نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: من أعمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق

          2335- (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ) قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) أي: ابن سَعْدٍ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ) واسم أبي جعفرٍ: يسار، الأُمَوي القرشي المصري (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هو: أبو الأَسْود، يتيم عروة بن الزُّبير، وقد تقدَّما في «الغسل» [خ¦288].
          (عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ ♦) ونصف الإسناد الأوَّل مصريون، والنِّصف الثَّاني مدنيُّون، والحديث من أفرادِه (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: مَنْ أَعْمَرَ أَرْضاً) بفتح الهمزة والميم، من باب الإفعال. قال القاضي عياض: كذا وقع، والصَّواب: عَمَرَ، ثلاثيًّا، قال تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9] إلَّا أن يريد أنَّه جعل فيها عمَّاراً.
          وقال ابن بَطَّال: ويحتمل أن يكون أصله من اعتمرَ أرضاً؛ أي: اتَّخذها، وسقطت التاء من الأصل، وتعقَّبه العَينيُّ بأنَّه لا حاجةَ إلى هذا الكلام مع ما فيه من توهُّم الغلط؛ لأنَّ صاحب «العين» ذكر أعمرت الأرض.
          وقال غيره: قد سمع فيه الرُّباعي، يقال: أعمر الله باب منزلك، فالمراد من أعمر أرضاً بالإحياء، ووقع في رواية أبي ذرٍّ: <مَنْ أُعمِر> على البناء للمفعول؛ أي: مَنْ أُعمِر غيرُه، وكأنَّ المراد بالغير الإمام، وهذا يدلُّ على أنَّ إذن الإمام لا بدَّ منه.
          ووقع في جمع الحميديِّ بلفظ: ((مَنْ عَمَرَ)) من الثَّلاثي، وكذا وقع عند الإسماعيليِّ من وجهٍ آخر عن يَحيَى بن بُكير شيخ البخاريِّ فيه.
          (لَيْسَتْ لأَحَدٍ) صفة أرضاً (فَهْوَ أَحَقُّ) أي: بها من غيره، وحذف متعلق أحقُّ للعلم به، وقد زاد الإسماعيليُّ وقال: ((فهو أحقُّ بها)) أي: من غيره، واحتجَّ به الشَّافعي وأبو يوسف ومحمَّد على أنَّه لا يحتاج فيه إلى إذن الإمام فيما قرُب وفيما بعُد، وعن مالكٍ فيما قرُب لا بدَّ من إذن الإمام، وإن كان في فيافي المسلمين والصَّحارى / وحيث لا يتشاحَّ النَّاس فيه فهي له بغير إذنٍ.
          وقال أبو حنيفة: ليس لأحدٍ أن يحيي مواتاً إلَّا بإذن الإمام فيما بعدت وقربت، فإن أحياه بغير إذنه لم يملكه، وبه قال مالكٌ في رواية، وهو قولُ مكحولٍ وابن سيرين وابن المسيب والنَّخعيِّ. واحتجَّ أبو حنيفة ☼ بقوله صلعم : ((لا حمى إلَّا لله ولرسوله)) في «الصحيحين» والحِمَى: ما حَمِيَ من الأرض، فدلَّ على أنَّ حكم الأرضين إلى الأئمَّة لا إلى غيرهم.
          فإن قيل: احتجَّ الطَّحاوي للجمهور مع حديث الباب بالقياس على ماء البحر والنَّهر وما يصاد من طيرٍ وحيوانٍ، فإنَّهم اتَّفقوا على أنَّ مَنْ أخذَه أو صادَه ملكه، سواءٌ قرُب أو بعُد، وسواءٌ أذن له الإمام أم لم يأذنْ.
          فالجواب: أنَّه قياسٌ مع الفارق فإنَّ الإمام لا يجوز له تمليك ماء نهرٍ لأحد، ولو ملَّك رجلاً أرضاً ملكها ولو احتاج الإمام إلى بيعها في نوائب المسلمين جاز بيعه لها، ولا يجوز ذلك في مائهم وصيدهم ولا نهرهم، وليس للإمام بيعها ولا تمليكها لأحدٍ؛ لأنَّ الإمام فيها كسائر النَّاس.
          واحتجَّ بعضُهم لأبي حنيفة بحديث معاذٍ ☺ يرفعه: ((إنَّما للمرءِ ما طابتْ به نفس إمامه))، وفيه أنَّه رواه البيهقيُّ من حديث بقيَّة عن رجلٍ لم يسمِّه، عن مكحولٍ، عنه. وقال: هذا منقطعٌ فيما بين مكحولٍ ومَنْ فوقه، وفيه رجلٌ مجهولٌ ولا حجَّة في مثل هذا.
          فإن قيل: رواه ابنُ خزيمة من حديث عَمرو بن واقِد، عن موسى بن يسار، عن مكحول، عن جُنادَة بن أبي أُميَّة، عن معاذٍ ☺.
          فالجواب: أنَّه رواه وقال: عَمرٌو متروكٌ بالاتِّفاق، وأُجيب عن أحاديث الباب: بأنَّه يُحتَمل أن يكون معناها: مَنْ أحياها على شرائط الإحياء، ومن شرائطهِ تحظيرها، وإذن الإمام في ذلك، وتمليكها إيَّاه.
