نفحة المسك الداري لقارئ صحيح البخاري

معرفة المتفق والمفترق

وَعِلْمُ اتِّفَاقٍ وَافْتِرَاقٍ مُحَتَّمُ                     عَلَى طَالِبٍ بِهِ يَلُوحُ المُكَتَّمُ
          قال في «توضيحِ النُّخبةِ»: الرُّواةُ إنِ اتَّفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم فصاعدًا، واختلفت أشخاصهم، سواء اتَّفقَ في ذلك اثنان فيهم أو أكثر، وكذلك إذا اتَّفق اثنان فصاعدًا في الكنية والنِّسبة؛ فهو النَّوعُ الَّذي يُقالُ له: (المتَّفِق والمفترِق) وفائدة معرفته: خشية أن يُظَنَّ الشَّخصان شخصًا واحدًا، وهذا عكسُ ما تقدَّم من النَّوعِ المسمَّى بـ(المُهمَل)؛ لأنَّه يُخشَى منه أنْ يُظَنَّ الواحد اثنين، وهذا يُخشَى منه أنْ يُظَنَّ الاثنان واحدًا.
          قال سيِّدي العربيُّ الفاسيُّ:
ما اختلفت أشخاصُه ووقعا                     الوفقُ في اللَّفظ وفي الخطِّ معا /
لدا اسمانِ وهكذا الآباء                     اتَّفقت ما بينها الأسماء
وقد يزيدُ عن أبٍ فيلحق                     بأنَّهُ المتَّفِقُ المفترِق
مثلُ الخليل وأبوه أحمد                     في ستَّةٍ مذكورةٍ تُعدَّد
ومثل ذلك في الكُنى والنَّسب                     من لقبٍ مفردٍ اوْ مُركَّب
كَإِسْحَاقِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَصَابِعٌ                     وَسَيَّارَةٌ بِهَا المُحَدِّثُ يُقسِمُ
          وقال الكلاباذيُّ: ومنهم من اسمه: إسحاق بن إبراهيم بن يزيد أبو النَّضر الشَّاميُّ الدِّمشقيُّ، انظر «المقدِّمة».
          إسحاق بن إبراهيم بن مَخلَد؛ وهو ابن رَاهَوَيْه: أبو يعقوبَ الحنظليُّ المروزيُّ، سكن نيسابور، وفي «ابن خلِّكان»: جمع بين الفقه والحديث والورع، أحدُ أئمَّة الإسلام، عدَّهُ الدَّارقطنيُّ ممَّن روى عن الشَّافعيِّ، وعدَّهُ البيهقيُّ من أصحابه، وكان يناظرهُ، قال: (أحفظُ ستِّينَ ألفَ حديثٍ، ولا سمعتُ شيئًا قطُّ إلَّا حفظتُه، ولا حفظتُ شيئًا فنسيته).
          رحل إلى الشَّامِ والعراق والحجازِ واليمن، وسمع من ابن عُيَينة، وسمع منه الشَّيخان والتِّرمذيُّ.
          وفي «الطَّبقاتِ» في (ترجمةِ داودَ): قال أبو عَمرو أحمدُ بن المبارك المستملي: رأيتُ داود بن عليٍّ يردُّ على إسحاقَ ابن راهويه، وما رأيتُ أحدًا قبله ولا بعده يردُّ عليه؛ هيبةً له.
          وقال داود: دخلتُ على إسحاقَ ابنِ راهويه وهو يحتجمُ، فجلستُ، فرأيت كتب الشَّافعيِّ، فأخذتُ أنظرُ، فصاحَ: إيش تنظر؟ فقلتُ: { مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ }[يوسف:79] فجعل يضحك ويبتسم.
          قال الكلاباذيُّ: إسحاقُ بن إبراهيم بن نَصر أبو إبراهيم السَّعديُّ، إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عمر بن أحمد بن منيع بن عبد الرَّحمن، أبو يعقوب البغويُّ، إسحاق بن إبراهيم الصَّوَّاف البصريُّ.
