نجاح القاري لصحيح البخاري

باب فضل ليلة القدر

          ░░32▒▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، باب فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ) قد سقطت البسملة في رواية غير أبي ذرٍّ قبل الباب. ومعنى ليلة القدر: ليلةُ تقدير الأمور وقضائها والحكم والفصل يقضي الله فيها قضاء السَّنة، وهو مصدر قولهم: قدَّر الله الشَّيء قدْراً أو قَدراً بالإسكان والتحريك لغتان كالنَّهَر والنهْر، وقدَّره تقديراً بمعنىٍ واحد. قيل: القدر هنا بمعنى القدَر / _بفتح الدال_ الذي هو مؤاخي القضاء، والمعنى أنَّه يقدر فيها أحكام تلك السَّنة لقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4].
          وبه صدَّر النَّووي كلامه فقال: قال العلماء: سمِّيت ليلة القدر لما يكتب فيها الملائكة من الأقدار لقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]. ورواه عبد الرَّزَّاق وغيره من المفسِّرين بأسانيد صحيحة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم.
          وقال التُّورِبِشتي: إنَّما جاء القدْر _بسكون الدال_ وإن كان الشَّائعُ في القدر الذي يؤاخي القضاء فتحَ الدال ليعلم أنَّه لم يرد به ذلك، وإنَّما أريد به تفصيل ما جرى به القضاء، وإظهاره وتجديده في تلك السَّنة لتحصيل ما يلقى إليهم فيها مقدار بمقدار، وذلك لأنَّ تقدير الله تعالى لا يحدث في تلك اللَّيلة، فإنَّ الله تعالى قدَّر المقادير قبل أن يخلقَ السموات والأرض في الأزل، فالمراد إظهار تلك المقادير للملائكة في تلك اللَّيلة بأن يكتبها من اللَّوح المحفوظ.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : أنَّ الله تعالى يقدِّر كلَّ ما يكون في تلك السَّنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه اللَّيلة من السَّنة الآتية، ويسلم إلى مدبِّرات الأمور من الملائكة، وهو إسرافيل وميكائيل وعزرائيل وجبرائيل ‰؛ يعني: أنَّ نسخة الأرزاق والنَّباتات والأمطار إلى ميكائيل. ونسخة الحروب والرِّياح والجنود والزَّلازل والصَّواعق والخسف إلى جبرائيل. ونسخة الأعمال إلى إسرافيل. ونسخة المصائب إلى ملك الموت ‰، والله أعلم.
          وقيل: سمِّيت بذلك لخطرها وشرفها. وعن الزُّهري هي ليلة العظمة والشَّرف من قولهم: لفلان عند الأمير قدر؛ أي: جاه ومنزلة، ويقال: قدَّرت فلاناً؛ أي: عظَّمته، قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] أي: ما عظَّموه حقَّ عظمته، يدلُّ على هذا الوجه قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3]. والمعنى: أنَّها ذات قدر وشرف لنزول القرآن فيها، ولما يقع فيها من تنزُّل الملائكة، ولما ينزل فيها من البركة والرَّحمة والمغفرة، ولأنَّ من أتى فيها بالطَّاعات وأحياها يكون ذا قدر وشرف.
          وقال أبو بكر الورَّاق: من لم يكن ذا قدر وخطر يصير في تلك اللَّيلة ذا قدر وخطر إذا أدركها وأحياها، ولأنَّ كل عمل صالح يوجد فيها من المؤمن يكون ذا قدر وقيمة عند الله تعالى لكونه مقبولاً فيها.
          وقال أبو بكر الورَّاق أيضاً: سمِّيت بذلك لأنَّه أنزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي قدر على نبيٍّ ذي قدر على أمَّة لها قدر، ولعلَّه تعالى إنَّما ذكر لفظ القدر في سورة القدر ثلاث مرَّات / لهذا السَّبب.
          وقال سهلُ بن عبد الله: لأنَّ الله تعالى يقدِّر الرَّحمة فيها على عباده المؤمنين، وقيل: لأنَّه ينزل فيها إلى الأرض ثلاثة من الملائكة أولوا قدر وذووا خطر. وقيل: القدر هنا بمعنى التَّضييق كقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُه} [الطلاق:7]. ومعنى التَّضييق فيها إخفاؤها عن العلم بتعيينها. وعن الخليل بن أحمد: إنَّ الأرض تضيق فيها بالملائكة، والله أعلم.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجر عطفاً على قوله ((فضل ليلة القدر))؛ أي: وتفسير قول الله تعالى. وفي رواية أبي ذرٍّ وابن عساكر: <وقال الله تعالى> وفي رواية أبي ذرٍّ: <{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ .وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:1-2] إلى آخر السورة>، ولابن عساكر: <إلى آخره>، وفي رواية كريمة: السُّورة كلَّها مذكورة وقد اخترناها.
