مشارق الأنوار النبوية من صحاح الأخبار المصطفية

المقدمة

          ♫(1)
          الحمد لله مُحْيي الرِّممِ، ومُجْري القلَمِ، وذارئ الأُمم، وبارئ النَّسَم، ليعبدُوه ولا يشركُوا به(2)، فارِجِ الأَتْراح، وفَالقِ الإِصْباح، وخالقِ الأَرْواح، وباعثِ الأَشْباح في حَنَادِسِ الحشر وعَكُوبه، مُريحِ الرِّياح، ومُفِيحِ الرَّياح(3)، ومُبِيحِ المُبَاح، ومُزِيحِ الجُناحِ، لِيَحْتموه وينتهُوا عن ركُوبه، مُدْني السَّحيق، ومُغْني المُضيق، ومُزجي الغَدِيق، ومُنْجي الغَرِيق، ليشكرهُ في إسآدِهِ وسُرُوبهِ، جزيلِ الثَّواب، كريمِ المآبِ، سريعِ الحسابِ، شديدِ العقابِ، ليزدَجر المجرمُ عن حوبهِ.
          وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، غافرُ الذُّنوب، وساترُ العيوب، وكاشفُ الكروب، ومُصرِّف القلوب، لِيَكُفَّ من انتحلَ علم غُيوبه.
          وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسولُه، فصيحُ اللِّسان، صحيحُ البيانِ، حَدِيدُ الجَنَان، سَدِيدُ الطِّعَان إلى مَنْ شَبَّ نيرَانَ حُرُوبه، صلى الله عليه وعلى أُسْرته الأَطْهار، وصحابتهِ الكِرَام الأَبرارِ، / ما طلعَ الشَّرقُ، ولمَعَ البرقُ، ورُقِعَ الخَرقُ، وجَمَعَ الخِرْق، مَا أَفاض تَهْتَانُ سُيُوبهِ.
          قال الملتجئُ إلى حرمِ الله تعالى الحسنُ بنُ محمدِ بنِ الحسنِ الصَّغَاني، نبَّهه الله تعالى للخطرِ العظيمِ قبل أن يُضَعْضِعَ الموتُ أركانَهُ، وحَدَاهُ على أن يَعمُر رَبْعَ الورعِ ويشيِّد بُنْيانَه، وأباحَهُ باحَةَ سَبُوحَةَ، وأَتاحَ بها غَبُوقَهُ وصَبُوحَه، وأماتَهُ بها حميدًا فأَقْبرَهُ، ثمَّ إذا شاءَ منها أَنْشرهُ، أما بعد:
          فإنِّي مذْ تدرَّجْتُ مَرَاقي الشَّرف، وتحرَّجتُ من مَسَاقِي السَّرف، عَطَوْتُ بشَتَاتِرِ(4) العزمِ على أعرافِ المجدِ بزَابَجَها، وطِرتُ بعُباب الحَزْم في حوضِ بحارِ الحديثِ ورُكُوب ثَبَجِها، لِعلْمِي أنَّ من تسنَّمَ قُنَنَ المَعَالي استَرْذلَ مَن لاذَ بحَضِيْضِها، ومن اعتَلى ذُرَى المَنَاقب السَّنِيَّة، أذعنَتْ لهُ الأُمَمُ قَضَّها بقَضيْضِهَا، ومَن افتَتَح قِلاعَ صِحَاح الحديثِ وحُصُونها دَاخَتْ له شَوَاردُها، ومنْ عَادَى بينَ ثَوابتِ الخبرِ والأثَرِ عِدَاءً تَقيَّدَتْ لهُ أوابدُهَا، ومَن صَرَّد شِرْبَه وشَرَّدَ نومَه قادَ حزبَهُ وسَادَ قومَهُ.
          وهذهِ رِبَاعُ الحَديثِ مُمْحِلَةً مُعَطَّلَة، ومَن أَحيَا أرضًا مَيْتةً فهيَ لَه، وكأنِّي إذا جَعَلْتُها طَرِيقي وعَزَّزْتُ على المُصَاحبةِ إليها رَفِيقي، ووجَدْتُ / مُرَادَها مَعَادَ الذِّئابِ العَادِيةِ، وصَحَاصِحَهَا أماكنَ مُتَعاديَة، تتجاوبُ الأصدَاء في أرْجَائها، وتَتنَاوبُ العَوَافي إلى مائها، وتخطبُ على مَنَابرِها الأَبْوَامُ، بعدَ مَا هَدَرَتْ بها شَقَاشقُ الأقوامِ، قد ألحمَتِ(5) الجنَائبُ ما أَسْدَت بهَا الشَّمائل، وامتَدَّت إليها أَيدي الأَسْحَار والأَصَائل، عَلاني البُكَاءُ وعَرَانِي النَّحِيبُ، إذ ليسَ بها دَاعٍ ولا مُجِيْبٌ.
وُقُوفًا بهَا صَحْبِي علَيَّ مَطِيَّهُم                     يَقُولونَ لا تَهْلِكْ أَسىً وتجَمَّلِ
وإنَّ شِفَائي عَبْرَةٌ مُهْراقةٌ                     فهَلْ عنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِن مُعَوَّلِ
          ولَعَمْري إن هذه لمخَائِلُ انقِضَاض جُدْرَانهِ، وانقِيَاضِ حيْطَانهِ، وانطِمَاسِ هذا الأثرِ الدَّالِ على العَين، وانبعَاجِ كَظَائم سُخَنِ العَين، وكأَنْ قد يُستَناخُ بعَرْصَتِها ولا مُنِيخَ، ويُنْشَدُ بعَقْوَتِها ولا مُصِيخَ، عَفَتِ الدِّيارُ مَحلَّهَا فمُقَامُهَا، اللَّهمَّ إلاَّ قُمامُهَا فهَامُها(6).
