نفحة المسك الداري لقارئ صحيح البخاري

معرفة المؤتلف والمختلف

كَذَلِكَ عِلْمُ الِائْتِلَافِ وَالاخْتِلَا                     فِ أَلْزَمُ شَيْءٍ لِلْمُحَدِّثِ يَلْزَمُ
بِذَاكَ مِنَ التَّصْحِيفِ يَسْلَمُ قَارِئٌ                     وَإِلَّا يَكُنْ فَقَلَّمَا مِنْهُ يَسْلَمُ
          أي: وإلَّا يكنْ عالمًا به، قال في «الألفيَّة»:
واعْن بما صورتُه مؤتلف                     خطًّا ولكن لفظه مختلف
          انظرها وشروحها تستفد.
بُريْدُ اكْتَسَى بِهِ ابْنُ سِبْطٍ لِلأَشْعَرِي                     مُضَاهِي يَزيِدٍ اكْتَسَتْ بِهِ أَنْجُمُ
          قال الكلاباذيُّ: بُريد بن عبد الله بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريِّ.
          أبو بردة الأشعريُّ الكوفيُّ، حدَّث عن جدِّه أبي بردة بن أبي موسى الأشعريِّ...إلى آخره، ذكره في «المقدِّمة» وفي «الألفيَّة»:
جدُّ عليِّ بن هاشم بريد                     وابن حفيد الأشعريِّ بريد
          قال السخاويُّ: لذلك ؛ _أي: لكون جدِّ عليِّ بن هاشم بريد_ يقال له: البريديُّ، روى عن هشام بن عروة، حديثه في «مسلم»، وأمَّا ما وقع في «البخاريِّ» من حديث مالك بن الحويرث في (صفة صلاة النبيِّ صلعم) من قوله: (لصلاة شيخنا أبي بُريد عمر بن سلِمة) _بكسر اللام كما سيأتي_ فقد اختُلِفَ فيه؛ فالأكثر بُريد بالتصغير، كحفيد أبي موسى، رواه أبو ذرٍّ، عن الحمُّوي عن الفربريِّ عن البخاريِّ؛ ولذلك ذكره مسلمٌ في «الكنى» ولكن عامَّة رواة البخاريِّ قالوا: يزيد؛ كالجادَّة.
          قوله: (مُضَاهِي يَزيِدٍ...) إلى آخره، في رجال البخاريِّ منهم ثمانية عشر نفسًا أو أكثر، ومن أعظمها هذه الثلاث التي ذكرنا فقلنا:
سُمَى ابْنِ زُرَيْعٍ كَانَ رَيْحَانَةً تُشَمْـ                     ـمُ وَابْنِ أَبِي حَبِيبٍ الرَّوْضَ يَبْسَمُ
سُمَى ابنِ أَبِي يَزِيدٍ الرِّشْكِ وَهْوَ مَنْ                     نَمَتْ لِحْيَةٌ لَهُ وَقِيلَ المُقَسِّمُ
سُمًى لِابْنِ هَارُونَ الَّذِي لَاحَ قَدْرُهُ                     بِقَبْرِهِ نَوْمَةَ العَرُوسِ يُنَوَّمُ
          يزيد بن زريع الحافظ، قال الكلاباذيُّ: أبو معاوية العيشيُّ، يقال: من بني عائش، من بكر بن وائل، البصريُّ...إلى آخره.
          وعن / أحمد ابن حَنبَل: كان ريحانة البَصرة، وعن أبي عوانة: صَحِبْتُ يزيد بن زريع أربعين سنةً، يزداد في كلِّ سنةٍ خيرًا، وكان من أورع أهل زمانه، مات أبوه وكان واليًا على الأبلَّة، وخلَّف خمس مئة ألف، فما أخذ منها حبَّةً، وقال نصر بن عليٍّ الجهضميُّ: رأيت يزيد بن زريع في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: دخلت الجنَّة، قلت: بمَ؟ قال: بكثرة الصَّلاة.