          وروى الطَّحاوي عن محمَّد بن عُبَيد الله بن سعيد أبي عَوْن الثَّقفيِّ الأعورِ الكوفيِّ التَّابعيِّ قال: خرج رجلٌ من أهل البصرة، يقال له: أبو عبد الله إلى عمر ☺ فقال: إنَّ بأرض البصرة أرضاً لا تضرُّ بأحدٍ من المسلمين، وليست أرض خراجٍ فإن شئتَ أن تقطعنيها أتَّخذها قضباً وزيتوناً، / فكتب عمر إلى أبي موسى ☻ إن كانت حمًى فاقطعها إيَّاه، أفلا ترى أنَّ عمر ☺ لم يجعلْ له أخذها، ولا جعل له ملكها إلَّا بإقطاع خليفته ذلك الرَّجل إيَّاها، ولولا ذلك لكان يقول له: وما حاجتك إلى إقطاعي إيَّاك تحميها وتعمرها فتملكها، فدلَّ ذلك أنَّ الإحياء عند عمر ☺ هو ما أذن الإمام فيه للذي يتولَّاه ويملِّكه إيَّاه.
          قال الطَّحاوي: وقد دلَّ على ذلك أيضاً ما حدَّثنا ابن مرزوقٍ، قال: حدَّثنا أزهرُ السَّمان، عن ابن عَونٍ عن محمَّد قال: قال عمر ☺: لنا رِقَاب الأرض. فدلَّ ذلك على أنَّ رقابَ الأرضين كلُّها إلى أئمَّة المسلمين، وأنَّها لا تخرج من أيديهم إلَّا بإخراجهم إيَّاها إلى مَنْ رأَوا على حُسن النَّظر منهم للمسلمين في عِمَارة بلادهم وصلاحها.
          قال الطَّحاوي: وهذا قولُ أبي حنيفة، وبه نأخذُ.
          (قَالَ عُرْوَةُ) أي: ابن الزُّبير بن العوَّام هو موصولٌ بالإسناد المذكور إلى عروة، ولكن رواية عروة عن عمر ☺ مرسلةٌ؛ لأنَّه وُلِدَ في آخر خلافة عمر ☺ قاله خليفة، وهو قضيَّة قول ابن أبي خيثمة أنَّه كان يوم الجمل ابن ثلاث عَشْرة سنةً؛ لأنَّ الجمل كان سنة ستٍّ وثلاثين، ووفاة عمر ☺ كان سنة ثلاثٍ وعشرين.
          (قَضَى بِهِ) أي: بالحكم المذكور وهو: ((أنَّ مَنْ أحيا أرضاً ميتةً فهي له)) (عُمَرُ) أي: ابن الخطَّاب (☺ فِي) أيَّام (خِلاَفَتِهِ) وقد تقدَّم في أوَّل الباب [خ¦41/15-3650] عن عمر ☺: مَنْ أحيا أرضاً ميتةً فهي له.
          وقد مرَّ أنَّ مالكاً وصله وهذا قوله، والذي رواه عروة فعله، وفي كتاب «الخراج» ليَحيَى بن آدمَ من طريق محمَّد بن عُبَيد الله الثَّقفي قال: كتب عمر بن الخطَّاب ☺: مَنْ أحيا مواتاً من الأرض فهو أحقُّ به.
          وروى من وجهٍ آخر عن عَمرو بن شعيب أو غيره: أنَّ عمر ☺ قال: مَنْ عطَّل أرضاً ثلاث سنين أخذها الإمام ودفعها إلى غيره. ويُروَى: مَنْ عطَّل أرضاً ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فعمرها فهي له.
          والمراد بالتَّعطيل: التَّحجير، وهو ليس بإحياء ليملكها به فإنَّ الإحياء هو العِمارة، وإنَّما التَّحجير للإعلام. وفي «المحيط»: أنَّه يصير ملكاً للمُحْجِر. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده: أنَّ التَّحجير يفيد ملكاً / مؤقتاً إلى ثلاث سنين. وبه قال الشَّافعي في الأصحِّ وأحمد، والأصل عندنا أنَّ مَنْ أحيا مواتاً هل يملك رقبتها؟ قال بعضهم: لا يملك رقبتها، وإنَّما يملك استغلالها. وبه قال الشَّافعي في قولٍ وعند عامَّة المشايخ: يملك رقبتها. وبه قال مالك والشَّافعي في قول.
          وثمرة الخلاف تظهر فيمَنْ أحياها ثمَّ تركها فزرعها غيره، فعلى قول البعض: الثَّاني أحقُّ بها، وعلى قول العامَّة الأول ينزعها من الثَّاني كمَنْ أخرب داره أو عطَّل بستانه وتركه حتَّى مرَّت عليه سنون فإنَّه لا يخرج عن ملكه، ولكن إذا حجَّرها ولم يعمرها ثلاث سنين يأخذها الإمام كما ذكرنا، وتعيين الثَّلاث بأثر عمر ☺، ثمَّ عندنا يملكه الذِّمي بالإحياء كالمسلم. وبه قال مالكٌ وأحمد في رواية. وقال الشَّافعي وأحمد في رواية: ((لا يملكه في دار الإسلام وسواءٌ في ذلك الحربيُّ والذِّمي والمستأمِن)).
          واستدلَّ الشَّافعي بحديث أَسَمر بن مُضرِّس وقد مرَّ آنفاً، واستدلَّ أصحابنا بعموم الأحاديث الواردة في هذا الباب.
          وحكى الرَّافعي عن الأستاذ أبي طاهرٍ: أنَّ الذي يملك بالإحياء إذا كان بإذن الإمام، والله أعلم.