          ومطابقة ذكر هذه السُّورة عقب التَّرجمة؛ لكون ليلة القدر ذكرت مكرَّرة لبيان فضلها. وهذه السُّورة مائة واثني عشر حرفاً، وثلاثون كلمة، وخمس آيات، وهي مدنيَّة، قاله الضَّحَّاك ومقاتل والأكثر على أنَّها مكيَّة. وقال الواقدي: هي أوَّل سورة نزلت بالمدينة.
          ({إِنَّا}) بنون العظمة ({أَنْزَلْنَاهُ}) أي: القرآن، فخمه بإضماره من غير ذكر شهادة بالنَّباهة المغنية عن التَّصريح كما عظَّمه بأن أسند إنزاله إلى ذاته ({فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}) بإسكان الدال من غير خلاف بين القرَّاء، فإن قيل: لم ينزل القرآن جملة في وقت واحد، بل نزل منجماً مفرَّقاً في زمان ممتد ثلاث وعشرين سنة، فما وجه قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] فالجواب عنه من وجوه:
          الأوَّل: ما روي عن ابن عبَّاس ☻ أنَّ جبرائيل ◙ أنزله جملة واحدة في ليلة القدر من اللَّوح المحفوظ إلى السَّماء الدُّنيا، وأملاه على السَّفرة، ثمَّ كان جبرائيل ◙ أو ينزل به عليه صلعم منجَّماً مفرَّقاً على حسب المصالح. والسَّفرة جمع: سافر؛ يعني: كاتب، من السِّفر، وهو الكتب، والسَّفرة الكرام البررة هم الملائكة في السَّماء الدُّنيا.
          الثَّاني: أنَّ المراد ابتدأنا إنزاله على طريق التَّنجيم والتَّفصيل في ليلة القدر بناءً على أنَّ البعثة كانت في رمضان.
          الثَّالث: أنَّ قوله: في ليلة القدر، معناه: في فضل ليلة القدر، وبيان شرفها وقدرها، وليست تلك اللَّيلة ظرفاً للإنزال حتَّى ينافي كون إنزاله مفرَّقاً منجَّماً في ثلاث وعشرين سنة.
          فإن قيل: ينبغي على الوجه الثَّاني أن يقال: أنزلنا إلى سماء الدُّنيا؛ / لأنَّ إطلاقه يوهم الإنزال إلى الأرض وإلى الرَّسول صلعم .
          فالجواب: أنَّه لا ضير في ذلك؛ لأنَّ إنزاله إلى سماء الدُّنيا بمنزلة إنزاله إلى الأرض من حيث إنَّه تعالى إذا شرع في أمر يتمُّه لا محالة، ومن حيث أنَّ سماء الدُّنيا كالمشترك بيننا وبين الملائكة السَّفرة، فهي لهم مسكن ولنا سقف وزينة، وإنزال القرآن هناك كإنزاله هنا.
          ثمَّ إنَّه تعالى فخَّم شأن تلك اللَّيلة التي أنزل فيها القرآن بقوله تعالى: ({وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}) أي: وأيُّ شيء أعلمك ما هي؟ أي: أنَّك لا تعلم كُنهها، ولم تبلغ درايتك غاية فضلها ومنتهى علوِّ قدرها، فإنَّها أعظم من أن تبلغها دراية أحد فـ{مَا} مبتدأ، و{أَدْرَاكَ} خبره، و{مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} جملة استفهامية في محل النَّصب على أنَّه مفعول ثان لـ(أدري)، ومفعوله الأوَّل كاف الضَّمير.
          ثمَّ إنَّه تعالى بيَّن فضيلة تلك اللَّيلة من ثلاثة وجوه: من كونها خيراً من ألف شهر، ومن كونها تنزل فيها الملائكة والرُّوح، ومن كونها سلاماً حتَّى مطلع الفجر، فقال:
          ({لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}) أي: ليس فيها تلك اللَّيلة، والعمل في تلك اللَّيلة أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وقيل: وذكر الألف إمَّا للتَّكثير، فإنَّ العرب تذكر الألف ولا تريد حقيقته، وإنَّما تريد المبالغة في الكثرة، كما في قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة:96] بمعنى جميع الدَّهر.