          يزيد بن أبي حبيب: قال الكلاباذيُّ: أبو رجاءٍ، كان أبوه مولى امرأةٍ مولاةٍ لبني حسل بن عامر بن لؤيٍّ القرشيِّ، قال العينيُّ: تابعيٌّ جليلٌ، قال ابن يونس: كان مفتي أهل مصر في زمانه، وكان حليمًا عاقلًا، وهو أوَّل من أظهر العِلْمَ بمصر، والفقه، والكلام في الحلال والحرام، وكانوا قبل ذلك إنَّما يتحدَّثون بالفِتَن والملاحم، وكان أجلَّ الثلاثة الذين جعل لهم عمر بن عبد العزيز الفُتيا بمصر.
          يزيد بن أبي يزيد: واسمه سِنان، أبو الأزهر الضبعيُّ البصريُّ القسَّام، يقال له: يزيد الرِّشك، قال أبو الفرج بن الجوزيِّ: «الرِّشك» بالفارسيَّة، الكبير اللِّحيَة، وبذلك لُقِّب لكِبَر لحيَته، قالوا: دَخَلَتْ عقرب في لحيَته، فَمَكَثَتْ فيها ثلاثة أيَّام فلمْ يعلم بها، وقال الكلاباذيُّ: و«الرِّشك» القسَّام.
          يزيد بن هارون: قال الكلاباذيُّ: أبو خالد السلميُّ مولاهم، الواسطيُّ، قيل: إنَّ أصله من بخارى، قال محمَّد بن قُدَامَة الجوهريُّ: سَمِعْتُ يزيد بن هارون يقول: أحفظ خمسةً وعشرين ألف حديثٍ بإسنادٍ ولا فخر، وأنا سيِّد مَن روى عن حمَّاد بن سلمة ولا فخر، وقال محمَّد بن أبي طالبٍ: سمعت يزيد بن هارون يقول في المجلس ببغداد: وكان يقال: إنَّ في المجلس سبعين ألفًا، ومناقبه وخصائله كثيرةٌ، وهو الذي قال فيه الإمام أحمد: ما أفطنهَ! وأذكاه! وأفهمه! والقائل هو لمستمليه: بلغني أنَّك تريد أنْ تدخل عليَّ في حديثي، فاجهد جهدك، لا أرعى الله عليك إنْ رعيت.
          قال ابن المدينيُّ: لم أرَ أحدًا أحفظ من ابن هارون، وكان عالمًا بالحديث، حافظًا، ثقةً، زاهدًا، عابدًا، كان بعد أَنْ كُفَّ _بسبب كثرة بكائه في الأسحار_ يأمر جاريته فتُلقِّنه ويحفظ عنها، ولم يلتفتوا للقول بأنَّه عِيب بذلك، كان يقول: «مَن طلب الرياسة في غير أوانها حُرِمَها في وقت أوانها» / وكانت عيناه جميلتان، فلمْ يزل يبكي حتَّى ذهبت إحداهما، وعمشت الأخرى، ولم يكن يفتر من صلاةٍ باللَّيل والنَّهار، هو وهُشَيم معروفان بصلاة اللَّيل والنَّهار.
          وقال أحمد بن سنان: ما رأيتُ عالمًا قطُّ أحسنَ صلاةً من يزيد بن هارون، يقوم كأنَّه أسطوانة، يُصلِّي بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.
          وعن عاصم بن عليٍّ: كان يزيد إذا صلَّى العتمةَ لا يزال قائمًا يصلِّي الغداة بذلك الوضوء، فبقي على ذلك نيِّفًا وأربعين سنة، وقال له رجلٌ: كم حزبك؟ فقال: وهل أنام من اللَّيل شيئًا؟ إذن لا أنامَ الله عيني.
          قَدِمَ بغداد، وحدَّث بها، ثمَّ عاد إلى واسط، ومات بها.
          وقال أبو نافع سبط يزيد بن هارون: كنت عند أحمد ابن حنبل وعنده رجلان، فقال أحدهما: رأيت يزيد بن هارون في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وشفَّعني وعاتبني، وقال: أتُحدِّث عن حَريز بن عثمان؟ قلت: يا ربُّ؛ ما علمتُ إلَّا خيرًا، قال: إنَّه كان يبغض عليًّا، وقال الآخَر: رأيته في المنام فقلتُ له: هل أتاك منكرٌ ونكيرٌ؟ قال: إِي والله، وسألاني: مَنْ ربُّك؟ وما دينك؟ ومَنْ نبيُّك؟ فقلت: ألِمثلي يقال هذا وأنا كنت أَعْلَمَ النَّاسِ بهذا في دار الدُّنيا؟! فقالا لي: صدقتَ.
