نفحة المسك الداري لقارئ صحيح البخاري

أوجه تفضيل البخاري

وَهَا «فَتْحُ بَارٍ» فَاتِحٌ كُلَّ مُغْلَقٍ                     مُقدِّمِةٌ مِنْهُ لِذَاكَ تُقَدَّمُ
تَقُولُ البُخَارِي زَادَ شَرْطَ تَوَثُّقٍ                     فَمَا عُرْوَةٌ وُثْقَى لَهُ قَطُّ تُفْصَمُ
          هذا بيانٌ لتفصيل البخاريِّ من حيث التفضيل، وذلك أنَّ مدار الحديث الصحيح على الاتِّصال وإتقان الرجال وعدم العلل.
          أقول: ودليل ذلك من الكتاب: { فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ } [التكوير:15]، و{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ } [النجم:2]، { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى }[النجم:13].
          قال في «المقدِّمة»: وعند التأمُّل يظهر أنَّ كتاب البخاريِّ أشدُّ اتِّصالًا، وأتقن رجالًا.
          وبيان ذلك من جهة الاتِّصال: أنَّ مذهب البخاريِّ: أنَّ المعنعن لا يحمل على الاتِّصال حتَّى يثبت اجتماع المعنعن والمعنعن عنه، حتَّى إنَّه ربَّما / أخرج الحديث الَّذي لا تعلُّق له بالباب جملةً، إلَّا لتبيين سماع راوٍ من شيخه؛ لكونه قد أخرج له قبل ذلك شيئًا معنعنًا، وردَّ عليه مسلمٌ في «مقدِّمته» وأطال، لكنَّا وإن سلَّمنا ما ذكره؛ فلا يخفى أنَّ شرط البخاريِّ أوضح في الاتِّصال. ثمَّ أشار إلى بيان ذلك من جهة إتقان الرجال فقال:
وَمَنْ طَعَنُوا مِمَّنْ رَوَوْا عَنْهُ فِيهِمَا                     فَمَا فِي «البُخَارِي» غَيْرَ مَا قَلَّ مِنْهُمُ
          قال في «المقدِّمة»: وبيان ذلك من أوجهٍ:
          أحدها: أنَّ الذين انفرد البخاريُّ بالإخراج لهم دون مسلمٍ؛ أربع مئةٍ وبضعٌ وثلاثون رجلًا، المتكلِّم فيه بالضعف؛ منهم: ثمانون رجلًا، والذين انفرد مسلمٌ بالإخراج لهم دون البخاريِّ: ستُّ مئةٍ وعشرون رجلًا، المتكلِّم فيه بالضعف؛ منهم: مئةٌ وستُّون رجلًا، ولا شكَّ أنَّ التخريج عمَّن لم يتكلَّم فيه أصلًا أَولى من التخريج عمَّن تكلَّم فيه وإن لم يكن ذلك الكلام قادحًا.
          ثانيها: أنَّ الذين انفرد بهم البخاريُّ ممَّن تكلَّم فيه لم يكثر من تخريج أحاديثهم، وليس لواحدٍ منهم نسخةٌ كبيرةٌ أخرجها كلَّها أو أكثرها إلَّا ترجمة عكرمة عن ابن عبَّاس، بخلاف مسلمٍ فإنَّه أخرج أكثر تلك النسخ كأبي الزبير عن جابر، وسهيل عن أبيه، والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، وحمَّاد بن سلمة عن ثابت، وغير ذلك.
          وهذان الوجهان داخلان في قوله: (فَمَا...) إلى آخره.
وَغَالِبُهُمْ مَا كَانَ إِلَّا شُيُوخَهُ                     وَحَالُ الشُّيُوخِ عَنْهُ مَا كَانَ يُبْهَمُ
          قال: ثالثها: إنَّ الذين انفرد بهم البخاريُّ ممَّن تكلَّم فيه أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم، وجالسهم، وعرف أحوالهم، واطَّلع على أحاديثهم، وميَّز جيِّدها من موهومها، بخلاف مسلمٍ، فإنَّ أكثر من تفرَّد بتخريج حديثه _ممَّن تكلَّم فيه_ ممَّن تقدَّم عن عصره من التابعين ومن بعدهم، ولا شكَّ أنَّ المحدِّث أعرف بحديث شيوخه ممَّن تقدَّم عنهم.
وَمُسْلِمٌ أَدْنَى رُتْبَةً فِي رُوَاتِهِ                     وَأَعْلَاهُمَا نَقْدًا أَتَى بِهِ مُسْلِمُ
          قال في «المقدِّمة»: رابعها: إنَّ البخاريَّ يخرج أحاديث أهل الطبقة الثانية انتقاءً، ومسلم يخرجها أصولًا كما تقدَّم ذلك في تقرير / الحافظ أبي بكر الحازميِّ؛ يعني قوله: إنَّ أصحاب الزهريِّ _مثلًا_ على خمس طبقاتٍ، ولكلِّ طبقةٍ منها مزيَّةٌ على التي تليها، فمن كان في الطبقة الأولى؛ فهو الغاية في الصحَّة؛ وهو مقصد البخاريِّ، والطبقة الثانية شاركت الأولى في التثبُّت، إلَّا أنَّ الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهريِّ حتَّى كان منهم من يلازمه في السفر ويلازمه في الحضر، والطبقة الثانية لم تلازم الزهريَّ إلَّا مدَّةً يسيرةً، فلم تمارس حديثه، فكانوا في الإتقان دون الأولى، وهم شرط مسلمٍ، ثمَّ مثَّل الطبقة الأولى بيونس بن يزيد، وعقيل بن خالد الأيليِّ، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وشعيب بن أبي حمزة، والثانية: بالأوزاعيِّ، واللَّيث بن سعدٍ، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، وابن أبي ذئبٍ، قال: والطبقة الثالثة نحو: سفيان بن حسين، وإسحاق بن يحيى الكلبيُّ، والرابعة نحو: ربيع بن صالح، والمثنَّى بن الصباح، والخامسة نحو: عبد القدُّوس بن حبيب، والحكم بن عبد الله الأيليُّ، فأمَّا الطبقة الأولى فهم شرط البخاريِّ، وقد يخرج من حديث أهل الطبقة الثانية ما يعتمده من غير استيعابٍ، وأمَّا مسلمٌ فيخرج أحاديث الطبقتين على سبيل الاستيعاب، ويخرج أحاديث أهل الطبقة الثالثة على النحو الذي يصنعه البخاريُّ في الثانية، وأمَّا الرابعة والخامسة فلا يعرِّجان عليهما.