          وإنَّ عصرَنا هذا _واللهُ المُستَعانُ عليه، والمُشْتَكى من أَهْله إليهِ_ نِحريرُهُم في الحديثِ مَنْ حَفِظَ كتابَ القُضَاعِي أو كتَبَهُ، ونِقابُهُم مَنِ اختَصَر «النَّجمَ» وانتَخَبَهُ، فإن انضَمَّ إليهمَا «الخُطَبُ الأربعونَ» الَّتي زيَّفَها النُّقادُ أجمعون، فذلك أمثَلُهم طريقةً وأعلَمُهم في الحقيقةِ، فإن اشرأبَّتْ همَّتُه / إلى (خُطْبِة الوَدَاعِ) تَسمَّى بالواعظِ النَّاصحِ، وتلقَّبَ بالدَّاعِ الوَاعِ، قد خَبَطوا خَبْط عَشوَاء، وحُمِلوا على يابسِ السِّيْسَاء، ولولا تخلِّي الغاب من أُسامَةَ أبي الشِّبلين، لما ضَبَحَ به ثُعَالةُ أبو الحُصَين، ارتَدَى برداءِ الرَّدَى من كان ينضَحُ عن حمَى الحديثِ، وابتُليَ ببلاءِ البلى من كان يَغِيثُ أهلِيْهِ أو يُغِيثُ.
جَرَت الرَّياحُ على مَكانِ ديَارهم                     فَكَأنَّهم كانُوا علَى مِيْعَاد
          وهذه بثَّةُ مَضْرُورٍ، ونَفْثَةُ مَصْدُورٍ، ولما توَّجني اللهُ تعالى، ودوَّجَني بـتاجِ «مصباح الدُّجى من صحاح حديث المصطفى»، ودُوَّاج «الشَّمس المنيرة من الصِّحاح المأثورة» وانثَالَ النَّاسُ إلى الاشتغَالِ بهما جدًا لا هوادةَ فيه، واستيضَاحِ كلِّ حديثٍ منهما واستكشافِ مَعانيهِ، رأيتُ أنَّ اتْبَاعَ الحسنةِ الحسنَةَ، وإجْرارَ حصَان الخَير رسَنَهُ في العُمر الَّذي سَنَةٌ منه سِنَه(7)، أَحْصَنُ ما انصَرفَتْ إليه أعنَّةُ الهِمَم الشَّوَارع العَوَالي، وأحسَنُ ما انحرَفَتْ إليه أَسِنَّةُ الصَّمَمِ الشَّوَارعُ والعَوالي، فمَزَجْتُ البَحْرَين يلتقيَان، وغُصْتُ علَى مَا فيهمَا منَ الدُّررِ والعِقْيَانِ، وضَمَمْتُ إلى ما فيهمَا ما صَحَّ من كتابي: «الشِّهَاب» و«النَّجْم» لتجتَمعَ الصِّحَاحُ في كتابٍ خفيفِ الحجمِ.
          وهذا الكتابُ حَجَّةٌ بيني وبينَ الله تعالى في الصِّحَّة والرَّصَانةِ والإتقانِ والمتَانةِ، وهو أنيْسِي / مُدَّة حيَاتي في الدُّنيا، وشَفِيعي المُشفَّعُ إنْ شاءَ اللهُ في العُقْبى، وكَفَى باللهِ _الَّذي هو عَاضدُ مَن وَضَعَ لتَعَالي جَدِّه صَفِيحةَ خدِّه، وعاضِدُ من وَضَعَ لتَعْسِ جَدِّه في تعدِّي حدِّهِ_ عالمًا بما عانيتُ في تأليفهِ وترتيبهِ، وقاسيْتُ في تصنيفهِ وتهذيبهِ، وسمَّيتُه:
          «مَشَارقُ الأَنوارِ النَّبويَّةِ مِن صحَاحِ الأَخبارِ المُصْطَفيَّة(8)»
          فعلامةُ (الخاء) لكتاب أبي عبد الله محمدِ بنِ إسماعيل البُخاري، برَّدَ الله مَضْجعهُ.
          وعلامةُ (الميم) لكتاب أبي الحسين مسلمِ بنِ الحجَّاج النِّيسابُوري، طيَّب اللهُ مَهْجعهُ.
          وعلامة (القاف) لما اتَّفقا عليه، واستبقا في التَّصحيحِ إليه.
          وما يعقلُ شرفَ هذا الكتابِ وقدرَهُ إلاَّ ذو بَصَارةٍ وبصيرَةٍ من العالمين، والحمدُ الكثيرُ الطَّيبُ المباركُ فيه لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ الزَّاكيةُ النَّامِيةُ على سيِّد الأنبياءِ والمُرسلين، وعلى صَحَابتهِ الثِّقاتِ وأُسرتهِ الأَثْباتِ الطَّاهِرين.


[1] زاد في (ف): «رب أعن»، وزاد في (ر) «رب تمم بالخير وبه نستعين»، وزاد في (ل): «وما توفيقي إلا بالله».
[2] زاد في (ف): «شيئا».
[3] قوله: «ومفيح الرياح» ليس في (ف).
[4] في (ر) و(ل): «بشناتر»
[5] قوله: «قد ألمحت» غير واضح في (ف) بتأثير الرطوبة عليه.
[6] في (ل): «وهامها».
[7] في (ل): «سنةٌ».
[8] في (ر): «المصطفوية»