نفحة المسك الداري لقارئ صحيح البخاري

عدالة الصحابة

فَصَحْبُهُ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لَنَا                     عُدُولٌ، وَمَجْهُولٌ كَمَنْ هُوَ يُعْلَمُ
وَمِنْهُمُ مُكْثِرُ الحَدِيثِ وَمِنْهُمُ                     مُقِلٌّ، وَكُلٌّ سَالِمٌ وَمُسَلَّمُ
          انظر: «الألفيَّة» وشروحها في (باب: معرفة الصحابة) وفيها: أنَّ أبا هريرة أكثرهم حديثًا، وترجمه مسلمٌ في (كتاب المناقب) قال في «الطبقات»: أبو هريرة لما كثر عليه الحفظ، جعل الله له لسان صدقٍ في الآخرين وذكرًا، إذا جُمِعَ الناس يوم الجمعة لربِّ العالمين، فيقوم المؤذِّن بين يدي الخطيب ويقول: عن أبي هريرة ☺ قال: قال رسول الله صلعم: «إذا قلت...» ولست أعني بلسان الصِّدق الذي حصل لأبي هريرة مجرَّد ذكره على رؤوس الأشهاد بعد تقادم السنين، بل الترضِّي عنه وذكر اسمه بهذا الحديث، فيتذكَّر سامعه فيترضَّى أيضًا عنه، وهذا خيرٌ عظيمٌ، فكم ترحَّم عليه صالحٌ بسبب ذكر هذا الحديث؟! وكذلك الإنصات عند سماع هذا الحديث امتثالًا، فكم عاميٌّ لم يبلغه هذا الحديث ولا هذا الحكم، فلما سمع المؤذِّن يقول ذلك؛ امتثل، وبهذا يحصل أجرٌ عظيمٌ لمبلِّغ الخبر.
          أقول: مثل هذه الفضيلة حاصلةٌ لنجم الأئمَّة مالك، ولا أدري ما أغفل السبكيُّ عن ذلك، ولا وجه للتَّخصيص بل الواجب التَّنصيص على كلٍّ منهما ☻.
          وحكى ابن النجَّار في «ذيله» عن الشيخ أبي إسحاق أنَّه سمع القاضي أبا الطيِّب الطبريَّ يقول: كنَّا في حلقة النضر بجامع المنصور، فجاء شابٌ خراسانيٌّ حنفيٌّ فطالب بالدليل في مسألة المصرَّاة، فأوردوا حديث أبي هريرة، فقال الشابُّ: إنَّه غير مقبول الرواية، / قال القاضي: فما استتمَّ كلامه هذا حتَّى سقطت عليه حيَّةٌ عظيمةٌ من سقف الجامع فهرب منها، فتبعته دون غيره، فقيل له: تُبْ، فقال: تبتُ، فغابت الحيَّةُ ولم يُرَ لها بعد أثرٌ.
          وقد كتبتُ بطرَّة هذا الكلام ارتجالًا:
بل الذي نقول صدقًا وهى العقول                     تشهد والجليلُ في الوحي والرسول
كلُّهم عدولٌ ما عنهم عدول                     وبهم نصول إذا حقَّت الأصول
بهم والفصول وبهم الوصول                     وباغض تجول في قلبه نصول
وَمَنْ بَعْدُ لِلرِّجَالِ فِيهِ مَبَاحِثٌ                     تَمِيزُ الْخَبِيثَ مِنْ ذَوِي الطِّيبِ مِنْهُمُ
          أي: ومن بعد الصحب من التَّابعين، وتابع التَّابعين إلى هلمَّ جرًّا، وقد حذَّر تعالى من مخالطة المنافقين، وسماع حديثهم، كما في آل عمران وفيها: { مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ }[آل عمران:179].
          وفي: { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }[المنافقون:1]؛ أي: فلا يلزم مِن صدقهم في قولهم: إنَّك لرسول الله صدقهم في غيره، فإنَّ الكذوب قد يصدق.
