نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: توضأ رسول الله وضوءه للصلاة غير رجليه وغسل فرجه

          249- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) الفريابي لا البيكندي، وقيل: هو البيكندي (قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هو الثوري، وقيل: ابن عيينة (عَنِ الأَعْمَشِ) سليمان بن مهران.
          (عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ) بفتح الجيم وسكون المهملة (عَنْ كُرَيْبٍ) بالتصغير (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلعم ) وخالة ابن عباس ♥ .
          ومن لطائف هذا الإسناد: أن فيه رواية تابعي عن تابعي أيضاً على الولاء، وفيه صحابيان، وقد أخرج متنه المؤلِّف في مواضع [خ¦281]، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه في الطهارة.
          (قَالَتْ) أي: إنها قالت: (تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ) هو كالذي قبله احتراز عن الوضوء اللغوي الذي هو غسل اليدين فقط (غَيْرَ رِجْلَيْهِ) فيؤخرهما، قال القرطبي: ليحصل الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء، وهذه الرواية مخالفة لظاهر رواية عائشة ♦ السابقة، ويمكن الجمع بينهما إما بحمل رواية عائشة ♦ على المجاز ؛ أي: غسل ما سوى الرجلين، وإما على حالة أخرى، على ما قاله الحافظ العسقلاني.
          والراجح هو الثاني، فإن المجاز لا يصار إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورة هنا، فإنه يمكن أن تحمل الروايتان إحداهما على أنه كان في مستنقع الماء، والأخرى على أنه لم يكن كذلك، فكلُّ ما جاء من الروايات فيه تأخير الرجلين فهو محمول على أنه كان في مستنقع الماء؛ جمعاً بين الروايات، وقد تقدَّم اختلاف المذاهب في هذه المسألة، والله أعلم.
          (وَغَسَلَ) صلعم (فَرْجَهُ) أي: ذكره ؛ أي: جمع بين الوضوء وغسل الفرج، فإن الواو للجمع المطلق، وهو لا يقتضي تقديم أحدهما على الآخر وضعاً، لكن بين ذلك، فيما رواه البخاري من طريق ابن المبارك، عن الثوري، فذكر أولاً غسل اليدين، ثمَّ غسل الفرج، ثمَّ مسح يده بالحائط، ثمَّ الوضوء غير رجليه، وذكره بثمَّ الدالة على الترتيب في جميع ذلك، والأحاديث يفسر بعضها بعضاً / فلا حاجة إلى أن يقال: أخَّره؛ لعدم وجوب التقديم كما هو مذهب الشافعية. قال النووي في زيادة ((الروضة)): ينبغي أن يستنجي قبل الوضوء والتيمم، فإن قدمهما صح الوضوء دون التيمم. انتهى. ولا إلى أن يقال: إن الواو ليست للترتيب، بل للحال، بل لا وجه له ؛ لأنه كيف (1) يتوضأ في حال غسل الفرج، فتأمل.
          وكذا الأمر في قوله: (وَ) غسل صلعم (مَا) أي: الذي (أَصَابَهُ مِنَ الأَذَى) أي: النجاسة، وتفسير الأذى بالمستقذر الطاهر كالمخاط عندنا وعند الشافعية، وكالمني عندهم من ضيق العطن، ثمَّ إن البدء بغسل الفرج وإزالة النجاسة على بدنه، ثمَّ التوضؤ كلها سنة عندنا وعندهم، ولو كان على جسد المغتسل نجاسة كفاه لها وللجنابة غسلة واحدة ؛ لأن الأصل عدم التكرار على ما صححه النووي وغيره من الشافعية، لكن السنة البدء بغسلها ؛ ليقع الغسل على أعضاء طاهرة.
          (ثُمَّ أَفَاضَ) صلعم (عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ، فَغَسَلَهُمَا، هَذِهِ) أي: الأفعال المذكورة (غُسْلُهُ) بضم الغين، أو صفة غسله ◙، وفي رواية: <هذا غسله> وهو ظاهر (مِنَ الْجَنَابَةِ) وأشار الإسماعيلي: إلى أن هذه الجملة الأخيرة مدرجة في قول سالم، وأن زائدة بن قيس بين ذلك في روايته عن الأعمش، ومما ذكره المؤلِّف في حديث ميمونة ♦ على ما يأتي: ((ثمَّ ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً، ثمَّ توضَّأ وضوءه للصَّلاة، ثمَّ أفرغ على رأسه ثلاث حفنات مِلْءَ كفِّه))، وفي آخره: ((ثمَّ أتي بالمنديل فردَّه))، وفي رواية: ((وجعل يقول بالماء هكذا ينفضه))، وفي لفظ: ((ثمَّ غسل فرجه ثمَّ قال بيده إلى الأرض فمسحها بالتراب ثمَّ غسلها))، وفي لفظ: ((وضعت له غِسلاً فسترته بثوب))، وفي لفظ: ((فأكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثاً)).
