نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: أن يهوديًا رض رأس جارية بين حجرين

          2413- (حَدَّثَنَا مُوسَى) هو: ابن إسماعيل التَّبوذَكِي، قال: (حَدَّثَنَا هَمَّامٌ) / على وزن فَعَّال بالتشديد، هو: ابنُ يَحيَى بن دينار البصري (عَنْ قَتَادَةَ) أي: ابن دِعامَة (عَنْ أَنَسٍ ☺: أَنَّ يَهُودِيّاً رَضَّ) بتشديد الضاد المعجمة؛ أي: دقَّ، يُقالُ: رَضَضْتُ الشَّيء رضًّا فهو رَضِيض ومَرْضوض، وقال ابن الأثير: الرَّضُّ: الدُّق الجريش.
          (رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ) كانت هذه الجارية من الأنصار، كما صرَّح به في رواية أبي داود، واختلفتْ ألفاظ هذا الحديث فهنا رضَّ رأس جارية بين حجرين، وفي رواية للبخاري [خ¦6879] على ما سيأتي: ((أنَّ يهوديًّا قتل جارية على أوضاحٍ لها فقتلها بين حَجَرين)).
          وفي رواية للطَّحاوي: ((عدا يهوديٌّ في عهد رسول الله صلعم على جاريةٍ فأخذ أوضاحاً كانت عليها ورضخَ رأسها)). وفي رواية لمسلم: ((فرضح رأسها بين حجرين)). وفي رواية لأبي داود: ((أن يهوديًّا قتل جارية من الأنصار على حُلِيٍّ لها، ثمَّ ألقاها في قليبٍ ورضخَ رأسها بالحجارةِ، فأُخِذَ فأُتِيَ به النَّبي صلعم فأمر به أن يُرجَمَ حتَّى يموتَ فرُجِمَ حتَّى مات)). وفي رواية التِّرمذي: ((خرجت جارية عليها أوضاح فأخذها يهوديٌّ فرضخَ رأسها، وأخذ ما عليها من الحُليِّ قال: فأُدْركَتْ وبها رمقٌ، فأتى بها النَّبي صلعم فقال: مَنْ قتلك؟)) الحديث.
          هذا والاختلاف إنَّما هو في الألفاظ لا في المعاني، فإنَّ الرَّضخ والرضَّ والرَّجم كلَّه عبارةٌ عن الضَّرب بالحجارة. والأوضاح: جمع: وضح _بالضاد المعجمة والحاء المهملة_ وهو نوعٌ من الحليِّ يُعمَل من الفضَّة سمِّيت بها لبياضها، والرَّضخ _بالضاد والخاء المعجمتين_ هو الدَّق والكسر هنا، ويجيء بمعنى الشَّدْخ أيضاً، وبمعنى العطيَّة.
          (قِيلَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ أَفُلاَنٌ أَفُلاَنٌ) الهمزة للاستفهام على سبيل الاستخبار (حَتَّى سُمِّيَ) على البناء للمفعول (الْيَهُودِيُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا) وفي نسخة ابن التِّين: <فأومَتْ برأسها>، قال: صوابه: فأومأت، وثلاثيُّه: وَمَأ.
          وفي «المطالع»: وَمَأ وأَوْمأ. وفي «الصحاح»: أَوْمأت إليه أشرتُ، ولا تقل: أَوْمَيت ووَمَأْت إليه، وماءٌ لغة، وهذا معتل الفاء مهموز اللام.
          (فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ) على البناء للمفعول (فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلعم فَرُضَّ رَأْسُهُ) على البناء للمفعول (بَيْنَ حَجَرَيْنِ) / واحتجَّ به عمر بن عبد العزيز وقَتَادة والحسن بن حَيٍّ وابن سِيرين ومالك والشَّافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وابن المُنذر، وجماعة من الظَّاهرية على أنَّ القاتل يقتل بما قَتل به.