          قلت: وأكثر ما يخرج البخاريُّ حديث الطبقة الثانية تعليقًا، وربَّما أخرج اليسير من حديث الطبقة الثالثة تعليقًا أيضًا، وهذا المثال الذي ذكرناه هو في حقِّ المكثرين، فيقاس على هذا أصحاب نافعٍ، وأصحاب الأعمش، وأصحاب قتادة وغيرهم، فأمَّا غير المكثرين؛ فإنَّما اعتمد الشيخان في تخريج أحاديثهم على الثقة، والعدالة، وقلَّة الخطأ، لكن منهم من قوي الاعتماد عليه فأخرجا ما تفرَّد به؛ كيحيى بن سعيد الأنصاريِّ، ومنهم من لم يقوَ الاعتماد عليه فأخرجا له ما شاركه فيه غيره وهو الأكثر.
          قال في «المقدِّمة»: وأمَّا ما يتعلَّق بعدم العلَّة، وهو الوجه السادس، فإنَّ الأحاديث التي انتقدت عليهما بلغت مئتي حديثٍ / وعشرة أحاديث، اختصَّ البخاريُّ منها بأقلَّ من ثمانين، وباقي ذلك يختصُّ بمسلمٍ، ولا شكَّ أنَّ ما قلَّ الانتقاد فيه أرجح ممَّا كثر، والله أعلم.
وَإِنْ فَاقَ فِي حُسْنِ الصِّنَاعَةِ مُسْلِمٌ                     فَفِقْهُ تَرَاجِمِ البُخَارِي مُتَرْجِمُ
مُتَرْجِمٌ أَنَّهُ الرِّيَاضُ تَفَتَّقَتْ                     أَزَاهِرَ شَمَّهَا الَّذِي هُوَ أَخْشَمُ
          نقل في «المقدِّمة»: عن مسلمة بن القاسم القرطبيِّ _وهو من أقران الدارقطنيِّ_ لمَّا ذكر في «تاريخه» صحيح مسلمٍ فقال: لم يضع أحدٌ مثله، فهذا محمولٌ على حسن الوضع وجودة الترتيب، وقد رأيت كثيرًا من المغاربة _ممَّن صنَّف في الأحكام_ يحذف الأسانيد؛ كعبد الحقِّ في «أحكامه» و«جمعه»، يعتمدون على كتاب مسلمٍ في نقل المتون دون البخاريِّ؛ لوجودها عند مسلمٍ تامَّةً، وتقطيع البخاريِّ لها، فهذه جهةٌ أُخرى من التفضيل تقابل بالجهة العظمى الموجبة لتقديم البخاريِّ؛ وهي ما ضمَّته أبوابه من التراجم التي حيَّرت الأفكار، وأدهشت العقول والأبصار.
ويَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ لا َتُسْقِطُ الجَنَى                     وَفِي رَوْضَةِ الجَنَّاتِ كَانَتْ تُتَرْجَمُ؟!
          قال في «المقدِّمة»: وإنَّما بلغت هذه الرتبة، وفازت بهذه الحظوة؛ بسببٍ عظيمٍ أوجب عظمها، وهو ما رواه أبو أحمد بن عديٍّ عن عبد القدُّوس بن همَّام قال: سمعت عدَّة مشايخ يقولون: حوَّل البخاريُّ تراجم جامعه ؛ _يعني: بيَّضها_ بين قبر النبيِّ صلعم ومنبره، وكان يصلِّي لكلِّ ترجمةٍ ركعتين.
وَمَا زَالَتِ الْأَفْكَارُ تَفْتَحُ كَنْزَهَا                     وَيَا رُبَّ كَنْزٍ لَاحَ وَهْوَ مُطَلْسَمُ!
          قال فيها بعض الأبرار:
أعيا فحول العلم حلُّ رموز ما                     أبداه في الأبواب من أسرارِ
          انظر «المقدِّمة».
فَتِلْكَ بِتِي تَقَاوَمَا فَتَسَاقَطَا                     وَزَادَ البُخَارِي مَا بِهِ دَانَ أَخْصُمُ
          بهذا يسقط قول العلَّامة سيِّدي أحمد بن عبد العزيز الهلاليِّ:
تنازع قومٌ في البخاريِّ ومسلمٍ                     لديَّ وقالوا: أيَّ دَين تُقدم؟!
فقلت: لقد فاق البخاريُّ صحَّةً                     كما فاق في حسن الصناعة مسلمُ
وَمِنْ ذَاكَ ذِكْرُهِ لآِيٍ مُفَصِّلًا                     لَهَا بِحَدِيثٍ فَهْيَ كَأَسٌ مُخَتَّمُ /
مِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ اشْرَبْ وَطِبْ بِهِ                     مُنَافِسَ ذِي كَأْسٍ بِشُرْبِهِ يَنْدَمُ
          قال في «المقدِّمة»: واعتنى فيه بآيات الأحكام، فانتزع الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة.