نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: كان لا يصلي من الضحى إلا في يومين يوم يقدم بمكة

          1191- 1192- (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) وفي رواية: <هو: الدَّورقي> نسب إلى دورق، وليس هو ولا أهله من بلد دورق، وإنَّما كانوا يلبسون قلانس تسمَّى: الدَّورقية، فنسبوا إليها (قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ) بضم العين المهملة وفتح اللام وتشديد التحتية، هو: إسماعيل / بن إبراهيم بن سهم المعروف بابن عُلية وهي أمه، وقد تقدَّما في باب: «حبِّ الرَّسول من الإيمان» [خ¦15].
          (قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ) هو: ابنُ كيسان السَّختياني (عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ) ☻ (كَانَ لاَ يُصَلِّي مِنَ الضُّحَى) أي: في وقت الضُّحى أو من جهة الضُّحى (إِلاَّ فِي يَوْمَيْنِ: يَوْم) يجوز فيه الرَّفع على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ، والجر على أنَّه بدل من يومين.
          (يَقْدُمُ) بضم الدال (بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُ) أي: فإنَّ ابن عمر ☻ (كَانَ يَقْدَمُهَا) أي: مكة (ضُحًى) أي: في ضحوة النَّهار (فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ) أي: مقام إبراهيم ╕.
          (وَيَوْم) بالوجهين المذكورين (يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَرِهَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ، قَالَ) أي: نافع (وَكَانَ) أي: ابن عمر ☻ .
          (يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم كَانَ يَزُورُهُ) أي: مسجد قباء يوم السَّبت حال كونه (رَاكِباً وَمَاشِياً) أي: بحسب ما تيسر، والواو بمعنى «أو».
          (وَكَانَ) أي: ابن عمر ☻ (يَقُولُ: إِنَّمَا أَصْنَعُ كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِي يَصْنَعُونَ، وَلاَ أَمْنَعُ أَحَداً أَنْ صَلَّى) بفتح الهمزة؛ لأنَّها مصدرية، والمعنى: ولا أمنع أحداً الصَّلاة، وفي رواية: <أن يصلِّي> وفي رواية: <إن صلَّى> بكسر الهمزة.
          (فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، غَيْرَ أَنْ لاَ تَتَحَرَّوْا) أي: لا يقصدوا (طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبَهَا) فيصلُّوا في وقتيهما بل في غير هذين الوقتين في أيِّ ساعةٍ شاؤوا.
          وفي الحديث: دلالةٌ على فضل قباء وفضل المسجد الذي بها، وفضل الصَّلاة فيه لكن لم يثبت في ذلك تضعيفٌ بخلاف المساجد الثلاثة، وفيه: أنَّه يستحبُّ أن يكون زيارة مسجد قباء يوم السَّبت اقتداء بالنَّبي صلعم .
          والحكمة في تخصيص زيارته بيوم السَّبت _والله أعلم_ هو أنَّه لمَّا كان أوَّل مسجدٍ أسَّسه في دار الهجرة، ثمَّ أسس [مسجد] المدينة بعده وصار مسجد المدينة هو الذي يجمع فيه يوم الجمعة، وينزل أهل قباء وأهل العوالي إلى المدينة لصلاة الجمعة، ويتعطَّل مسجد قباء عن الصَّلاة فيه وقت الجمعة ناسب أن يعقب يوم الجمعة بإتيان مسجد قباء يوم السَّبت، والصَّلاة فيه / لما فاته من الصَّلاة فيه يوم الجمعة، وكان صلعم حَسَنَ العهد، وقال: ((حُسْنُ العهد من الإيمان)).
          ويحتمل أنَّه لمَّا كان أهل مسجد قباء ينزلون إلى المدينة يوم الجمعة، ويحضرون الصَّلاة معه صلعم أراد مكافأتهم بأن يذهبَ إلى مسجدهم في اليوم الذي يليه، وكان يحبُّ مكافأة أصحابه حتَّى كان يخدمهم بنفسه، ويقول: إنَّهم كانوا لأصحابي مكرمين فأنا أحبُّ أن أكافئهم(1) .
          ويحتمل أنَّه كان يوم السبت فارغاً لنفسه، فكان يشتغل في بقية الجمعة بمصالح الخلق من أوَّل يوم الأحد على القول بأنَّه أول أيام الأسبوع، ويشتغل يوم الجمعة بالتَّجميع بالناس، ويتفرَّغ يوم السَّبت لزيارة أصحابه والمشاهد الشريفة.
          ويحتمل أنَّه لما كان ينزل إلى الجمعة بعض أهل قباء، ويتخلَّف بعضهم ممَّن لا تجب عليه أو لعذرٍ، فيفوت من لم يحضر معهم يوم الجمعة رؤيته ومشاهدته تدارك ذلك بإتيانه مسجد قباء ليجتمعوا إليه هنالك، فيحصل لهم نصيبهم منه صلعم يوم السبت.
          وفيه دليلٌ على جواز تخصيص الأيَّام بنوعٍ من القُرب، وهو كذلك إلَّا في الأوقات المنهيِّ عنها كالنَّهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيامٍ من بين الليالي، وتخصيص يوم الجمعة بصيامٍ من بين الأيام.
          وقد روى عمر بن شَبَّة في تأليفه «أخبار المدينة» من رواية ابن المنكدر عن جابر ☺ كان النَّبي ╧يأتي قباء صبيح سبع عشرة من رمضان.
          وروى من رواية الدَّراوردي عن شريك بن عبد الله كان رسول الله صلعم يأتي قباء يوم الاثنين.
          وقال صاحب «المفهم»: وأصل مذهب مالكٍ كراهة تخصيص شيءٍ من الأوقات بشيءٍ من القرب إلَّا ما ثبت به توقيفٌ، وفيه حجَّةٌ على من كره تخصيص زيارة قباء يوم السبت، وقد حكاه القاضي عياض: عن محمَّد بن مسلمة من المالكيَّة مخافة أن يظنَّ أنَّ ذلك سنة في ذلك اليوم.
          قال القاضي عياض: ولعلَّه لم يبلغه هذا الحديث، وقد احتجَّ ابن حبيبٍ من المالكيَّة بزيارته صلعم مسجد قباء راكباً وماشياً على أنَّ المدني إذا نذر الصَّلاة في مسجد قباء لزمه ذلك، وحكاه عن ابن عباس ☻ .
          فإن قيل: كيف يجمع بين قوله صلعم : ((لا تشدُّ الرِّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد)) وبين كونه ((كان يأتي مسجد قباء)). /
          فالجواب: أنَّ قباء ليس ممَّا يشدُّ إليه الرِّحال، فلا يتناوله الحديث المذكور.
          ورجال إسناد حديث الباب ما بين بصريٍّ ومدنيٍّ وكوفيٍّ، وقد أخرج متنه المؤلف في «الصَّلاة» أيضاً [خ¦585]، وأخرجه مسلمٌ في «الحج»، وأبو داود أيضاً.
          خاتمة: روى التِّرمذي وابن ماجه من حديث أُسَيد بن ظهير الأنصاريِّ، وكان من أصحاب النَّبي صلعم أنَّه قال: ((الصَّلاة في مسجد قباء كعمرة)).
          وروى النَّسائي وابن ماجه من حديث أُمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن النَّبي صلعم قال: ((من خرجَ حتَّى يأتي مسجدَ قباء، فيصلِّي فيه كان له عدل عمرة)).
          وروى الطَّبراني من رواية يزيد بن عبد الملك النَّوفلي عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ رسول الله صلعم قال: ((من توضأ فأسبغ الوضوء، ثمَّ عمد إلى مسجد قباء لا يريد غيره، ولا يحمله على الغدو إلَّا الصَّلاة في مسجد قباء، فيصلِّي فيه أربع ركعاتٍ يقرأ في كلِّ ركعةٍ بأمِّ القرآن كان له كأجرِ المعتمرِ إلى بيت الله)) ويزيد بن عبد الملك ضعيف.


[1] هذا ورد في قوم جاؤوا إليه من الحبشة