          وقال ابنُ حزم: قال مالك: إن قتله بحجر أو بعصاً أو بالنَّار أو بالتَّفريق قُتِلَ بمثل ذلك يكرَّر عليه أبداً حتَّى يموت، فإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتَّى مات حبُسَ مثل المدَّة حتَّى يموت، فإن لم يمت قتل بالسَّيف، وهكذا إن غرَّقه، وهكذا إن ألقاهُ من مهواةٍ عاليةٍ، فإن قطع يديه أو رجليه فمات قُطِعَتْ يدُ القاتل ورجلاه، فإن مات وإلَّا قُتِلَ بالسَّيف.
          وقال أبو محمَّد: إن لم يمت تُركَ كما هو حتَّى يموت لا يُطعَم ولا يُسقَى، وكذلك إن قتله جوعاً أو عطشاً عُطِّشَ أو جُوِّعَ حتَّى يموت، ولا تُراعَى المدَّةُ أصلاً. وقال ابن شَبرُمة: إن غمسه في الماء حتَّى مات غُمِّسُ حتَّى يموتَ.
          وقال عامر الشَّعبي وإبراهيم النَّخَعي وسفيان الثَّوري والحسن البصري وأبو حنيفة وصاحباه ▓: لا يُقتَل القاتل في جميع الصُّور إلا بالسَّيف، واحتجُّوا في ذلك بما رواه أبو داود الطَّيالِسي عن قيس، عن جابر الجُعْفي، عن أبي عازب، عن النَّعمان بن بشير ☺، عن النَّبي صلعم : ((لا قود إلَّا بحديدة)).
          ورواه أيضاً الطَّحاوي: حدَّثنا ابن مرزوق قال: حَدَّثَنَا أبو عاصم قال: حَدَّثَنَا سفيان الثَّوري، عن جابر، عن أبي عازب، عن النُّعمان ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((لا قود إلا بالسَّيف)).
          وأخرجه الدَّارقطني: حدَّثنا محمَّد بن سليمان النُّعماني: حَدَّثَنَا الحسين بن عبد الرَّحمن الجُرجُرائي: حَدَّثَنَا موسى بن داود، عن مُبارك، عن الحسن قال: قال رسول الله صلعم : ((لا قود إلَّا بالسَّيف)). قيل للحسن: عمَّن؟ قال: سمعت النُّعمان بن بشير يذكر ذلك، وقيل: عن مُبارك بن فُضَالة، عن الحسن، عن أبي بَكْرَة مرفوعاً. رواه الوليد بن صالح عنه.
          وأخرجه ابن أبي شَيْبة مرسلاً: حدثنا عيسى بن يونس، عن أشعثَ وعمر بن عُبَيدٍ، عن الحسن قال: قال رسول الله صلعم : ((لا قود إلا بالسيف)).
          ووجه الاستدلال به: أنَّ معناه لا قصاص حاصل إلا بالسَّيف، ومعلوم أن النَّكرة في موضع النَّفي تَعُمُّ، فيكون المعنى لا فرد من أفراد القود / إلَّا وهو مستوفىً بالسَّيف، وفيه النفي والإثبات، وهو من طرق القصر.
          فإن قيل: قال البيهقي: هذا حديث لم يثبتْ له إسناد، وجابر الجُعْفي مطعونٌ فيه.
          فالجواب: أنَّه لَمـَّا طُعِنَ في الجُعْفي، قال وكيع: مهما تشكَّكتم فيه فلا تشكوا في أنَّ جابراً ثقة. وقال شعبة: صدوقٌ في الحديث. وقال الثَّوري لشعبة: لئن تكلَّمت في جابر لتكلَّمت فيك.
          وقال الذَّهبي في «الكاشف»: إنَّ ابن حِبَّان أخرج له في «صحيحه»، وقد تابع الثَّوريَّ أيضاً قيسُ بن الرَّبيع كما مرَّ في رواية الطَّيالِسي. وقال عفَّان: كان قيس ثقةٌ، وثَّقه الثَّوري وشعبة.
