نفحة المسك الداري لقارئ صحيح البخاري

الإرسال

وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمُ يُرْسِلُونُ فِي                     حَدِيثِهِمُ أَيْ يَقْطَعُونَ فَيُوهِمُ
          (الإرسال) هنا المراد به: الانقطاع، لا خصوص حذف الصحابيِّ، وكلُّ ما ذكرناه بين التَّدليس والإرسال فهو استطراد في استطرادٍ؛ لتكميل المراد. /
وَمِنْهُ خَفِيٌّ مِثْلَمَا فِي مُوطَّأٍ                     عَنِ ابْنِ مُسَيَّبٍ وَلَا يَتَلَثَّمُ
          الإرسال الخفيُّ: أن يرويَ عمَّن عاصره ولم يسمع منه، وإليه الإشارة في «الألفيَّة» بقولها:
وعدم السماع واللِّقاء                     برواية الإرسال والخفاء
          ومنه: حديث مالك عن سعيد بن المسيِّب، ولم يلقه، والثوريُّ عن إبراهيم النخعيِّ، ولم يلقه، قالوا: وما أحد سلِمَ من هذا إلَّا شعبة رأسًا، وإلَّا القطَّان قليلًا، وإليه أشرنا بقولنا:
وَمَا سَالِمٌ مِنْهُ سِوَى شُعْبَةَ العَلِي                     وَقَدْ قَرُبَ الْقَطَّانُ مِنْ ذَاكَ يَسْلَمُ
          أمَّا شعبة فهو كما في «التهذيب» شعبة بن الحجَّاج بن الورد الواسطيُّ، انتقل إلى البصرة فسكنها، قال ابن حنبل: «لمَْ يكن في زمن شعبة مثله في الحديث، ولا أحسن حديثًا منه قطُّ» كان سفيان يقول: «شعبة أمير المؤمنين في الحديث» وقال محمَّد بن يحيى الذهليُّ: عن سلم بن قتيبة: «قدمت من البَصرة؛ فأتيت الكوفة، فأتيت سفيان، فقال لي: مِن أين أتيتَ؟ فقلت: من البَصرة، فقال: ما فعل أستاذنا شعبة؟».
          وقال الشافعيُّ: رأيت في المنام كأنِّي أفجِّر بحرًا، فقدمت إلى هذه المدينة؛ يعني: بغداد، فلقيت شعبة بن الحجَّاج وقال: لولا شعبة ما عُرف الحديث بالعراق، وقال شعبة: ما سمعت من رجلٍ حديثًا إلَّا قال لي: حدَّثني أو حدَّثنا إلَّا حديثًا واحدًا، قال شعبة: قال قتادة: قال أنس: قال رسول الله صلعم: «إنَّ مِن حسن الصَّلاة إقامة الصفِّ» أو كما قال: فكرهت أن يفسد عليَّ من أجل جودة الحديث.
          وقال عمرو بن عليٍّ: سمعت أبا بحرٍ البكراويَّ يقول: ما رأيت أعبد لله مِن شعبةَ، لقد عبد الله حتَّى جفَّ جلده على ظهره، ليس بينهما لحمٌ.
          وقال مسلمُ بن إبراهيم: سمعته يقول: واللهِ لولا الفقراء ما جلست لكم، وقال أيضًا: كان شعبة إذا قام في مجلسه سائلٌ؛ لا يحدِّث حتَّى يُعطَى، فقام يومًا سائلٌ، ثمَّ جلس، فقال: ما شأنه؟ قالوا: ضمن عبد الرحمن بن مهديٍّ أن يعطى درهمًا.
          وقال يحيى بن معين: شعبة إمام المتَّقين، وهو أوَّل من فتَّش بالعراق عن أمر المحدِّثين، وجانب الضعفاء والمتروكين، وصار على من يُقتدى به، وتبعه عليه بعده أهل العراق.