          وأمَّا ما ذكره الواحدي في سبب النُّزول عن مجاهد، وذكره ابن أبي حاتم أيضاً بسنده إلى مجاهد مرسلاً (1)، ورواه البيهقي أيضاً في «سننه» أنَّ النَّبي صلعم قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم اللَّيلة حتَّى يصبح، ثمَّ يجاهد حتَّى يمسي فعل ذلك ألف شهر، فتعجَّب رسول الله صلعم والمسلمون من ذلك، فأنزل الله ╡ هذه الآية؛ يعني: أنَّ ليلة القدر لأمَّتك خير من ألف شهر لذلك الإسرائيلي قام وحمل السِّلاح وجاهد ألف شهر وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر.
          وذكر بعض المفسِّرين أنَّه كان في الزَّمن الأوَّل نبي يقال له: شمسون، قاتل الكفرة في دين الله ألف شهر، ولم ينزع الثِّياب والسِّلاح فقالت الصَّحابة ♥ : يا ليت لنا عمراً طويلاً حتَّى نقاتل مثله، فنزلت هذه الآية، وأخبر صلعم أنَّ ليلة القدر خير من ألف شهر الذي لبس السَّلاح فيه / شمسون في سبيل الله، والظَّاهر أنَّ ذلك الرَّجل الذي ذكره الواحدي هو شمسون هذا.
          وعن أبي الخطَّاب الجارود بن سهيل: حدَّثنا سالم بن قتيبة: حدَّثنا القاسم بن الفضل: حدَّثنا عيسى بن مازن قال: قلت للحسن بن عليِّ ☻ عمدت لهذا الرَّجل فبايعت له؛ يعني: معاوية ☺ فقال: إنَّ رسول الله صلعم أري بني أميَّة يعلون منبره خليفة بعد خليفة، فشقَّ ذلك عليه، فأنزل الله تعالى سورة القدر قال القاسم: فحسبنا ملك بني أميَّة فإذا هو ألف شهر.
          وعند ابن أبي حاتم بسنده إلى عليِّ بن عروة أنَّه ذكر رسولُ الله صلعم يوماً أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاماً لم يعصوه طرفة عين، فذكر أيُّوب وزكريا وخرقيل ويوشع بن نون، فعجب أصحاب رسول الله صلعم من ذلك، فأتاه جبرائيل ◙ فقال: يا محمَّد! عجبت أمَّتك من عبادة هؤلاء ثمانين سنة لم يعصوا الله طرفة عين، فقد أنزل الله عليك خيراً من ذلك، ثمَّ قرأ عليه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] الآياتِ، هذا أفضل ممَّا عجبت أنت وأمَّتك، فسُرَّ النَّبي صلعم والنَّاس معه.
          وعن ابن عبَّاس ☻ تفكَّر النَّبي صلعم في أعمار أمَّته وأعمار الأمم السَّابقة، فكأنَّه تقاصر إليه أعمار أمَّته أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر، فخصَّ هذه الأمَّة بتضعيف الحسنات لقصر أعمارهم، ويقال: إنَّ الرَّجل فيما مضى كان لا يستحقُّ أن يقال له فلان عابد حتَّى يعبد الله ألف شهر، وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فجعل الله تعالى لأمَّة محمَّد صلعم ليلة خيراً من ألف شهر كانوا يعبدون فيها.
          وقال مجاهد: سلام الملائكة والرُّوح عليك تلك اللَّيلة خير من سلام الخلق عليك ألف شهر.
          ثمَّ إنَّ جمهور العلماء على أنَّ ليلة القدر باقية مكرَّرة في كلِّ سنة مختصَّة برمضان؛ لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ} [البقرة:185] مع قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]. وقد اختلف في تعيينها اختلافاً كثيراً. وستأتي الأقوال فيه في باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي النَّاس إن شاء الله تعالى [خ¦2023].
          والذي عليه معظم العلماء أنَّها اللَّيلة السَّابعة والعشرون، وبه قال أبيُّ بن كعب وجماعة من الصَّحابة ♥ ، وذكر فيه أمارات:
          أحدها: حديث ابن عبَّاس ☻ أنَّ / السُّورة ثلاثون كلمة، وقوله: هي السَّابعة والعشرون منها.
          والثَّاني: ما نقل أيضاً عن ابن عبَّاس ☻ أنَّه قال: ليلة القدر تسعة أحرف، وهي مذكورة فيها ثلاث مرات فيكون سبعاً وعشرين.