          وقال أبو داود الطَّيالِسي: هو ثقةٌ حسنُ الحديث، ثمَّ إنَّا ولئن سلَّمنا ما قاله البيهقيُّ فقد وجدنا شاهداً لحديث النُّعمان ☺، وهو ما رواه ابن ماجه: حدَّثنا إبراهيم بن المُستَمر، حَدَّثَنَا الحرُّ بن مالك العنبري، حَدَّثَنَا مُبارَك بن فُضالة، عن الحسن، عن أبي بَكْرة ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((لا قود إلَّا بالسَّيف))، وسنده جيِّد، وابن المُستَمر صدوقٌ، كذا قال النَّسائي.
          وأمَّا الحُرُّ فقد قال ابنُ أبي حاتم في كتابه: سألت أبي عنه فقال: صدوقٌ، والمُبارَك وإن تكلَّم فيه فقد أخرج له البُخاري في المتابعات في باب قول النَّبي صلعم : ((يخوِّف الله عبادَهُ بالكسوف))، وأخرج له ابن حِبَّان في «صحيحه» والحاكمُ في «مستدركه» ووثَّقه. وقال عفَّان: كان ثقةً وكان وكان، ووثَّقه ابن مَعين مرَّة، وضعَّفه أخرى، وكان يَحيَى القطَّان يحسن الثناء عليه.
          ورُوِيَ أيضاً نحوُه عن أبي هريرة ☺ أخرجه البيهقيُّ في «سننه» من حديث ابن مُصفَّى: حَدَّثَنَا بقيَّة: حدَّثني سليمان، عن الزُّهري، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((لا قود إلَّا بالسَّيف)). ثمَّ قال البيهقي: ورواه بقيَّة بن الوليد عن أبي معاذ هو سليمان بن أَرْقم، عن الزُّهري هكذا. وعن أبي معاذ، عن عبد الكريم بن أبي المُخارِق، عن إبراهيم، عن عَلقْمَة، عن عبد الله ☺: أنَّ رسول الله صلعم قال: ((لا قود إلَّا بسلاح)).
          ورواه مُعَلَّى بن هلال، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضَمْرة، عن عليٍّ ☺ قال: قال رسول الله صلعم : / ((لا قود إلَّا بحديدة)).
          ورُوِيَ أيضاً عن أبي سعيد الخُدْري ☺ أخرجه الدَّارقطني عن عبد الصَّمد بن علي، عن الفَضْل بن عبَّاس، عن يَحيَى بن غَيلان، عن عبد الله بن بُزَيع، عن أبي شَيْبة إبراهيم بن عثمان، عن جابر، عن أبي عازب، عن أبي سعيد الخدري ☺، عن النَّبي صلعم قال: ((القود بالسَّيف، والخطأُ على العاقلة)).
          وهذا الحديث كما رأيتُ قد رُويَ عن النُّعمان بن بَشِير وأبي بَكرةَ وأبي هريرة وعبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي سعيد الخُدْري ♥ ، ولا شكَّ أنَّ بعضها يشهد لبعض، وأقلُّ أحواله أن يكون حسناً، فإذا كان حسناً صحَّ الاحتجاج به.
          وأجابوا عن حديث الباب بأنَّه صلعم رأى أنَّ ذلك القاتل يجب قتله لله تعالى؛ إذ كان إنَّما قَتَلَ على مال قد بُيِّنَ ذلك في الحديث الذي فيه الأوضاح، كما يجبُ دم قاطع الطَّريق لله تعالى، فكأنَّ له أن يقتلَه كيف شاء بسيف أو بغيره.