          وفي لفظ: ((ثمَّ أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره، وفيه: ثمَّ غسل رأسه ثلاثاً))، وفي لفظ: ((فلما فرغ من غسله غسل رجليه))، وفي لفظ: ((فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً))، وعند مسلم: ((فغسل فرجه وما أصابه، ثمَّ مسح يده بالحائط أو الأرض))، وفي ((صحيح الإسماعيلي)): ((مسح يده في الجدار، وحين قضى غُسله غسل رجليه))، وفي لفظ: ((فلما فرغ من غسل فرجه دلك يده بالحائط، ثمَّ غسلها، فلما فرغ من غسله غسل قدميه)).
          وعند ابن خزيمة: ((ثمَّ أفرغ على رأسه ثلاث حفنات مِلْءَ كفيه، فأتي بمنديل فأبى أن يقبله))، وعند أبي علي الطوسي في كتاب ((الأحكام)) مصححاً: ((فأتيته بثوب فقال بيده هكذا))، وعند الدارقطني: ((ثمَّ غسل سائر جسده))، / وعند أبي محمد الدارمي: ((فأعطيته ملحفة فأبى))، قال أبو محمد: هذا أحبُّ إليَّ من حديث عائشة ♦.
          وعند ابن ماجه: ((فأكفأ الإناء بشماله على يمينه، فغسل كفيه ثلاثاً، ثمَّ أفاض على فرجه، ثمَّ دلك يده بالأرض، ثمَّ تمضمض واستنشق، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ثمَّ أفاض على سائر جسده، ثمَّ تنحى فغسل رجليه)).
          وفي هذه الروايات استحباب الإفراغ باليمين على الشمال للمغترف من الماء، وفيها مشروعية المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة، وتمسك به الحنفية للقول بوجوبهما.
          وتعقب: بأن الفعل المجرد لا يدلّ على الوجوب إلا إذا كان بياناً لمجمل تعلق به الوجوب، وليس الأمر هنا كذلك، وإنما أوجبوهما في الغسل بالنص بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] أي: طهروا أبدانكم، وهذا يشمل الأنف والفم، وقد سبق تحقيقه فيما مضى، وفيها استحباب مسح اليد بالتراب من الحائط أو الأرض للمبالغة في التنظيف ؛ ليكون أنقى.
          قال الحافظ العسقلاني: (وأبعَدَ من استدل به على نجاسة المني، وعلى نجاسة رطوبة الفرج ؛ لأن الغسل ليس مقصوراً على إزالة النجاسة، وقوله في حديث الباب: ((وما أصابه من أذى)) ليس بظاهر في النجاسة أيضاً).
          وتعقبه محمود العيني: (بأن من استدلَّ به على نجاسة المني ما اكتفى بهذا في احتجاجه)، وقد سبق تفصيله فيما مضى.
          وفيها استحباب التستر في الغسل ولو كان في البيت، وفيها جواز الاستعانة بإحضار ماء الغسل والوضوء، وفيها خدمة الزوجات للأزواج، وفيها الصب باليمين على الشمال لغسل الفرج بها، وفيها تقديم غسل الكفين لمن يريد الاغتراف ؛ لئلا يدخلهما الإناء وفيهما ما لعله يستقذر، فأمَّا إذا كان الماء في إبريق مثلاً، فالأولى تقديم غسل الفرج لتتوالى أعضاء الوضوء، وفيها جواز نفض اليدين من ماء الغسل، وكذا الوضوء، وفيه حديث ضعيف أورده الرافعي وغيره ولفظه: ((لا تنفضوا أيديكم في الوضوء فإنها مراوح الشيطان)).
          قال ابن الصلاح: (لم أجده)، وتبعه النووي، وقد أخرجه ابن حبان في ((الضعفاء))، وابن أبي حاتم في ((العلل)) من حديث أبي هريرة، ولو لم يعارضه هذا الحديث الصحيح لم يكن صالحاً لأن يحتج به، وفيها كراهة التنشف بالمنديل ونحوه، وقال النووي: (اختلف أصحابنا فيه على خمسة أوجه أشهرها: أن المستحب تركه، وقيل: مكروه، / وقيل: مباح، وقيل: مستحب، وقيل: مكروه في الصيف، مباح في الشتاء)، ويقال: لا حجة في الحديث ؛ لكراهة التنشف ؛ لاحتمال أن إباءه ◙ من أخذ ما يتنشف به لأمر آخر يتعلق بالخرقة، أو لكونه كان مستعجلاً أو غير ذلك، وقال المهلب: (يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة بلل الماء أو للتواضع أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ)، وقد وقع عند أحمد والإسماعيلي من رواية أبي عوانة في هذا الحديث عن الأعمش قال: (فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: لا بأس بالمنديل، وإنما رده مخافة أن يصير عادة).