          والثَّالث: أنَّه كان لعثمان بن أبي العاص غلام فقال: يا مولاي! إنَّ البحر يعذب ماؤه في بعض اللَّيالي قال: إذا كانت تلك اللَّيلة فأعلمني فإذا هي السَّابعة والعشرون.
          وفي «صحيح مسلم» عن أبيِّ بن كعب أنَّ الشَّمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها. وفي رواية لأحمد: ((مثل الطِّست)). ونحوه لأحمد من طريق أبي عون عن ابن مسعود ☺ وزاد: ((صافية)). وله من حديث ابن عبَّاس ☻ نحوه. ولابن خزيمة من حديثه مرفوعاً: ((ليلة القدر طلقة لا حارَّة ولا باردة، وتصبح الشَّمس يومها حمراء ضعيفة)).
          ولأحمد من حديث عبادة بن الصَّامت ☺ مرفوعاً: ((إنَّها صافية بلجة، كأنَّ فيها قمراً ساطعاً، ساكنة صاحية لا حرَّ فيها ولا برد، ولا يحلُّ لكوكب أن يرمي به فيها، وإنَّ من أماراتها أنَّ الشَّمس في صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شُعَاع مثل القمر ليلة البدر لا يحلُّ للشَّيطان أن يخرجَ معها يومئذٍ)).
          ولابن أبي شيبة من حديث ابن مسعود ☺: ((إنَّ الشَّمس تطلعُ كل يوم بين قرني شيطان إلَّا صبيحة ليلة القدر)). وله من حديث جابر بن سمرة ☺ مرفوعاً: ((ليلة القدر ليلة مطرٍ وريح))، ولابن خُزيمة من حديث جابر ☺ مرفوعاً: ((هي ليلة طلقةٌ بلجةٌ لا حارَّة ولا باردة، ترضح كواكبها ولا يخرج شيطانها حتَّى يضيء فجرها)). ومن طريق قتادة، عن أبي ميمونة، عن أبي هريرة ☺ مرفوعاً: ((وإنَّ الملائكة تلك اللَّيلة أكثر في الأرض من عدد الحصى)).
          وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد: ((لا يرسل فيها شيطان، ولا يحدث فيها داء)). ومن طريق الضَّحَّاك: ((يقبل الله التوبة فيها من كلِّ تائب، وتفتح فيها أبواب السَّماء، وهي من غروب الشَّمس إلى طلوعها)).
          وذكر الطَّبري عن قوم أنَّ الأشجار في تلك اللَّيلة تسقط إلى الأرض، ثمَّ تعود إلى منابتها، وأنَّ كلَّ شيء يسجد فيها. وروى البيهقي في «فضائل الأوقات» من طريق الأوزاعي، عن عَبدة بن أبي لبابة: أنَّه سمعه يقول: إنَّ المياه المالحة تعذب تلك اللَّيلة. وروى ابنُ عبد البرِّ من طريق زهرة بن معبد نحوه قالوا: وأكثر هذه العلامات وجدت في اللَّيلة السَّابعة والعشرين، والله أعلم.
          وقال عبيد بن عمر: أنَّها آخر ليلة من رمضان. واستدلَّ بقوله صلعم : ((إنَّ لله تعالى في كلِّ ليلة من شهر رمضان ألف ألف عتيق من النَّار كلُّهم قد استوجبوا العذاب، فإذا كان آخر ليلة من رمضان أعتقَ الله في تلك اللَّيلة بعددِ من أعتق من أوَّل الشَّهر...)) إلى آخره.
          ولأنَّ اللَّيلة الأولى كمن ولد له ذكر فهي ليلة شكر، واللَّيلة الأخيرة ليلة الفراق كمن مات ولد خير (2)، وفرقٌ بين الشُّكر والصَّبر، فإنَّ الشاكر مع المزيد؛ لقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] والصَّابر مع الله لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153].
          وإنَّما أخفاها الله تعالى ولم يعينها ليحيي من يريدها ليالي كثيرة، وذلك كما أخفى رضاه في الطَّاعات حتَّى يرغبوا في الكلِّ. وأخفى غضبه عن المعاصي ليحترزوا عن الكلِّ. وأخفى وليَّه فيما بين النَّاس حتَّى يعظموا الكل. وأخفى المستجاب من الدَّعوات ليدعوه بكلِّها. وأخفى الاسم الأعظم ليعظِّموا كل أسمائه تعالى. وأخفى الصَّلاة الوسطى ليحافظوا على الصَّلوات كلِّها. وأخفى وقت الموت ليكون المكلَّف على احتياط وتهيُّؤ في جميع الأوقات، والله أعلم.