          وأيضاً روي في هذا الحديث فيما رواه مسلم وأبو داود أنَّه صلعم أُمِرَ به أن يُرجمَ حتَّى يموت فرُجِمَ حتَّى مات، وقد مرَّ عن قريب، فدلَّ ذلك على أنَّ قَتْلَ القاتل لا يتعيَّن أن يكون بما قَتَلَ به.
          وجواب آخر: أنَّ ذلك كان حين كانت المُثْلَةُ مباحةً، كما فعل صلعم بالعُرنَيِيِّنَ، ثمَّ نُسِخَتْ بعد ذلك ونهى عنها صلعم بقوله: ((ولا تُمَثِّلُوا)).
          وفي الحديث أيضاً إيماء تلك الجارية، واختلف العلماء في إشارة المريض فذهب اللَّيث ومالك والشَّافعي إلى أنَّه إذا ثبتت إشارته على ما يعرف مَنْ حضره جازت وصيَّته.
          وقال أبو حنيفة والأَوْزاعي والثَّوري: إذا سُئِلَ المريض عن الشَّيء فأومأ بيده، أو برأسه فليس بشيء حتَّى يتكلم، وأمَّا مَنْ اعتُقل لسانه: قال أبو حنيفة: وإنَّما يجوز إشارة الأخرس أو مَنْ لحقته سكتة لا يتكلَّم، وأمَّا مَنْ اعتُقل لسانه فلا تجوز إشارته.
          وقال صاحب «التوضيح»: قلت الحديث حجَّة عليه.
          وتعقَّبه العَينيُّ: بأنَّه لو أدرك مضمون الحديث لَمـَا اجترأَ على إبراز مثل هذا الكلام، فلا يكثر مثل هذا على قاصر الفهم، وفائت الإدراك، وذلك لأنَّ النَّبي صلعم لم يكتف بإشارة الجارية في قتل اليهودي، / وإنَّما قتله باعترافه.
          وقال الإسماعيليُّ: مَنْ أطاق الإبانة عن نفسه لم تكن إشارته فيما له أو عليه واقعة موقع الكلام، لكن يقع موقع الدَّلالة على ما يُرادُ لا فيما يؤدي إلى الحكم على إنسان بإشارة غيرهِ، ولو كان كذلك لقبلت شهادة الشَّاهدَينِ بالإشارة والإيماء.
          وقال بعضُ الشَّافعية: في هذا الحديث حجَّةٌ على أبي حنيفة حيث لم يوجبِ القصاص فيمَنْ قتل بمثقَّل عمداً، وإنَّما يجبُ عنده دية مغلَّظة، والحديث حجَّة عليه، وخالفه غيره من الأئمَّة مالك والشَّافعي وأحمد وجماهير العلماء.
          والجواب عن هذا: أنَّ عادة ذلك اليهودي كانت قتل الصِّغار بذلك الطَّريق فكان ساعياً في الأرض بالفساد فقتل سياسة. واعترضوا بأنَّه لو كان قُتِلَ لسعيه في الأرض بالفساد لَـمَا قُتِلَ مماثلةً برضِّ رأسه بين الحجرين، ورُدَّ بأنَّ قتله مماثلة كان قبل تحريم المُثْلَةِ، فلمَّا حُرِّمَتْ نُسِخَتْ فكان القتل بعد ذلك بالسَّيف. وفيه بيان أن الرَّجل يُقتَل بالمرأة وهو مجمعٌ عليه عند مَنْ يُعتَدُّ بإجماعهم، وفيه خلافٌ شاذٌّ. وفيه قَتْلُ الكافر بالمسلم.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة من حيث إنَّه يشتمل على خصومةٍ بين يهوديٍّ وجاريةٍ من الأنصار، والحديث أخرجه البخاري في «الوصايا» [خ¦2746]، وفي «الديات» [خ¦6876]، وأخرجه مسلم في «الحدود»، وأبو داود في «الديات»، وكذا التِّرمذي وابن ماجه، وأخرجه النَّسائي في «القود»، والله تعالى أعلم.