نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا

          2493- (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ) بضم النون، الفضل بن دُكين الأحول الكوفيُّ، قال: (حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ) هو: ابنُ زائدة الهَمْدانيُّ الكوفيُّ الأعمى (قَالَ: سَمِعْتُ عَامِراً) هو الشعبي (يَقُولُ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ) بفتح الموحدة، الأنصاريَّ ☺، وقد مرَّ في «كتاب الإيمان» [خ¦52] (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ) أي: المستقيم على ما منعَ الله من مجاوزتها، ويُقال: القائمُ بأمر الله، معناه: الآمر بالمعروف والنَّاهي عن المنكر.
          وقال الزَّجاج: أصل الحدِّ في اللَّغة: المنع، وحدُّ الدار ما يمنع غيرها من الدُّخول فيها، والحدَّاد: الحاجب والبوَّاب، ولفظ الترمذي: «مثل القائم على حدودِ الله والمدهن فيها»؛ يعني: الغاش فيها، ذكره ابن فارس، وقيل: هو كالمصانعةِ. ومنه قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]، وقيل: المدهنُ: المتليِّن لمن لا ينبغِي التَّلين له.
          (وَالْوَاقِعِ فِيهَا) أي: في الحدود؛ أي: التَّارك للمعروف والمُرْتكب للمنكر (كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ) أي: اتَّخذ كلُّ واحدٍ منهم سهماً؛ أي: نصيباً من السَّفينة بالقرعة (فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ) أي: على الَّذين فوقهم (فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقاً وَلَمْ نُؤْذِ) من الأذى، وهو الضَّرر (مَنْ فَوْقَنَا) أي: الَّذين سكنوا فوقنا (فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا) أي: فإن يترك الذين سكنوا فوقهم الَّذين سكنوا تحتهم مع ما أرادوا من الخرق، والواو بمعنى: مع (هَلَكُوا جَمِيعاً) جواب الشَّرط؛ أي: هلكوا كلُّهم الذين سكنوا فوق، والذين / سكنوا أسفل؛ لأنَّ بخرق السَّفينة تغرق السَّفينة ويهلك أهلها (وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ) أي: وإن منعوهم من الخَرْق (نَجَوْا) أي: الآخذون (وَنَجَوْا جَمِيعاً) يعني: جميع من في السَّفينة، ولو لم يُذكَر قوله: «ونجوا جميعاً» لكانت النَّجاة اختصَّت بالآخذين فقط، وليس كذلك بل كلُّهم نجوا لعدم الخَرْق، وهكذا إذا أقيمت الحدود وأُمِر بالمعروف ونُهي عن المنكر تحصلُ النَّجاة للكلِّ، وإلَّا هلك العاصي بالمعصيةِ وغيرهم بترك الإقامة.
          وفي الحديث: جوازُ الضَّرب بالمثل، وجواز القرعة فإنَّه صلعم ضرب المثل هنا بالقومِ الذين ركبوا السَّفينة ولم يذمَّ المستهمين في السَّفينة ولا أبطل فعلهم، بل رضيه وضرب به مثلاً لمن يحذِّره من الهلكة في دينه.
          وفيه تعذيب العامَّة بذنوب الخاصَّة، واستحقاق العقوبة بترك النَّهي عن المنكر مع القدرة، وفيه: أنَّه يجب على الجار أن يصبرَ على شيءٍ من أذى جاره خوف ما هو أشدُّ منه.
          وفيه: إثباتُ القرعة في سكنى السَّفينة إذا تشاحُّوا، وذلك فيما إذا نزلوا معاً، فأمَّا من سبق منهم فهو أحقُّ، وذكر ابن بطَّال هنا مسألة الدَّار التي لها علو وسُفل لمناسبته لها للسَّفينة، فقال: وأمَّا حكم العلو والسُّفل يكون بين رجلين فيعتلُّ السُّفلُ، أو يريد صاحبه هدمه فليس له هدمه إلَّا من ضرورة، وليس لربِّ العلو أن يبنيَ على سفله شيئاً لم يكن قبل، إلَّا الشَّيء الخفيف الذي لا يضرُّ صاحب السُّفل، فلو انكسرتْ خشبة من سُفل أو انهدمَ السُّفل أُجبِر صاحبه على بنائه، وليس على صاحب العلو أن يبنيَ السُّفل فإن أبى صاحب السفل، أن يبني قيل له: بع ممَّن يبني، انتهى.
          وقال العينيُّ: الذي ذكره أصحابُنا أنَّه ليس لصاحب العلو إذا انهدمَ السفل أن يأخذَ صاحب السفل بالبناء، لكن يُقال لصاحب العلو: ابنِ السُّفْلَ إن شئتَ حتى يبلغ موضع علوك، ثمَّ ابنِ علوَّك، وليس لصاحب السُّفل أن يسكن حتى يعطيَ قيمة بناء السُّفل، وذو العلو يسكنُ علوه، والسفل كالرَّهن في يده.
          وسَقْفُ السُّفل بكلِّ آلاته لصاحبِ / السُّفل، ولصاحب العلو سُكناه وصاحب العلو إذا بنى السُّفل فله أن يرجعَ بما أنفق على صاحب السُّفل وإن كان صاحب السُّفل يقول: لا حاجةَ لي إلى السُّفل.
          ومطابقة الحديث للترجمة تُؤخذ من قوله: ((استهموا على سفينةٍ))، والحديثُ أخرجه المؤلِّف في «الشَّهادات» أيضاً [خ¦2686]، وأخرجه الترمذي في «الفتن».