          ({تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ}) أي: إلى الأرض وهو الأظهر؛ لأنَّ الأحاديث دلَّت على أنَّ الملائكة ينزلون في سائر الأيَّام إلى مجالس الذِّكر والقرآن، فلأن يحصل ذلك في تلك اللَّيلة أولى لعلوِّ شأنها، ولأنَّ مطلق النُّزول لا يتبادر منه إلَّا النزول إلى الأرض. وقيل: إنَّ الملائكة ينزلون بأسرهم إلى السَّماء الدُّنيا في ليلة القدر.
          فإن قيل: إنَّ الملائكة لهم كثرة عظيمة لا تحتمل الأرض كلهم، وكذا السَّماء فإنَّها مملوءة بحيث لا يوجد موضع قدم / إلَّا وفيه ملك، فكيف يجمع الجميع سماء واحدة فضلاً عن الأرض، قال صلعم : ((أطَّت السَّماء وحقَّ لها أن تئطَّ، ليس فيها موضع قدم إلَّا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم))؟
          فالجواب: أنَّه إذا وقع التَّعارض بينه وبين خبر الواحد يقضي بما يدلُّ عليه الكتاب، على أنَّه لا تعارض هنا؛ لما روي أنَّهم ينزلون فوجاً فوجاً، فمن نازل وصاعد كأهل الحجِّ، فإنَّهم على كثرتهم يدخلون الكعبة ومواضع النُّسك بأسرهم، لكن النَّاس بين داخل وخارج، ولهذا السَّبب مدَّه الله تعالى إلى غاية طلوع الفجر. وفي لفظ ((تنزل)) الذي يفيد التَّدريج والمدَّة بعد المدَّة إشارة إليه. ومن العلماء من خصَّ الملائكة ببعض فرق الملائكة، وهم سكَّان سدرة المنتهى.
          وعن كعب الأحبار: أنَّ سدرة المنتهى فيها ملائكة لا يعلم عددهم إلَّا الله تعالى يعبدون الله تعالى، ومقام جبرائيل ◙ في وسطها، ليس فيها ملك إلَّا وقد أعطي الرَّأفة والرَّحمة للمؤمنين ينزلون مع جبرائيل ◙ ليلة القدر، فلا تبقى بقعة من الأرض إلَّا وعليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات، وجبريل ◙ لا يدعُ واحداً من النَّاس إلَّا صافحهم، فمن اقشعرَّ جلده، ورقَّ قلبه، ودمعتْ عيناه فإن ذلك من مصافحة جبرائيل ◙. ومن قال في تلك اللَّيلة ثلاث مرات: لا إله إلَّا الله، غفر له بواحدة، وأنجاه من النَّار بواحدة، وأدخله الجنَّة بواحدة.
          وفي الحديث أنَّه صلعم قال: ((إذا كان ليلة القدر ينزل الملائكة الذين هم سكَّان سدرة المنتهى ومنهم جبرائيل، ومعه ألوية ينصب لواء منها على قبري، ولواء على بيت المقدس، ولواء في المسجد الحرام، ولواء على طور سيناء، ولا يَدَعُ مؤمناً ولا مؤمنة إلَّا سلَّم عليه إلَّا مدمن الخمر، وآكل لحم الخنزير أو آكل الربا، ويروى: وعاقَّ الوالدين، وأوَّل من يصعد إلى السَّماء جبرائيل ◙ حتَّى يصير أمام الشَّمس فيبسط جناحين أخضرين لا ينشرهما إلَّا تلك السَّاعة من يوم تلك اللَّيلة، ثمَّ يدعو فيصعدُ الكلُّ ويجتمع نور الملائكة ونور جناح جبرائيل ◙ / بين الشَّمس وسماء الدُّنيا يومهم ذلك مشتغلين بالدُّعاء والرَّحمة والاستغفار للمؤمنين، ولمن صام رمضان احتساباً، فإذا أمسوا دخلوا سماء الدُّنيا فيجلسون حلقاً حلقاً، فيجتمع إليهم ملائكة السَّماء فيسألونهم عن رجل وعن امرأة حتَّى يقولون: ما فعل فلان، فكيف وجدتموه؟ فيقولون: وجدناه في عام أوَّل متعبداً، وفي هذا العام مبتدعاً، وفلان كان في عام أوَّل مبتدعاً وفي هذا العام متعبِّداً، فيكون معرضين عن الدُّعاء للأوَّل ويشتغلون بالدُّعاء للثَّاني ويقولون: وجدنا فلاناً تالياً وفلاناً راكعاً وفلاناً ساجداً فهم كذلك في ليلتهم يصعدون إلى السَّماء الثَّانية، وهكذا يفعلون في كلِّ سماء حتَّى ينتهوا إلى السِّدرة فتقول: لهم السِّدرة: يا سكَّاني! حدِّثوني عن النَّاس، فإنَّ لي عليكم حقًّا، وإنِّي أحبُّ من أحبَّ الله. فذكر كعب أنَّهم يعدُّون لها الرَّجل والمرأة بأسمائهم وأسماء آبائهم، ثمَّ يصل ذلك الخبر إلى الجنَّة، فتقول الجنَّة: اللَّهم عجِّلهم إليَّ، والملائكة وأهل السِّدرة يقولون: آمين آمين)).