          قال في «الألفيَّة» في الجرح والتَّعديل:
ومع ذا فالنصحُ حقٌّ ولقد                     أحسنَ يحيى في جوابه وسدّ
لأنْ يكونوا خصمائي أحبُّ                     من كون خصمي المصطفى إذ لم أذبّ
وَمَعْرِفَةُ التَّارِيخِ أَلْزَمُ لَازِمٍ                     لِمَنْ طَلَبَ الحَدِيثَ وَهْوَ المُقَدَّمُ
          في سورة آل عمران: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ }[آل عمران:65].
          قال الوليُّ العراقيُّ في شرح «سنن أبي داود»: قد وقع الاستدلال بالتاريخ في الكتاب العزيز، قال الله تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ...} الآية[آل عمران:65]، فاستُدِلَ على بطلان دعوى اليهود في إبراهيم أنَّه يهوديٌّ، ودعوى النَّصارى أنَّه نصرانيٌّ بقوله: { وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ }[آل عمران:65] وهذا من لطائف الاستدلالات ونفائسها، ونحو هذا كما في «نيل الابتهاج» ما وقع لأبي بكرٍ الطيِّب في واقعة رئيس الرؤساء مع اليهوديِّ الذي أظهر كتابًا أنَّ رسول الله صلعم أمر بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادة الصَّحابة؛ منهم: عليُّ بن أبي طالب ☺، فحمل الكتاب إلى رئيس الرؤساء، ووقع النَّاس في حيرة عظيمةٍ من شأنه، فعُرِضَ على الحافظ أبي بكر بن الخطيب، فتأملَّه وقال: هذا مزوَّرٌ، فقيل له: من أين ذلك؟ فقال: فيه / شهادة معاوية، وهو أسلم عام الفتح، وفتح خيبر سنة سبع، وشهادة سعد بن معاذ، وسعد مات يوم بني قريظة قبل فتح خيبر، ففرَّج بذلك عن النَّاس غمًّا، وفي قصيدتنا «الميميَّة» في غزوة خيبر:
ومن يحارب رسول الله ليس له                     نصرٌ وإنْ يكُ في الآلاف من بهمِ
وما له حرمةٌ ترعى بأزمنة                     وإن يكن مدليًا بأعظم الحرمِ
ويلٌ لأسلافهم من الذين كتبوا                     زورًا وأخلافُهم مشوا على قدمِ
فلم يضع خاتم الرسل الكرام أجزى                     عنهم وما وضعهم يومًا بمنختمِ
          انظر شرحها.
وَفِي {إنَّ أَوْلَى النَّاسِ} أَنَّ وِلَايَةً                     لَهُ بِاتِّبَاعٍ فَهْوَ أَصْلٌ مُيَمَّمُ
وَمُسْتَمِعُوهُ لَازِمٌ لِقُلُوبِهِمْ                     حُضُورٌ لِيَحْفَظُوا الْحَدِيثَ وَيَفْهَمُوا
وَلَا قَدْحَ إِلَّا بِالَّذِي هُوَ قَادِحٌ                     وَكَمْ طَاعِنٍ طَعْنٌ لَهُ لَيْسَ يَكْلِمُ
كَطَعْنِ ذَوِي كُفْرٍ بِمَا لَيْسَ ثَابِتًا                     وَإِلَّا بِمَا لَا وَصْمَ فِيهِ وَقَدْ عَمُوا
          ألا ترى إلى (آل عمران) و(الإسراء) و(الأنبياء) و(سبأ) و(ص) و(الذاريات) و{هَلْ أَتَى} و(عبس) و(الضحى) و(القدر) و(الإخلاص) معطية أنَّ إعراض الكفَّار عن النبيٍّ صلعم لما استبعدوه من وحدة الإله، وحقِّية الإعادة، ومِن المغلوبيَّة مع النُّبوَّة، واستبعدوه من الإسراء، وكون شجرة الزقُّوم في النَّار، ومِن أنَّه يأمر اليوم بأمرٍ وغدًا بآخر { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً }[النحل:101] وقد برَّأه الله من ذلك كلِّه، { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ }[آل عمران:165]، { انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ } [الإسراء:48]، { وَأَسَرُّوا النَّجْوَى }[طه:62]، { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ } [سبأ:46]، { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } [الفرقان:57]، { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ } [الطور:13]، { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم }[الذاريات:52].