          يُحكَى أنْ رُئِيَ في المنام جالسًا يقول: /
حباني الإله في المنام بقبَّة                     لها ألف باب من لجين وجوهر
وقال لي الرحمن يا شعبة الذي                     تبحَّر في جميع العلوم فأكثر
تمتَّع بقربي إنَّني عنك ذو رضا                     وعن عبدي القوَّام في الليل مسعر
كفى مسعرًا عزًّا بأن سيزورني                     وأكشف عن وجهي ليدنو فينظر
          وأمَّا القطَّان فقد تقدَّم.
وَمِنْهُمُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ مَنْ                     لَهُ عَلَمٌ فِي التَّابِعِينَ مُعَلَّمُ
          وفيه قيل:
إبراهيم وهو ابن يزيد النخعيُّ                     العالم الكوفيُّ الشهير التابعيّ
لم يلقَ واحدًا من الصحابة                     ممَّا عدا عائشة الصدِّيقة
ولم يكن سمع منها وَهْوَ                     إرساله يكثر فيما يروي
          قال الكلاباذيُّ: إبراهيم بن يزيد بن عمرو، أبو عمران النخعيُّ الكوفيُّ الأعور، سمع علقمةَ...إلى آخره، قال العينيُّ: «فقيه أهل الكوفة، دخل على عائشة ♦، ولم يثبت له سماع منها».
          وقال العجليُّ: «أدرك جماعةً من الصحابة، ولم يحدِّث عن أحدٍ منهم، وكان ثقةً، مفتي أهل زمانه هو والشعبيَّ».
          وقال الشعبيُّ: «لمَّا مات إبراهيم، ما ترك أحدًا أعلم منه، ولا أفقهَ».
          قال الأعمش: «مات وهو مُخْتَفٍ من الحجَّاج، ولم يحضر جنازته إلَّا سبعة أنفُسٍ».
كَذَا الحَسَنُ البَصْرِيُّ مُرْتَكِبٌ لَهُ                     عَلَى فَضْلِهِ فِي العِلْمِ وَاللَهُ أَعْلَمُ
كَفَى المَرْءَ نُبْلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبٌ                     لَهُ وَابْنُ مَعْدَانٍ عَلَى ذَاكَ يُقْدِمُ
          أمَّا الحسن البصريُّ فهو: الحسن بن أبي الحسن، اسمه: يسار مولى زيد بن ثابت، ويقال: مولى جابر بن عبد الله، أبو سعد الأنصاريُّ البصريُّ قاضيها، كانت أم سلمة تُخْرِجُ الحسن إلى أصحاب رسول الله صلعم، فكانوا يدعون له، فأخرجته إلى عمر بن الخطَّاب، فدعا له فقال: «اللَّهمَّ فقِّهه في الدِّين، وحبِّبه إلى الناس».
          سيِّد التابعين في زمانه بالبَصرة، وكان ثقةً في نفسه، حجَّةً، رأسًا في العلم والعمل، عظيم العلم، وكان كثير التَّدليس، فإذا قال في حديثٍ: عن فلان؛ ضعف نخاعه لا سيِّما عمَّن قيل: إنَّه لم يسمع منه / كأبي هريرة ونحوه، فعدُّوا ما كان من أبي هريرة من جملة المنقطع.
          قال يحيى بن معين: لم يصحَّ للحسن سماعٌ من أبي هريرة، فقيل ليحيى: قد جاء في بعض الأحاديث قال: حدَّثنا أبو هريرة، قال: ليس بشيءٍ.
          وقال ابن القطَّان: سماعه من معقل بن يسار مختلفٌ فيه، قال أبو حاتمٍ: لم يصحَّ له السماع منه.
          قال ابن أبي حاتمٍ: وقد ذُكِرَ لي ذلك وليس بمستفيضٍ، وفي كتاب «البخاريِّ»: حديث الحسن، عن معقل بن يسار في «الطَّلاق» و«التفسير» و«الأحكام» وفيه: من رواية عبَّاد بن راشد، ويونس بن عبيد عن الحسن قال: حدَّثنا معقل بن يسار، فاعلَمْ ذلك.
