الفوقية وسكون التحتية، ومعنى تيم الله: عبد الله (أَحْمَرُ) بالرفع صفة رجلٍ (كَأَنَّهُ مِنَ الْمَوَالِي) يعني: من سبي الرُّوم (فَدَعَاهُ لِلطَّعَامِ، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئاً) أي: من النَّجاسة؛ يعني: كانت تلك الدَّجاجة جلالة (فَقَذِرْتُهُ) بالقاف وكسر الذال المعجمة وبالراء، قال ابن فارس: قذرت الشَّيء؛ أي: كرهته.
          (فَحَلَفْتُ لاَ آكُلُ، فَقَالَ: هَلُمَّ) أي: تعال وأقبل (فَلأُحَدِّثْكُمْ عَنْ ذَاكَ، إِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلعم فِي نَفَرٍ) النَّفر: رهط الإنسان وعشيرته، وهو اسم جمع يقعُ على جماعةٍ من الرِّجال خاصةً ما بين الثَّلاثة إلى العشرة ولا واحدَ له من لفظه، والرَّهط: عشيرة الرَّجل وأهله، والرَّهط من الرِّجال: ما دون العشرة، وقيل: إلى الأربعين، ولا يكون فيهم امرأة، ولا واحدَ له من لفظه أيضاً، ويجمع على أرهط وأرهاط، وأراهط جمع الجمع.
          (مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ) جمع أشعري نسبة إلى أشعر، أبو قبيلة من اليمن، وهو: أشعرُ بن أود بن زيد بن يشجب بن غريب بن زيد بن كهلان، وتقول العرب: / جاءني الأشعرون، بحذف ياء النسبة.
          (نَسْتَحْمِلُهُ) أي: نسأل منه أن يحملنا؛ يعني: أرادوا ما يركبون عليه من الإبل، ويحملون عليها (فَقَالَ: وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ وَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم ) على البناء للمفعول (بِنَهْبِ إِبِلٍ) النَّهب: الغنيمة (فَسَأَلَ عَنَّا، فَقَالَ: أَيْنَ النَّفَرُ الأَشْعَرِيُّونَ، فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ) بفتح الذال المعجمة وسكون الواو وآخره دال مهملة، هو في الإبل: ما بين الثَّلاث إلى العشر (غُرِّ الذُّرَى) الغُرُّ، بضم الغين المعجمة وتشديد الراء، جمع: الأغر، وهو: الأبيض، والذُّرَى، بضم الذال المعجمة وفتح الراء مقصوراً، جمع ذروة، وذروة كلِّ شيءٍ أعلاه، يريد أنَّها ذووا الأسنمة البيض من سمنهنَّ وكثرة شحومهنَّ.
          (فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قُلْنَا: مَا صَنَعْنَا؟ لاَ يُبَارَكُ لَنَا، فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ، فَقُلْنَا: إِنَّا سَأَلْنَاكَ أَنْ تَحْمِلَنَا فَحَلَفْتَ أَنْ لاَ تَحْمِلَنَا، أَفَنَسِيتَ) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار (قَالَ: لَسْتُ أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ).
          قال الخطَّابي: هذا يحتمل وجوهاً أن يريد به إزالة المنَّة عليهم عنهم، وإضافة النِّعمة فيها إلى الله ╡، أو أنَّه نسي والنَّاسي بمنزلة المضطر وفعله قد يضاف إلى الله تعالى، كما في الصَّائم إذا أكل ناسياً، فإنَّ الله أطعمه وسقاه، أو أنَّ الله حملكم حين ساق هذا النَّهب ورزق هذه الغنيمة، أو أنَّه نوى في ضميره إلَّا أن يرد عليه مالٌ في ثاني الحال فيحملهم عليه.
          (وَإِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا) من التَّحلل، وهو: التَّقصي عن عهدة اليمين والخروج من حرمتها إلى ما يحلُّ له منها، وهو إمَّا بالاستثناء مع الاعتقاد وإمَّا بالكفارة، وفي هذا الحديث دلالةٌ على أنَّ من حلف على فعل شيءٍ أو تركه وكان الحنث خيراً من التَّمادي على اليمين استحبَّ له الحنث ويلزمه الكفارة، وهذا متَّفق عليه / وأجمعوا على أنَّه لا يجب عليه الكفارة قبل الحنث، وعلى أنَّه يجوز تأخيرها عن الحنث، وعلى أنَّه لا يجوز تقديمها قبل اليمين، واختلفوا في جوزاها بعد اليمين، وقبل الحنث فجوَّزها مالك والأوزاعي والثَّوري والشَّافعي، واستثنى الشَّافعي التَّكفير بالصَّوم، فقال: لا يجوز قبل الحنث، وأمَّا التَّكفير بالمال فيجوز. وقال أبو حنيفة وأصحابه وأشهب المالكي: لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث بكلِّ حالٍ.
          وفيه: أنَّه لا بأس بدخول الرَّجل على الرَّجل في حال أكله لكن إنَّما يحسن ذلك إذا كان بينهما صداقة مؤكدة، وفيه: استدناء صاحب الطَّعام للدَّاخل عليه في حال أكله ودعوته للطَّعام وهو مشروع متأكد سواءٌ كان الطَّعام قليلاً أو كثيراً وطعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثَّمانية، واجتماع الحماعة على الطَّعام مقتضٍ لحصول البركة فيه.
          وفيه: جواز أكل الدَّجاج وهو مجمعٌ عليه، وإنَّما الخلاف في الجلالة منه؛ هل يكره أكلها أو يحرم، وروى ابنُ عدي في «الكامل» من حديث نافع عن ابن عمر ☻ : ((أنَّ رسول الله صلعم كان إذا أراد أن يأكلَ دجاجةً أمر بها فربطت أياماً، ثمَّ يأكلها بعد ذلك)).
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة من حيث إنَّهم سألوه فلم يجدْ ما يحملهم عليه، ثمَّ حضرَ شيء من الغنائم فحملهم منها، وهو محمولٌ على أنَّه حملهم على ما يختصُّ بالخُمُس، وإذا كان له التَّصرف بالتَّنجيز من غير تعليقٍ، فكذا له التَّصرف بتنجيز ما علَّق.
          وقد أخرجه البخاري في التوحيد [خ¦7555]، وفي النذور [خ¦6649]، والذبائح [خ¦5518]، وكفارات الأيمان [خ¦6718]، والمغازي [خ¦4415].
          وأخرجه مسلمٌ في الأيمان والنذور، والتِّرمذي في الأطعمة، وفي «الشمائل» والنَّسائي في الصيد والنذور.