          ({وَالرُّوحُ فِيهَا}) أي: في ليلة القدر، ويجوز أن يكون قوله: {والرُّوحُ} مبتدأ، وقوله: {فِيهَا} خبره، والضَّمير للملائكة. وذكروا في الرُّوح أقوالاً:
          أحدها: أنَّه ملك عظيم لو التقم السَّموات والأرض كانت له لقمة واحدة، وفي «التَّيسير»: هو ملك من تحت العرش رجلاه في نجوم الأرض السَّابعة، ورأسه تحت عرش الجبَّار، وله ألف رأس؛ كل رأس أعظم من الدُّنيا، وفي كلِّ رأس ألف وجه، وفي كلِّ وجه ألف فمٍ، وفي كلِّ فمٍ ألف لسان، يسمِّي الله تعالى بكل لسان ألف نوع من التَّسبيح والتَّحميد والتَّمجيد، لكل لسان لغة لا تشبه الأخرى، فإذا فتح أفواهه بالتَّسبيح خرَّت ملائكة سبع سموات تسجد مخافة أن يحرقهم نور أفواهه، وإنَّما يسبِّح الله غدوة وعشية فينزل تلك اللَّيلة فيستغفر للصَّائمين والصَّائمات من أمة محمَّد صلعم بتلك الأفواه كلِّها إلى طلوع الفجر.
          وقيل: إنَّه طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلَّا ليلة القدر، كالزهَّاد الذين لا نراهم إلَّا يوم العيد.
          وقيل: إنَّه خلق من خلق الله يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس، ولعلَّهم خدم أهل الجنَّة.
          وقيل: يحتمل أنَّه عيسى ◙؛ لأنَّه روح الله فينزل موافقة للملائكة ليطالع أمَّة / محمَّد صلعم . وقيل: إنَّه القرآن؛ لقوله تعالى: {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] وقيل: إنَّه الرَّحمة لما قرئ (▬لا تيأسوا من رُوح الله↨) بالضم، كأنَّه تعالى يقول: الملائكة ينزلون ورحمتي تنزل في إثرهم، فيجدون سعادة الدُّنيا وسعادة الآخرة.
          والأصح أنَّ المراد بالرُّوح هنا هو جبرائيل ◙، وتخصيصه بالذِّكر لزيادة شرفه كأنَّه تعالى يقول: الملائكة في كفَّة، والرُّوح في كفَّة، والله أعلم.
          ثمَّ إنَّ من قال: إنَّهم ينزلون إلى الأرض اختلفوا في سبب نزولهم على وجوه، فقيل: إنَّه تعالى وعد في الآخرة بأنَّ الملائكة يدخلون عليهم من كلِّ باب سلام عليكم، فمن اشتغلَ في الدُّنيا بعبادة ربِّه تنزل الملائكة عليه للزِّيادة والتَّسليم، فإنَّ الملائكة تنظرُ إلى الأرواح، كما ينظر البشر إلى الأشباح، فكما أنَّ البشر إذا رأوا صورة حسنةً قبلوها، ومالوا إليها، فكذا الملائكة إذا رأوا في روحك صورة حسنة، وهي معرفة الله وطاعته أحبُّوك ورغبوا في زيارتك، وتمنَّوا لقاءك، لكن كانوا ينتظرون الإذن، كما قال الله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64] وقال: هناك.
