نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: لا حمى إلا لله ولرسوله

          2370- (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ) بضم الموحدة، قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) أي: ابنُ سَعْد، (عَنْ يُونُسَ) هو: ابنُ يزيد الأَيلي (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريِّ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بتصغير الابن وتكبير الأب (ابْنِ عُتْبَةَ) أي: ابن مسعود (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ أَنَّ الصَّعْبَ) بفتح المهملة ضد السهل (ابْنَ جَثَّامَةَ) بفتح الجيم وتشديد المثلثة، اللَّيثي، وقد مرَّ في «جزاء الصيد» [خ¦1825] (قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم قَالَ: لاَ حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ) أي: لا حمى لأحدٍ يخصُّ نفسه يرعى فيه ماشيته دون سائر الناس، وإنَّما هو لله ولرسوله ولمَنْ ورد ذلك عنه من الخلفاء بعده إذا احتاج إلى ذلك لمصلحة الناس، كما فعل الصِّدِّيق والفاروق وعثمان ♥ لَمـَّا احتاجوا إلى ذلك.
          وعاب رجلٌ من العرب عمر ☺ فقال: بلاد الله حُمِيَتْ لمال الله، وأُنكِر أيضاً على عثمان ☺ أنَّه زاد في الحمى، وليس لأحدٍ أن ينكرَ ذلك؛ لأنَّه صلعم أقدم عليه ولخلفائه الاقتداء به والاهتداء.
          وإنَّما يحمي الإمام ما ليس بملكٍ لأحدٍ مثلَ بطون الأودية والجبال والموات، وإن كان ينتفع المسلمون بتلك المواضع فمنافعها في حماية الإمام.
          وقال ابن التِّين: معنى الحديث: لا حِمَىً إلَّا على ما أذن الله لرسوله أن يحميَه لا ما كان تحميه العرب في الجاهلية.
          وقال الحافظُ العَسْقَلانيُّ: والحمى هو المكان المحمي وهو خلافُ المباح، ومعناه: أن يمنعَ من الإحياء من ذلك الموات ليتوفر فيه الكلأ فترعاه مواشٍ مخصوصة ويمنع غيرها والأرجح عند الشافعيَّة أنَّ الحمى مختصٌّ بالخليفة ومنهم من ألحق به ولاةَ الأقاليم ومحلُّ الجواز مطلقاً أن لا يضرَّ بكافة المسلمين.
          واستدلُّ به الطحاويُّ لمذهبه في اشتراط إذن الإمام في إحياء الموات، وتعقِّب بالفرق بينهما، فإنَّ الحمى أخصُّ من الإحياء.
          هذا وتعقَّبه العَينيُّ بأنَّ حصر الحمى لله ولرسوله يدلُّ على أنَّ حكم الأراضي إلى الإمام والموات من الأراضي، ودعوى أخصيَّة الحمى من الإحياء ممنوعةٌ؛ لأنَّ كلًّا منهما لا يكون إلَّا فيما لا مالك له فيستويان في هذا المعنى.
          هذا وقال الجُورِيُّ من الشافعية: ليس / بين الحديثين معارضة، فالحمى المنهيُّ ما يُحمى من الموات الكثير العشب لنفسه خاصَّةً كفعل الجاهليَّة، والإحياء المباح ما لا منفعة للمسلمين فيه شاملة فافترقا، وإنَّما تعد أرض الحمى مواتاً؛ لكونها لم يتقدم فيها ملكٌ لأحد، لكنَّها تشبه العام لِــمَا فيها من المنفعة العامة، والله أعلم.
          والحديث عَيْنُ الترجمةِ فلا مطابقة أقوى من ذلك.
          ثمَّ رواية اللَّيث عن يونس من رواية الأقران؛ لأنَّ اللَّيث قد سمع من شيخه ابنِ شِهاب أيضاً، وفي هذا الإسناد تابعيَّان وهما: ابنُ شِهاب وعُبَيد الله، وصحابيان وهما: ابنُ عباس والصَّعب بن جَثَّامة ♥ .
          وهذا الحديث من أفراده، ووقع في «الإلمام» للشيخ تقي الدين القشيري أنَّه من المتَّفق عليه وهو وهمٌ، بل ربما يكون من قلم النَّاسخ.
          وأخرجه المؤلف في «الجهاد» أيضاً [خ¦3012]، وأخرجه أبو داود في «الخراج»، والنَّسائي في «الحمى» وفي «السِّير».
          (وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله) هو: البخاري نفسه (بَلَغَنَا) وقع للأكثرين من الرواة هكذا: <وقال: بلغنا> بدون ذكر لفظ: أبو عبد الله، ولم يقع لفظ: أبو عبد الله إلَّا في رواية أبي ذرٍّ. وقال ابن التِّين: وقع في بعض روايات البخاري: وقال أبو عبد الله: وبلغنا، فجعله من قولِ البخاري.