          وقوله: (وَقَدْ عَمُوا) لقوله: { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا } [الإسراء:45]، { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا } [الأنبياء:36]، { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ } [سبأ:7] وقد قدح كفَّار قريش في نبوَّته، وقلَّةِ ماله _واليهود والمنافقون بوقعة أُحدٍ_ وبكثرة الأزواج، إلى غير ذلك ممَّا لم يكن له رواج، وكأنَّه لذلك قرن تعالى داود وسليمان بأيوب في (الأنبياء) و(ص).
          وبيَّن أنَّ العبرة والكمال إنَّما هي بالعلم والعمل، لا بالمُلك والمال، وإنْ كانا غير / قادحين، وخرج اللَّيث بن سعد يومًا، فقوَّمُوا ثيابه، ودابَّته، وخاتمه، وما كان عليه بثمانية عشر ألف درهمٍ إلى عشرين ألفًا، وخرج شعبة يومًا فقوَّمُوا حماره، وسُرجه، ولجامه، بثمانية عشر درهمًا إلى عشرين درهمًا، وقد قال مالك: وما أظنُّ أنَّ الذي أنت عليه خيرٌ ممَّا نحن عليه.
وإِنْ شِئْتَ فَتْحَ نَوْرٍ مَا قُلْتُهُ فَفِي                     مُقَدِّمَةٍ لِـ«الْفَتْحِ» نَوْرُهُ يَبْسِمُ
          وذلك أنَّ القدح كما رأيت تارةً من جهة الحديث نفسه، وتارةً من جهة الآتي به، وقد عُقِدَ في مقدِّمة «الفتح» الفصل الثامن في سياق أحاديث طُعِنَ فيها، والفصل التَّاسع في سياق أسماء من طعن فيه من رجال هذا الكتاب مرتَّبًا لهم على حروف المعجم، والجواب عن الاعتراضات موضعًا موضعًا إلى آخر كلامه.
          وفي «ألفيَّة العراقيِّ»:
وربَّما ردَّ كلام الجارح                     كالنسائيِّ في أحمد بن صالح
          انظر «المقدِّمة» وإلى الأوَّل أشرنا بقولنا:
فَقَدْ أسْقَمَتْ قَوْمٌ أَحَادِيثَ صُحِّحَتْ                      وَكَمْ عَائِبٍ قَوْلًا مِنَ الفَهْمِ يَسْقَمُ!
          وذلك كحديث ابن أبي أويس عن أخيه عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبريِّ عن أبي هريرة قال: «يلقى إبراهيم ◙ أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قَتَرة» الحديث أعلَّه الإسماعيليِّ فقال: هذا الخبر في صحَّته نظرٌ من جهة أنَّ إبراهيم عالم أنَّ الله لا يخلف الميعاد، فكيف يجعل ما فُعِلَ بأبيه خزيٌ له مع خبره بأنَّ الله لا يخزيه يوم يُبعثون، وعلمه بأنَّه لا خُلفَ لوعده؟ قال: وسيأتي جواب ذلك إن شاء الله في موضعه.
          أقول: في قوله تعالى: { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ } [الشعراء:88] شهادةٌ بأنَّه لا تنفع شهادة الأبناء للآباء الذين ماتوا على كفرهم، فكيف يقال في شفاعة إبراهيم في أبيه؟! وقد تبيَّن له في دار الدنيا أنَّه عدوٌّ له وتبرَّأ منه، وقد انفرد خالد بن مخلد القطوانيُّ بحديث أبي هريرة: «مَن عادى ليِّ وليًّا» فطعن فيه لذلك.
          وأُنكِرَ على أيمن بن نابل زيادة بسم الله في التشهُّد، ووهَّى ابن حزم شريك بن عبد الله بن أبي نمر لأجل حديثه في الإسراء: «ثُمَّ علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلَّا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبَّار ربُّ العزِّة فتدلى حتَّى كان منه قاب قوسين أو أدنى» وهذا / من غرائب الصحيح، وإلى الثَّاني أشرنا بقولنا.