          ({بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر:4]) فإنَّه يدلُّ على أنَّهم كانوا يرغبون فينا ويشتاقون ويستأذنون في النُّزول إلينا فيؤذن لهم. وقد روي عن النَّبي صلعم أنَّهم ينزلون ليسلِّموا علينا، وليشفعوا لنا، فمن أصابته التَّسليمة غفر له ذنبه. فإن قيل: كيف يرغبون فينا مع علمهم بكثرة ذنوبنا؟
          فالجواب: أنَّهم لا يقفون على تفصيل المعاصي، روي أنَّهم يطالعون اللَّوح فيرون فيه طاعة المكلَّف مفصَّلة، فإذا وصلوا إلى معاصيه أرخى السِّتر فلا يرونه، فحينئذٍ يقولون: سبحان من أظهر الجميل، وستر القبيح، أو أنَّهم يرون في الأرض من أنواع الطَّاعات أشياء ليست في عالم السَّموات، منها: أنَّ الأغنياء يجيؤون بالطَّعام فيجعلونه ضيافة للفقراء فيأكلون طعام الأغنياء، ويعبدون الله، وهذا نوع من الطَّاعات لا يوجد في السَّماوات. ومنها: أنَّهم يسمعون أنين العصاة، وهو لا يوجد في السَّموات. وفي الحديث القدسي: ((لأنين المذنبين أحبُّ إليَّ من زجل / المسبِّحين، فيقولون: تعالوا نذهب إلى الأرض فنسمع صوتاً هو أحبُّ إلى ربِّنا من صوت تسبيحنا))، وكيف لا يكون أحبُّ وزجل المسبِّحين إظهارٌ لكمال المطيعين، وأنين العصاة اعترافٌ لقدرة ربِّ العالمين.
          وقيل: إنَّ الله تعالى جعل فضيلة هذه الأمَّة في الاشتغال بطاعته في الأرض في تلك اللَّيلة فهم ينزلون إلى الأرض في تلك اللَّيلة لتصير طاعاتهم أكثر ثواباً، كما أنَّ الرَّجل يذهب إلى مكَّة لتصير طاعاته أكثر ثواباً، فيكون المرادُ من الإخبار بنزولهم فيها ترغيبَ الإنسان في الطَّاعة، والله أعلم.
          ({مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}) أي: من أجل كلِّ أمر قدِّر في تلك السَّنة من خير أو شر إلى قابل، أو ممَّا فيه صلاح المكلَّف في دينه ودنياه. فإن قيل: كيف يمكن أن يفسِّر {كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4] في هذه الآية بما قدِّر في تلك السَّنة فإنَّه قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] وضمير {فِيهَا} يرجع إلى اللَّيلة المباركة، والمراد بها ليلة النصف من شعبان، فيلزم أن يكون التَّقدير في ليلة النِّصف وفي ليلة القدر؟ فالجواب عنه من وجوه، فقيل: إنَّ هاهنا ثلاثة أشياء:
          الأوَّل: تعيين مقادير الأمور وأوقاتها، وذلك في الأزل قبل أن يخلق السَّموات والأرض.
          والثَّاني: إظهار تلك المقادير للملائكة بأن تكتبها من اللَّوح المحفوظ، وذلك في ليلة النِّصف.
          والثَّالث: تسليم نسخ تلك المقادير إلى أربابها من المدبِّرات كما سبق. وقيل: يقدِّر في ليلة النِّصف الآجال والآفات، وفي ليلة القدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسَّلامة، وما فيه اعتزاز الدِّين والنَّفع العظيم للمسلمين. وقرئ في الشَّواذ: (▬من كل امرئ↨).
          ({سَلاَمٌ هِيَ}) أي: ما هي إلَّا سلامة، فتقديم الخبر للحصر؛ كما في: تميمي أنا؛ أي: لا يحدث فيها داء ولا شيء من الشُّرور والآفات؛ كالرِّياح والصَّواعق ونحو ذلك ممَّا يخاف منه، بل كان ما ينزل في هذه اللَّيلة سلامة، ولا يستطيع أحدٌ أن يصيب فيها أحداً بضرب من ضروب الشرِّ والفساد، ولا ينفذ فيه سحر ساحر، واللَّيلة ليست نفس السَّلامة، بل ظرف لها، ومع ذلك وصفت بالسَّلامة للمبالغة في اشتمالها عليها؛ كما يقال: إنَّما فلان حج أو غزو، والمراد أنَّه أبداً مشغول بهما.