          وفي «الأُبِّيِّ» عن جويريَة ؛ _أي: ابن أسماء، من أشياخ يزيد بن هارون_ قال: رأيت يزيد بن هارون في النَّوم فقلت: أمنكر ونكير حقٌّ؟! فقال: إِي والذي لا إله إلَّا هو؛ لقد أقعداني، وجعلتُ أنفض التراب عن لحيتي البيضاء، وسألاني: مَنْ ربُّك؟ وما دينك؟ ومَنْ نبيُّك؟ فقلت: لِمثلي تسألاني؟! أنا يزيد بن هارون، وكنت في الدُّنيا ستِّين سنة أُعَلِّمُ النَّاس، فقال أحدُهما لصاحبه: صدق، هو يزيد بن هارون، نَمْ نومةَ العروس، لا رَوعَ عليك بعد اليوم، فقال أحدهما: أَكتَبْتَ عن حريز بن عثمان؟ قلت: نعم، وكان ثقةً في الحديث، قال: ثقة           ولكنَّه كان يبغض عليَّ بن أبي طالبٍ، فأبغضه الله.
وَحَبَّانُ مَفْتُوحًا ومَكْسُورًا اوَّلًا                     بِبَاءٍ وحَيَّانُ مِنَ الحَيْنِ يُرْسَمُ
          قال في «الألفيَّة»:
كذاك حبَّان بن منقذٍ ومن                     ولده وابن هلال واكسِرن
ابنَ عطيَّة معَ ابنِ موسى                     ومن رَمَى سعدًا فنال بُوسا /
          قال السخاويُّ: أي: افتحْ مع الموَّحدة المشدَّدة: حَبَّان بن منقذ بن عمرو الأنصاريَّ الصَّحابيَّ المذكور في «الموطَّأ» ومِن ولده ابنه واسع المخرَّج له حديثُه في الثلاثة ؛ _أي: البخاريُّ ومسلم و«الموطَّأ»_ وحفيده حَبَّان بن واسع المخرَّج له في «مسلم»، وابن عمِّه محمَّد بن يحيى بن منقذ المخرَّج له في الثلاثة، وابن هلال، ويقع كثيرًا غيرَ منسوبٍ، وضابط ذلك: أنَّ ما كان من شيوخ شيوخهما «حبَّان» غير منسوبٍ؛ فهو ابن هلال.
          قال الكلاباذيُّ: حبَّان بن هلال أبو حبيب، يقال: الباهليُّ، ويقال: الكنانيُّ البصريُّ، وعن أحمد ابن حنبل: إليه المنتهى في التثبُّت بالبصرة، قال ابن سعدٍ: كان ثقَةً، ثبتًا، حجَّةً، وكان قد امتَنَعَ عن التحديث قبل موته.
          وابن عطيَّة العلويُّ الذي كان يفضِّل عليًّا مع عثمان المذكور في «البخاريِّ» في حديث سعد بن عبيدة، قال: تنازع أبو عبد الرحمن ؛ _يعني: السلميُّ_ وحبَّان بن عطيَّة، وحكَوا أنَّ بعض رواة أبي ذَرٍّ ضبطه بفتح أوَّله، ووهَّموه مع ابن موسى ؛ _أي: ابن سوار_ أبي محمَّد السلميِّ المروزيِّ، أحد شيوخ الشيخين في «صحيحيهما» فالكسر فيه بالإجماع، وهو حبَّان الآتي غيرَ منسوب عن عبد الله بن المبارك.
          وقولنا: (حَيَّانُ مِنَ الحَيْنِ يُرْسَمُ) ذكر [الجارَبريُّ] قال: جاء رجل اسمه حيَّان إلى ملك، فقيل للملك: أينصرف حيَّان أو لا ينصرف؟ فقال: إنْ أكرمته فلا ينصرف، وإلَّا فينصرف، ووجَّهوه بأنَّه إنْ أكرمه فكأنَّه أحياه، فيكون من الحيِّ، فلا ينصرف؛ لزيادة الألف والنون والعَلَميَّة، وإنْ لم يُكرِمه فكأنَّه أهلكه من الحين فينصرف.
          أقول: وكان الأغلب الثَّاني، ومنه يقال: ليالي حيَّان، وأنت إذا تأمَّلت أتينا به منصرفًا، بعدما أتينا بـ(حبَّان) غير منصرف في البيت الثالث بعد هذا؛ استحسنت ذلك.
أَبٌ لِلضَّرِيرِ خَازِمٌ خَاءٌ أُعْجِمَتْ                     لَهُ، وَسِوَاهُ حَازِمٌ لَيْسَ يُعْجَمُ
          أبو معاوية الضَّرير، محمَّد بن خازم؛ بالخاء المعجمة، وسَلَمة بن دينار: أبو حازم الأعرج، التمَّار، الزَّاهد، القاضي، مولى الأسود بن سفيَان، القرشيُّ المخزوميُّ، المدنيُّ...إلى آخره.
          وفي «الطبقات»: ذكروا أنَّ سليمان بن عبد الملك قَدِمَ المدينة، فَأَرسَلَ إلى أبي حازمٍ، فأتاه، فقال له سليمان: يا أبا حازمٍ؛ ما هذا الجفاء؟ قال: وأيَّ جفاءٍ رأيت منِّي؟ قال: أتاني أهل المدينة ولَمْ تأتني! قال: يا أمير المؤمنين؛ فكيف يكون إتيانٌ بلا معرفةٍ متقدِّمةٍ، والله ما عرفتني
           /
          قبل هذا اليوم، ولا أنا رأيتك فأعرف، قال: فالتَفَتَ سليمان إلى الزهريِّ فقال: أصاب الشَّيخ وصدق، وقال سليمان: يا أبا حازمٍ؛ كيف القدوم على الله؟ قال: أمَّا المحسن فكالغائب، يقدم على أهله مسرورًا، وأمَّا المسيء فكالآبق، يقدم على مولاه محزونًا.
حَرِيزٌ مُوَافِقٌ جَرِيرًا مُخَالِفٌ                     لَهُ، فَاحْتَرِزْ عَنْ مِثْلٍ إِنْ شِئْتَ تُكْرَمُ
          تقدَّم التعريفُ بحريز بنِ عثمان في الناصبيَّة، وفي قوله: (احْتَرِزْ عَنْ مِثْلٍ) تورية سرية.
سَلِيمُ بْنُ حَيَّانٍ سِوَاهُ مُصَغَّرٌ                     وَكُلٌّ كَبِيرٌ سَالِمٌ وَمُسَلَّمُ
          قال في «الألفيَّة»:
وفي ابن حيَّان سليم كبِّر
          أي: وصَغِّر ما عداه.
          قال الكلاباذيُّ: سليم بن حيَّان [الهنديُّ] سليم بن الأسود الشعثاء.
وَكَابْنِ سَلَامٍ وَابْنِ سَلَّامٍ انْجَلَى                     خَفِيفُهُ مِنْ ضِدٍّ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ
          قال في «الألفيَّة»:
[و] نحو سلَّام كلُّه مثقَّل                     لا ابن سلام الحبر والمعتزلي
أبا عليٍّ فهو خفُّ الجسدِ                     وهو الأصحُّ في أبي البيكندي
وابن أبي الحُقَيق وابن مِشكَم                     والأشهر التشديد فيه فاعلم
          قال السخاويُّ: قال شيخنا تبعًا لغيره: وفيه نظرٌ؛ لأنَّه ورد في الشِّعر الذي هو ديوان العرب مخفَّفًا.
          أقول: فيما قاله شيخه نظرًا؛ لجواز أن يكون الشَّاعر اضطُرَّ.
          قال الكلاباذيُّ: محمَّد بن سلام بن الفرج، أبو عبد الله السلميُّ مولاهم، البخاريُّ البيكنديُّ، سَمِعَ ابن عُيَينة، قال العينيُّ: «أَنْفَقَ في العلم أربعين، ومثلها في نشره» ويقال: إنَّ الجنَّ كانت تحضر مجلِسَهُ، وقال: أدركت مالكًا ولم أسمع منه، وكان أحمد يعظِّمه، وعنه حفظ أكثر من خمسة آلاف حديثٍ كَذِبٍ، وله رحلةٌ ومصنَّفات في أبواب العلم، وانْكَسَرَ قلمه في مجلس شيخ، فأمر أن ينادي: قلمًا بدينار، فطارت إليه الأقلام.