          وفي الحديث السابع من (الفصل الثامن) من «المقدِّمة»: قال الدارقطنيُّ: أخرج البخاريُّ أحاديث للحسن، عن أبي بكرة منها حديث: «زادك الله حرصًا ولا تعد» والحسن إنَّما يروي عن الأحنف بن قيس، عن أبي بكرة؛ يعني: فيكون منقطعًا وسيأتي الكلام على ذلك قريبًا في (الكسوف) إِنْ شاء الله ؛ _يعني: الحديث الثاني عشر_ انظره.
          انظر «التهذيب» إن شئت أن تعرف مقامات الرِّجال.
          وأمَّا ابن معدان فهو: خالد بن معدان، أبو عبد الله الكلاعيُّ الشاميُّ، حمصيٌّ، ثقةٌ، عابدٌ، يُرْسِلُ كثيرًا.
          روى ابن عساكر عن أبي مطيع معاوية بن يحيى: أنَّ شيخًا من أهل حمص، خرج يريد المسجد وهو يرى أنَّه قد أصبح، فإذا عليه ليلٌ، فلمَّا صار تحت القُّبَّة، سَمِعَ من جرس الخيل على البلاطِ، فإذا فوارس قد لَقِيَ بعضهم بعضًا، قال بعضهم لبعضٍ: من أين قدمتم؟ قالوا: أوَلمْ تكونوا معنا؟ قالوا: لا، قالوا: من جنازة البدل خالد بن معدان، قالوا: أَوَقَدْ مات؟! ما عَلِمْنَا بموت خالد بن معدان، فلمَّا كان نصف النَّهار، قَدِمَ البريد بموته.
وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ وَابْنُ بَشِيرٍ أَيْ                     هُشَيْمٌ لَهُ البَشِيرُ جَازَى فَيُكْرَمُ
          قال الكلاباذيُّ: خالد بن مهران أبو المُنازل الحذَّاء، المجاشعيُّ مولاهم، سَمِعَ أبا قلابة وعكرمة...إلى آخره، وفي «المقدِّمة»: البَصريُّ أحد الأثبات، وثَّقه أحمد، وابن معين، والنسائيُّ، وابن سعدٍ، وتكلَّم فيه شُعبة وابن عُليِّة، إمَّا لكونه دخل في شيءٍ من عمل السلطان، أو لما قال حمَّاد بن زيد: «قَدِمَ علينا خالدٌ قدمة من الشام، فكأنَّا أنكرنا حفظه، وقال أبو حاتم: يُكتَبْ حديثه ولا يُحتجُّ به، / روى له الجماعة».
          وأمَّا هُشَيْمٌ فهو: ابن أبي خازمٍ بشير بن القاسم بن دينار، أبو معاوية السلميُّ، مولاهم الواسطيُّ، سَمِعَ حميدًا الطويل وغيره، وكان مع حفظه وصدقه كثير التَّدليس والإرسال، انظرِ الحديث العاشر من (الفصل الثامن) من «المقدِّمة».
          قال التَّقيُّ السبكيُّ في «وفياته»: قال معروف الكرخيُّ: رأيتُ النبيَّ صلعم وهو يقول لهُشيم: «جزاك الله عن أمَّتي خيرًا» قال نصر بن بسَّام: فقلتُ لمعروف: أنت رأيت هذا؟ قال: نعم؛ هُشيم خيرٌ ممَّا تظنُّ.
وَمَا لِلْبُخَارِي غَيْرُ مَقْطُوعِ صِحَّةٍ                     عَلَيْهِ اعْتِمَادٌ وَهْوَ لِلْجُرْحِ مَرْهَمُ
          أي: وما للبخاريِّ مقطوع (غَيْرُ مَقْطُوعِ) بصحَّته، فهو استخدامٌ في الاسم الظاهر، كما في قوله:
أبدًا حديثي ليس بالمنسوخ إلَّا في الدفاتر                     وهو ظاهر لا يغفل عنه غير فاتر
          (عَلَيْهِ اعْتِمَادٌ)؛ أي: لا على من استدرك عليه.
          (وَهْوَ لِلْجُرْحِ مَرْهَمُ)؛ أي: هو دواءٌ لِما جرحوه، وفي (الفصل الثامن) من «المقدِّمة» ما يُرشِدُكَ لِمَا قلناه.