وَالْأَسْوَدِ عِدَّةٌ كَأَرْكَانِ كَعْبَةٍ                     وَنَجْلِ يَزيِدٍ أَسْعَدٌ هُوَ يُلْثَمُ
          قال الكلاباذيُّ: ومنهم مَن اسمه الأسود: الأسودُ بن يزيدَ بن قيسٍ ابن أخي علقمة بن قيسٍ، أبو عَمرو النَّخعيُّ الكوفيُّ، ذكرهُ ابن حجر في «الإصابة» في القسم الثَّالث في المخضرمين، وقال: ذَكَرَ ابنُ أبي خيثمةَ أنَّه حجَّ مع أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ، وقال ابن سعدٍ: سمعَ من معاذٍ باليمن قبل أنْ يهاجرَ، وحديثُ رحلته / _أعني:معاذًا_ لليمن في زمن النَّبيِّ صلعم، في «البخاريِّ» و«أبي داود» وغيرهما.
          وقال البخاريُّ: سمع أبا بكر وعمرَ، قال الحكمُ بن عتبةَ: كان يصومُ الدَّهر حتَّى ذهبتْ إحدى عينيه من الصَّوم، وقال العجليُّ: كوفيٌّ ثقةٌ، رجلٌ صالحٌ، كان يصلِّي كلَّ يومٍ سبعَ مئة ركعةٍ.
          وفي «الألفيَّة»:
ولهم المشتَبِه المقلوب                     صَنَّف فيه الحافظُ الخطيبُ
كابن يزيدَ الأسود الرَّبانيِّ                     وكابن الأسود يزيدَ اثنان
          قال السَّخاويُّ: أي: يزيد الأسود اثنان:
          أحدهما: الخزاعيُّ الحجازيُّ المكيُّ، وقيل: المدنيُّ الصَّحابيُّ المُخرَجُ حديثه في «السُّنن».
          والآخر: الجرشيُّ تابعيٌّ مخضرمٌ، يُكنَّى أبا الأسود، سكن الشَّامَ، وأَقعَده معاويةُ وهو يستسقي على المنبرِ عند رجلَيه، وأمره أنْ يرفعَ يديه ففعل، وفعلَ النَّاسُ مثله، وقال معاويةُ: «اللَّهمَّ إنَّا نَسْتَشْفِعُ إليك بيزيدَ بن الأسود الجرشيِّ» فسُقوا للوقت حتَّى كادوا ألَّا يبلغوا منازلَهم.
          قال الكلاباذيُّ: الأسود بن هلالٍ ذكرَهُ في «الإصابة» من المخضرمين أيضًا، والأسود بن عامر.
وَثَابِتٍ البُنَانِي وَابْنِ عِيَاضَ وَابْـ                     ـنِ عِجْلَانَ كُلٌّ تَابِعٌ وَمُقَدَّمُ
وَأَوَّلُهُمْ هُوَ الَّذِي قِيلَ كَاسْمِهِ                     وَقَامَ بِقَبْرٍ لِلصَّلَاةِ يُزَمْزِمُ
          قال الكلاباذيُّ: ثابتُ بن أسلم بن محمَّد البنانيُّ البصريُّ، سمع عبد الله بن الزُّبير، قال حمَّاد بن زيدٍ عن أبيه، قال أنس: (إنَّ للخير أهلًا وإنَّ ثابتًا هذا من مفاتح الخير).
          وقال في «الميزان»: (وثابتٌ ثابتٌ كاسمه، ثقةٌ بلا مدافعةٍ، كبيرُ القدر)، وروى غالب القطَّان عن بكر بن عبد الله المزنيِّ قال: (من أراد أن ينظرَ إلى أعبد أهل زمانه؛ فلينظر إلى ثابتٍ البنانيِّ، ما أدركنا أعبد منه).
          وقال سعيدٌ: (كان ثابتٌ يقرأ القرآن في كلِّ يومٍ وليلةٍ، ويصوم الدَّهرَ) وقال حمَّادُ بن زيد: (رأيت ثابتًا يبكي حتَّى تختلفَ أضلاعه) وقال جعفر بن سليم: (بكى ثابتٌ حتَّى كادت عينه تذهب)
          وقال عفَّان عن حمَّادُ بن سلمة: (كان ثابتٌ يقول: «اللَّهمَّ إن أعطيت أحدًا الصَّلاةَ في قبره فأعطني الصَّلاة في قبري» وأخرج أبو نعيم في «حليته» عن سعيد بن جبير قال: أنا _والله الَّذي لا إله إلَّا هو_ أدخلتُ ثابتًا البنانيَّ في لحده ومعي حميد / الطَّويل، فلمَّا سوَّينا عليه اللَّبِن سقطت عليه لَبِنَةٌ، فإذا أنا به يصلِّي في قبره، وكان يقول في دعائه: «اللَّهمَّ إنْ كنت أعطيت أحدًا من خلقك الصَّلاة في قبره؛ فأعطنيها» فما كان الله ليردَّ دعاءه).
          وفي «الصَّحيح» عن النَّبيِّ صلعم: أنَّه مرَّ ليلة أُسرِيَ به بموسى ◙ وهو قائمٌ يصلِّي في قبره.
          قال الكلاباذيُّ: ثابتُ بنُ عياض، ثابتُ بن عجلان.
          وذكره في «المقدِّمة» انظرها.
وَفِي الحَسَنِ الَّذِي قَدْ أَغْفَلَهُ خِلَا                     فٌ ابْنُ شُجَاعٍ وَابْنُ صَبَّاحٍ أَقْوَمُ
          قال الكلاباذيُّ: الحسنُ غيرُ منسوبٍ، حدَّث عن إسماعيل بن خليلٍ الخرَّاز في «تفسير سورة الزُّمر» قال أبو نصرٍ: كان أبو حاتمٍ سهل بن السريِّ الحذَّاء الحافظ البخاريُّ يقول: إنَّه الحسنُ بن شجاع بن رجاءٍ، أبو عليٍّ الحافظ البلخيُّ عندي، وحدَّث عن قرَّةَ بن حبيبٍ في (غزوةِ خيبرَ) وكان أبو حاتمٍ أيضًا يقول: إنَّ هذا الحسنُ بن الصبَّاحِ عندي، والله أعلم.
          وإنَّما قلنا: إنَّه (أَقْوَمُ)؛ لأنَّه حين روى مقيِّدًا في غيرِ موضعٍ، فيُحمَل هذا المطلق عليه.
          وقال الكلاباذيُّ في ترجمته: الحسنُ بن الصبَّاح بن محمدٍ أبو عليٍّ البزَّار، الواسطيُّ ثمَّ البغداديُّ، سمِعَ من ابن عيينةَ، وهو أحدُ الأئمَّةِ في الحديثِ والسنَّة، قال العينيُّ: قال أحمد: ثقةٌ، صاحبُ سُنَّةٍ، لا يأتي عليه يومٌ إلَّا وهو يفعل فيه خيرًا، وقال أبو حاتمٍ: صدوقٌ، له جلالةٌ ببغدادَ، كان أحمدُ ابن حنبل يرفع من قدره ويجلُّه، وقال ابن السَّرَّاجِ: سمعته يقول: أُدخِلتُ على المأمونِ ثلاثَ مرَّاتٍ، رُفع إليه أنِّي آمرُ بالمعروفِ، وكان قد نهى عن ذلكَ، فأُدخِلتُ عليه، فقال: أنتَ تأمرُ بالمعروفِ؟ قلتُ: لا، ولكنِّي أنهى عن المنكرِ، قال: فرفعني على ظهرِ رجُلٍ، وضربني خمسَ دِرَرٍ، وخلَّاني، ورُفِعَ إليه أنِّي أشتمُ عليًّا، فأُدخِلتُ عليه فقال: أتشتمُ عليًّا؟ فقلت: صلَّى الله على مَولاي وسيِّدي عليٍّ، يا أميرَ المؤمنين؛ أنا لا أشتمُ يزيدَ؛ لأنَّه ابن عمِّكَ، أفأشتمُ مولاي عليًّا؟! فقال: خلُّوا سبيله، وذهبَ إلى أرضِ الرُّومِ في المحنةِ، فلمَّا ماتَ أُطلِقت.
          وقولنا: (خِلَافٌ ابْنُ شُجَاعٍ)؛ أي: هل هو ابنُ شجاعٍ أو ابن صبَّاحٍ؟! وابن الصَّبَّاحِ أقوم، فهو كقوله: «حُبِّب إليَّ من دنياكم ثلاثٌ...».
وَحَمَّادٍ انْ يَكُنْ [سُلَيْمَانٌ] بْنُ حَرْ                     بٍ اغْفَلهُ فَهْوَ ابْنُ زَيْدٍ مُقَدَّمُ /
وَإنَّ حَفِيدَ دِرْهَمٍ مُعْتَلٍ عَلَى                     حَفِيدٍ لِدِينَارٍ بِمَا لَيْسَ يُكْتَمُ
          قال في «الألفيَّةِ»:
ومنه ما في اسمٍ فقط ويُشكل                     كنَحْوِ حمَّادٍ إذا ما يُهْمَلُ
          (مِنه)؛ أي: من المتَّفِق والمفترِق، (ما)؛ أي: ما الاتِّفاق فيه.
فإنْ يكُ ابنُ حرب أوْ عارم قد                     أطلقه فهو ابنُ زيد أو ورد
عنِ التبوذكيِّ أو عفَّان                     أو ابن منهال فذاكَ الثَّاني
          أي: حمَّاد بن سلمةَ المطويُّ في الذكر، ووُصِفَ بـ(الثَّاني)؛ لتأخُّره عن ابن زيد بالإشارة، وإلَّا فابن زيدٍ أقدمُ وفاةً منه.
          قال الكلاباذيُّ: حمَّاد بن زيد بن درهم أبو إسماعيل الأزرق، مولى آل جرير بن حازم، الجهضميُّ الأزديُّ البصريُّ، أخو سعيد، سمِعَ ثابتًا البنانيَّ، وقال عبد الرحمن بن مهديٍّ: أئمَّة الناس في زمانهم أربعة: سفيان الثَّوريُّ بالكوفةِ، ومالكٌ بالحجاز، والأوزاعيُّ بالشام، وحمَّاد بن زيد بالبصرة، وما رأيتُ أعلمَ من حمَّاد بن زيد ولا سفيان، وأنشد ابن المبارك فيه:
أيُّها الطالب علمًا...
          وحمَّاد بن سلمة بن دينار البصريُّ، ذكره الكلاباذيُّ في الآخر، وذكره في «المقدِّمة» وعادَ حمَّاد بن سلمة سفيان الثوريَّ، فقال: يا أبا سلمةَ؛ أترى يغفر الله لمثلي؟ فقال حمَّاد: واللهِ لو خُيِّرتُ بين محاسبة الله لي وبين محاسبة أبوَيَّ؛ لاخترتُ محاسبةَ الله تعالى؛ لأنَّه أرحمُ بي من أبوَيَّ.
وَإِنْ أَغْفَلُوا سُفْيَانَهُمْ عَنْ مُعَلَّمٍ                     فَمَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدُ لَاحَ يُعَلِّمُ
          في «الطبقات» لابن السِّبكيِّ: كتب الحافظ قطب الدِّين عبد الكريم بن عبد النُّور الحلبيُّ من مِصر إلى الحافظ المزِّيِّ يسألُه: ما تقول فيما إذا ورد حديثٌ لعبد الرزَّاق عن سفيان عن الأعمش؟ أيُّ السفيانَين هو؟ وإنْ كان أكثر روايته عن الثوريِّ؛ فهل يُكتفى بذلك أو يُحتاج إلى زيادة بيانٍ؟ فأجابَ: بأنَّه الثوريُّ؛ لأنَّه أخصُّ به منه بابن عُيَينة، ولأنَّه إذا رَوى عن ابن عُيَينة ينسبه، وإذا روى عن الثوريِّ فتارةً ينسبه وتارةً لا ينسبه، وحين لا ينسبه / إمَّا أنْ يكتفيَ بكونه رَوى له عن شيخٍ لمْ يروِ عنه ابن عُيَينة، فيكتفي بذلك تمييزًا، وهو الأكثر، وإمَّا أنْ يكتفيَ بشهرته واختصاصه به، وهذه القاعدة جاريةٌ في غالب مَنْ روى عن سميٍّ أو يروي عنه سميَّانِ.
كَذَلِكَ عَبْدُ اللهِ فَابْنُ مُبَارَكٍ                     لِأَهْلِ خُرَاسَانٍ ذُكِّي مَا تَلَثَّمَ
          قال السخاويُّ: حُكِيَ عن سلمة بن سليمان أنَّه حدَّث يومًا فقال: حدَّثنا عبد الله، فقيل له: ابنُ مَنْ؟ فقال: يا سبحان الله! ما تَرضَون في كلِّ حديثٍ حتَّى أقول: عبد الله بن المبارك، ثمَّ قال سلمة: إنَّه إذا قيل: «عبد الله» بمكَّةَ فهو ابن الزُّبير، أو بالمدينة فابن عمرَ، أو بالبَصرة فابن عبَّاس، أو بخُرَاسَانَ فابن المبارك.
          وقال الحافظ أبو يعلى الخليليُّ القزوينيُّ: إذا قال: المصريُّ؛ فابن عمرو بن العاص، أو المكيُّ؛ فابن عبَّاس، فاختلفَ القولانِ في إطلاق المكِّيِّ، وقال النَّضرُ بن شُمَيل: إذا قال: الشَّاميُّ؛ فابن عمرو بن العاص.
          قال الخطيبُ: وهذا القولُ الصحيح، قال: وكذلك يفعل بعض المصريِّين في إطلاقه عبد الله وإرادته ابن عمرو بن العاص، وعبد الله بن المبارك.
          قال الكلاباذيُّ: أبو عبد الرحمن الحنظليُّ مولاهم، المروزيُّ، سَمِعَ معمَرًا، كان أبوه تُركيًّا مملوكًا لرجل من هَمْدان، حكى أنَّ أباه كان يستَعْملُ في بستانٍ لمولاه رُمَّانًا، فجاءه يومًا، فقال: أريد رمَّانًا حلوًا، فأحضر بين يديه رمَّانًا، فوجده مولاه حامضًا، فحرَّج عليه، فقال: أطلبُ منك رمَّانًا حلوًا وتعطيني حامضًا           فأتاه برمَّانٍ مِنْ شجرةٍ أُخرى، فوجده حامضًا، فاشتَّد حرجه، فأتاه برمَّان مِنْ شجرةٍ ثالثة، فوجده حامضًا، فقال: أنتَ لا تعرِف الحلو من الحامض؟! فقال: لا؛ لأنِّي ما أكلتُ منه، فكيف أعرفه؟! فقال: لِأيِّ شيءٍ لَمْ تأكل منه؟ فقال: لأنَّك لمْ تأذنْ لي في الأكل، فكشف عن ذلك فوجده صادقًا، فعظُم في عينِه، فزوَّجه ابنتَه، فيقال: إنَّ عبد الله ولده مِنْ تلك البنت، فظهرت عليه بركةُ أبيه.
          وسُئِلَ عن ابتداء طلبه للعلم، قال: كنتُ شابًّا أشرب النَّبيذ، وأُعجَب بالغناء، فأخذتُ يومًا العودَ أُغنِّي به، وأنشد:
ألم يأنِ لي منك أنْ ترحما                      وتعصي العواذلَ واللُّوَّمَا /
          فإذا هو لا يجيبُني إلى ما أريد، فلمَّا تكرَّرتُ عليه بذلك إذا هو ينطِقُ كما ينطِق الإنسان، يقول: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ } الآية [الحديد:16] فقلت: بلى يا ربُّ، فكسرتُ العود، وهرقتُ النَّبيذ، وجاءت التَّوبة بفضل الله بحقائقها.
          وقال له رجلٌ: أنا قرأتُ البارحة القرآنَ في ركعةٍ، فقال ابن المبارك: أنا أعرفُ رجلًا لَمْ يزل البَّارحة في { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ }[التكاثر:1] إلى الصُّبح ما جاوزها؛ يعني: نفسه.
          ثقةٌ، ثَبْتٌ، فقيهٌ، عالِمٌ، جوَادٌ، مجاهِدٌ، جُمِعَتْ فيه خِصَال الخير.
          هو الإمام المتَّفَق على جلالته، وأمانته، وورَعِه، وسخائه، وعِبادته، وهو من تابع التَّابعين، هو الذي تُسْتَنْزَل الرَّحمَّاتُ بذكره.
          وقال عمَّار بن الحسن يمدحه:
إذا سار عبد الله من مَرو ليلة                     قد سار منها نورُها وجمالها
إذا ذُكِرَ الأخيار من كلِّ بلدة                     فهم أنجمٌ فيها وأنت هلالها
          وفي «الطبقات» للشعرانيِّ: كان يقول: سلطان الزُّهد أعظم مِنْ سلطان الرعيَّة؛ لأنَّ سلطان الرعيَّة لا يجمع النَّاس إلَّا بالعُصِيِّ، والزَّاهد ينفر من النَّاس فيتبعونه.
          وفي «ابن خلِّكان»: قَدِمَ هارون الرَّقَّة، فانجفل النَّاس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطَّعتِ النِّعالُ، وارتفعتِ الغبرة، فأشرفت أمُّ الرَّشيد من قصر الخشب، فلمَّا رأتِ النَّاس قالت: مَنْ هذا؟ قالوا: عالِمٌ من أهل خراسانَ يقال له: عبد الله بن المبارك، قالت: هذا واللهِ الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع النَّاس إلَّا بشُرَطٍ وأعوانٍ.
          صلَّى يومًا إلى جنب أبي حنيفة، فجعل ابن المبارك يرفع يديه في كلِّ تكبيرةٍ، فقال له أبو حنيفة: أتريد أنْ تطيرَ؟ فقال: لو شِئتُ لَطِرتُ في الأولى.
          وقال العبَّاس بن محمَّد النَّسفيُّ: سمعتُ أبا حاتم الفربريَّ يقول: رأيتُ في النَّوم ابن المبارك واقفًا على باب الجنَّة، فقلت: ما يوقفك هنا؟ قال: هذا مفتاح الجنَّة، دفعه لي محمَّدٌ صلعم، وقال: حتَّى أزور الربَّ تعالى، فكنْ أميني في السَّماء كما كنتَ أميني في الأرض، وقال إسماعيل بن إبراهيم المِصِّيصيُّ: رأيتُ الحارث بن عطيَّة في النَّومِ فسألته، فقال: غفر لي؟ قلت: فابن المبارك؟! فقال: بخْ بخْ، ذاك في علِّيِّين ممَّن يَلِجُ على اللهِ في كلِّ يومٍ مرَّتين. /
كَذَاكَ مُحَمَّدُ بِنُ يُوسُفَ فَرْقَدًا                     شُيُوخِ البُخَارِي سَاقِطٌ مَا يُغَيِّمُ
          قال الكلاباذيُّ: محمَّد بن يوسف بن واقد، أبو عبد الله الفريابيُّ: «فِرياب» قرية بالتُّرك، قال: سكن قيساريَّة من الشام، سَمِعَ الثَّوريَّ ومالك بن مِغْوَل...إلى آخره.
          محمَّد بن يوسف [أبو أحمد] البخاريُّ البيكنديُّ: سَمِعَ من ابن عُيَينة وأبي أسامة...إلى آخره.
          وفي (كتاب العلم) مِنَ «البخاريِّ» ما نصُّه: (باب: ما كان صلعم يتخوَّلهم بالموعظةِ والعلمِ؛ كي لا ينفروا): (حدَّثنا محمَّد بن يوسف قال: أخبرنا سفيان عنِ الأعمش...)إلى آخره.
          قال الحافظُ: حيث يطلق محمَّد بن يوسف لا يريد إلَّا الفريابيَّ وإنْ كان يروي عن محمَّد بن يوسف البيكنديِّ أيضًا،
          ومحمَّد بن يوسف الفريابيُّ وإنْ كان يروي عن السُّفيانَينِ؛ فإنَّه حيث يطلق يريد به الثَّوريَّ، قال: وقد رواه الإمام أحمد في «مسنده» عن ابن عيينة، وكَتَبَ عليه العلَّامةُ سيِّدي محمَّد بن الحسن بنانيٌّ ما نصُّه: «يأتي بعد ستَّة أبواب أنَّ المصنِّف أطلقه، وحمله ابن حجر على البيكنديِّ».
          أقولُ: ولا منافاة؛ للقرينة التي صُرِّحَ بها هناك؛ وهي أنَّ الفريابيَّ لَمْ يَروِ عن أبي مُسهِرٍ.
سِمَاكَا سَمَاءٍ ذَاكَ أَعْزَلُ مُطْلِعًا                     لِبَدْرٍ وَذَاكَ رَامِحٌ مَا لَهُ دَمُ
          يريد: أنَّ الفريابيَّ كالسِّماك الأعزل، ليس له علامةٌ، فكان مطلعًا للبدر، والبيكنديُّ له علامةٌ، فكان كالسِّماك الرَّامح.
وَيَعْقُوبُ حَيْثُ لَمْ يُعَقَّبْ بِواسِمٍ                     فَقيِلَ ابْنُ كَاسِبٍ وَبَالضُّعْفِ يُوسَمُ
وَذَلِكَ تَدْلِيسٌ خَفيِفٌ وَقَائِلٌ                     هُوَ الدَّوْرَقِي كَمَا بِذَلِكَ يُرْسَمُ
          قال الكلاباذيُّ: (يَعْقُوبُ): غير منسوبٌ، وهو ابن حُمَيد بن كاسب، أبو يوسف المدنيُّ، سكن مكَّة، سَمِعَ إبراهيم بن سعدٍ... إلى آخره.
          وقال البخاريُّ وقيل له: يعقوب بن كاسب، ما قولكَ فيه؟ قال: لَمْ نرَ إلَّا خيرًا، هو في الأصل صدوقٌ.
          أقول: وكأنَّه لتضعيف أبي حاتم وغيرِه لَمْ ينسبه المصنِّف.
          ويعقوب بن إبراهيم بن كثير، أبو يوسف الدَّورَقيُّ، و(دَوْرَق) قلانسُ كانوا يلبسونها، فنُسِبوا إليها، وهو أخو أحمد بن إبراهيم الدَّورقيِّ البصريِّ، سَمِعَ هُشَيمًا...إلى آخره، هو العَبديُّ القيسيُّ، مولى عبدِ القيس، الحافظُ المتقنُ، صاحب المسنَد، روى النَّسائيُّ عنه في «سننه» حديثًا، وقال عقِبَه: إنَّه لَمْ يكنْ يُحدِّثُ إلَّا بدينارٍ. /
فَتَرْكُ عَلَامَاتٍ لَهُمْ مِنْ عَلَامَةٍ                     كَجِيمٍ وَحَاءٍ وَالْعَلَامَاتُ تُعْلَمُ
          معناه: ظاهرٌ لكلِّ ناظر، فكان ختامًا للمتَّفِق والمفتَرِق؛ لجريانه فيه كلِّه.