          وقال / الضَّحَّاك: لا يقدر الله في تلك اللَّيلة إلَّا السَّلامة، فأمَّا اللَّيالي الأخر فيقضي فيهنَّ البلاء والسَّلامة. وقيل: المراد هو تسليم الملائكة على أهل المساجد يمرُّون على كلِّ مؤمن، ويقولون: السَّلام عليك يا مؤمن، والخليل صلوات الله وسلامه على نبيِّنا وعليه لما سلم عليه سبعة من الملائكة صار ناره برداً وسلاماً عليه، فلا يبعد أن تكون نار الله الموقدة ببركة تسليم الملائكة على المؤمنين برداً وسلاماً عليهم حتَّى تقول جهنَّم: جز يا مؤمن فإنَّ نورك أطفأ لهبي، لكن ضيافة الخليل لهم كانت عجلاً مشوياً، وهم يريدون منَّا قلباً مشوياً، والله هو الموفِّق.
          ({حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}) [القدر:1-5] بفتح اللام على قراءة الجمهور، وقرأ الكسائي _بكسر اللام_؛ أي: إلى طلوع الفجر، أو إلى زمان طلوعه، و{حَتَّى} يتعلَّق بقوله: {سَلَامٌ هِيَ} [القدر:5] بحسب المعنى على المعنيين لا بقوله: {سَلَامٌ}؛ لأنَّه يستلزم الفصل بين الصلة والموصول بالمبتدأ الذي هو {هِيَ} فافهم.
          وقيل: جاز أن يتعلَّق بـ{تَنَزَّلُ} وفيه تعسُّف؛ لأنَّ جملة {سَلَامٌ هِيَ} فصلت بين العامل والمعمول حينئذٍ، إلَّا أن يقال: إنَّها في موضع النَّصب على أنَّها حال من الضَّمير المجرور في فيها؛ أي: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] حال كونها ذات سلامة، وهي تعسُّف أيضاً.
          وقيل: تمَّ الكلام عند قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِم} ثمَّ ابتدأ فقال: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ هِيَ} أي: هي سلامة من كلِّ أمر مخوف من بلاء وآفة، وكيد شيطان، ثمَّ قال: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي: ذلك إلى طلوع الفجر، والله أعلم.
          (قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) هو: سفيانُ بن عيينة (مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ {مَا}) وفي رواية أبي ذرٍّ وابن عساكر: <وما> ({أَدْرَاكَ} فَقَدْ أَعْلَمَهُ) الله به (وَمَا قَالَ) وفي رواية ابن عساكر: <وما كان> ({وَمَا يُدْرِيكَ} [الأحزاب:63] فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلِمْهُ) الله به، وفي رواية أبي ذرٍّ وابن عساكر: <لم يعلم>.
          وهذا التَّعليق وصله محمَّد بن يحيى بن أبي عمر في كتاب «الإيمان» له من رواية أبي حاتم الرَّازي عنه قال:حدَّثناسفيان بن عيينة فذكره بلفظ: كلَّ شيء في القرآن {وَمَا أَدْرَاكَ} [الحاقة:3] فقد أخبره به، وكلَّ شيء فيه {وَمَا يُدْرِيكَ} [الشورى:17] فلم يخبره به، ومعناه: أنَّه كل ما جاء في القرآن بلفظ الماضي فقد حصل لرسول الله صلعم العلم به، وما جاء بلفظ المضارع نحو: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى:17] / فلم يحصل له، والمقصود أنَّه صلعم كان يعرف ليلة القدر، وقد اعترض عليه بقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] فإنَّها نزلت في ابن أمِّ مكتوم، وقد علم صلعم بحاله، وأنَّه ممَّن تزكَّى ونفعه الذِّكرى.
          وقال الحافظ العسقلاني: وعزاه مغلطاي فيما قرأت بخطِّه لـ«تفسير ابن عيينة» رواية سعيد بن عبد الرَّحمن، عنه. وقد راجعت منه نسخة بخطِّ الحافظ الضِّياء فلم أجده فيه.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّ عدم وجدانه ذلك في نسخة الحافظ الضِّياء بخطِّه لا يستلزم عدمه بخطِّ غيره، هذا؛ فليتأمَّل.


[1] كذا في الأصل، ولم أجد جواب (أما) ولعل الصواب: وسبب نزولها ما ذكره الواصدي عن مجاهد.
[2] في تفسير الرازي: (والأخيرة ليلة الفراق كمن مات له ولد فهي ليلة صَبْرٍ).