          وقال الحافظُ العَسْقَلانيُّ: فظنَّ بعض الشراح أنَّه من كلام البخاريِّ المصنف، وليس كذلك فقد أخرجه الإسماعيليُّ من طريق أحمد بن إبراهيم بن مِلْحان، عن يَحيَى بن بُكَير شيخ البخاريِّ فيه فذكر الموصول والمرسل جميعاً على ما هو الصواب كما أخرجه أبو داود من طريق ابن وَهْب، عن يونس، عن ابن شِهاب فذكر الموصول والمرسل جميعاً.
          ووقع لأبي نُعَيم في «مستخرجه» فيه تخبيطٌ فإنَّه أخرجه من الوجه الَّذي أخرجه منه الإسماعيلي، فاقتصر في الإسناد الموصول على المتن المرسل، وهو قوله: حمى النَّقيع.
          وليس هذا من حديث ابن عباس ☻ ، عن الصَّعب بن جُثامة ☺، وإنَّما هو بلاغٌ للزهريِّ انتهى، يعني: أنَّ قوله: بلغنا قائله الزهري.
          والحاصل: أنَّ رواية الأكثرين هي الصَّحيحة، وأن الضمير في قوله: وبلغنا، يرجع إلى الزهريِّ فقد ذكر أبو داود أنَّ القائل: وبلغنا... إلى آخره ابن شِهاب الزهريِّ، وروى في «سننه» من طريق ابن وَهْب، عن يونس، عن ابن شِهابٍ فذكر الموصول والمرسل جميعاً. /
          أمَّا الموصول فرواه عن سعيد بن منصور، قال: حَدَّثَنَا عبد العزيز بن محمد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن ابن شِهاب، عن عُبَيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصَّعب بن جثامة ♥ : ((أنَّ رسول الله صلعم حمى النَّقيع وقال: لا حمى إلَّا لله)).
          وأمَّا المرسل فهو: قال ابن شهاب: وبلغني أنَّ رسول الله صلعم حمى النَّقيع.
          وأخرجه البَيهقيُّ من طريق سعيد، ونقل عن البخاري أنَّه وهم. قال البَيهقيُّ: لأنَّ قوله: حمى النقيع، من قول الزهريِّ؛ يعني: من بلاغه. ثمَّ رُويَ من حديث ابن عمر ☻ : أنَّ النَّبي صلعم حمى النَّقيع لخيل المسلمين ترعى فيهِ. وفي إسناده العُمَري وهو ضعيفٌ، وقد أخرجه أحمد من طريقه.
          (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم حَمَى النَّقِيعَ) بالنون المفتوحة والقاف المكسورة وبالياء الساكنة وفي آخره عين مهملة، على عشرين فرسخاً من المدينة، وقيل: على عشرين ميلاً.
          وذكر ابن وَهْب أنَّ النقيع الذي حماه سيدنا رسول الله صلعم قدره ميل في ثمانية أميال، وقيل: مساحته بريد في بريد.
          قال ياقوت: وهو غيرُ نقيع الخَضِمات الَّذي كان حماه عمر بن الخطاب ☺ وهو الموضع الَّذي جمع فيه أسعد بن زُرارة بالمدينة، وعكس ذلك أبو عُبَيد البكري.
          وحكى ابن الجَوزي أنَّ بعضهم قال: إنَّهما واحدٌ قال: والأوَّل أصحُّ، وكذلك المشهور أنَّه غير الحمى، وأصل النَّقيع كلُّ موضعٍ يستنقع فيه الماء.
          وحكى الخَطَّابيُّ أنَّ من الناس مَنْ يقوله بالباء الموحَّدة وهو تصحيفٌ.
          (وَأَنَّ عُمَرَ حَمَى الشَّرَفَ وَالرَّبَذَةَ) وهذا أيضاً من بلاغ الزُّهري، والشَّرَف _بفتح الشين المعجمة والراء وفي آخره فاء_ وهو المشهور المعروف بشرف الرَّوحاء.
          وذكر القاضي عياض أنَّه عند البخاري _بفتح السين المهملة وكسر الراء_ قال: وفي «موطأ» ابن وَهْب: بفتح المعجمة والراء. قال: وكذا رواه بعض رواة البخاري أو أصلحه وهو الصَّواب؛ لأن الشَّرف بالمعجمة من عمل المدينة، وأما سَرِف _بالمهملة وكسر الراء_ من عمل مكَّة ولا يدخله الألف واللام بينها وبين مكة ستَّة أميال، وقيل: سبعة، وقيل: تسعة، وقيل: اثني عشر.
          والرَّبَذَة _بفتح الراء والباء الموحدة والذال المعجمة_: قريةٌ قريبةٌ من ذات عرق، بينها وبين المدينة ثلاث / مَرَاحل، وروى ابنُ أبي شَيبة بإسنادٍ صحيحٍ، عن نافع، عن ابن عمر ☻ : أنَّ عمر ☺ حمى الرَّبذة لنِعَمِ الصَّدقة. هذا وقد ثبت وقوع الحمى من عمر ☺، كما سيأتي في أواخر «الجهاد» [خ¦3059] من طريق أسلم أنَّ عمر ☺ استعمل مولىً له على الحمى.