          وقال التيمي في شرحه لهذا الحديث: (فيه دليل على أنه كان يتنشف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل).
          وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدلُّ على أن لا كراهة في التنشف ؛ لأن كلاً منهما إزالة.
          وقال محمود العيني: (وفيه دليل على ذلك ؛ لأن التنشف من عادة المتكبرين، ورده ◙ الثوب لأجل التواضع مخالفة لهم)، وقد وردت أحاديث في هذا الباب:
          منها حديث أم هانئ عند الشيخين: ((قام رسول الله صلعم إلى غسله فسترت عليه فاطمة، ثمَّ أخذ ثوبه فالتحف به))، هذا ظاهر في التنشف.
          ومنها حديث قيس بن سعد رواه أبو داود: ((أتانا النبي صلعم ، فوضعنا له الماء فاغتسل، ثمَّ آتيناه ملحفة ورسية فاشتمل بها، فكأني أنظر إلى أثر الورس عليه)) وصححه ابن حزم.
          ومنها حديث الوَضِيْن بن عطاء، رواه ابن ماجه: عن محفوظ بن علقمة، عن سلمان: ((أن النبي صلعم توضأ فقلب جبة صوف كانت عليه، فمسح بها وجهه)) وهذا ضعيف عند جماعة.
          ومنها حديث عائشة ♦: ((كانت للنبي صلعم خرقة يتنشف بها بعد الوضوء)) رواه الترمذي وضعَّفه وصححه الحاكم.
          ومنها حديث معاذ ☺: ((كان النبي صلعم إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه)) رواه الترمذي وضعفه(2) .
          ومنها حديث أبي بكر ☺: ((كانت للنبي صلعم خرقة يتنشف بها بعد الوضوء)) رواه البيهقي، وقال: إسناده غير قوي، ومنها: حديث أنس مثله، وأعله.
          ومنها حديث أبي مريم إياس بن جعفر، عن فلان _رجل من الصحابة_ : ((أن النبي صلعم كان له منديل أو خرقة يمسح بهما وجهه إذا توضأ)) / رواه النسائي في ((الكنى)) بسند صحيح.
          ومنها حديث مُنِيب بن مُدْرِك الأزدِي قال: ((رأيت جارية تحمل وضوءاً ومنديلاً، فأخذ ◙ الماء فتوضأ ومسح بالمنديل وجهه)) أسنده الإمام مغلطاي في ((شرحه)).
          وقال ابن المنذر: (أخذ المنديل بعد الوضوء عثمان والحسن بن علي وأنس وبشير بن أبي مسعود، ورخص فيه الحسن وابن سيرين وعلقمة والأسود ومسروق والضحاك، وكان مالك والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: لا يرون به بأساً، وكرهه بعده الوضوء عبد الرحمن بن أبي ليلى، والنخعي وابن المسيب ومجاهد وأبو العالية).
          وقال الحافظ العسقلاني: (واستدل به على طهارة الماء المتقاطر من أعضاء المتطهر خلافاً لمن غلا من الحنفية فقال بنجاسته).
          وتعقبه محمود العيني: (بأن القائل هو الذي أتى بالغلو حيث لم يدرك حقيقة مذهب الحنفية ؛ لأن الذي عليه الفتوى في مذهبهم: أن الماء المستعمل طاهر حتى يجوز شربه واستعماله في الطبيخ والعجين، والذي ذهب إلى نجاسته لم يقل إنَّه نجس في حال التقاطر، وإنما يكون ذلك إذا سال من أعضاء المتطهر، واجتمع في مكان).
          هذا، وقد تقدم أن الوضوء قبل الغسل سنة، والعلماء مجمعون على استحبابه اقتداء برسول الله صلعم ، وأما الوضوء بعد الغسل فلا وجه له عندهم، وما روي عن علي ☺: (أنه كان يتوضأ بعد الغسل) لو ثبت لكان إنما فعله ؛ لانتقاض وضوئه، أو لشكه فيه، والله أعلم.


[1] ((كيف)): ليست في (خ).
[2] ((من قوله: ومنها حديث معاذ.. إلى قوله: وضعفه)): ليست في (خ).