مصابيح الجامع الصحيح

كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

          ░░1▒▒ قوله: (بَابٌ) يجوزُ فيه وفي نظائرِه ثلاثةُ أوجهٍ:
          أحدُهَا: (باب) على سبيل التَّعداد للأَبواب بصورة الوقفِ، فلا إعرابَ له.
          الثَّاني: رفعُه بلا تنوينٍ، وما بعدَه مضافٌ، ولا يُقال: كيف لا يُضاف؟ لأنا نقول: الإضافةُ إلى الجملة، كلا إضافة، وهو خبرُ مبتدأ محذوفٍ، ويجوز تنوينه، ووقعَ في بعضِ النُّسخِ بحذف (باب).
          قوله: (بَدْوُ) عياض: (رُوِيَ بالهمز مع سكون الدَّال، مِنَ الابتداء، وبغير همزٍ مع ضمِّ الدَّال وتشديد الواو مِنَ الظُّهور).
          قلت: ولَم أَرَه مضبوطًا في غيره مِنَ الرِّوايات الَّتي اتَّصلت بها، إلَّا أنَّه وقع في بعضها: (كيف كان ابتداءُ الوحي) فهذا يرجِّح الأوَّل، وهو الَّذي سمعناه مِن أفواهِ المشايخِ؛ قالَهُ شيخُنا.
          قوله: (كَيْفَ كَانَ) قال ابن عطيَّة: إنَّ البخاريَّ لم يستفهم، انتهى.
          قال أبو حيَّان: هو استفهامٌ محضٌ، إمَّا على سبيل الحكايةِ؛ كأنَّ سائلًا سأل، فقال: كيف كان بدء الوحي؟ وإمَّا إن يكون مِن قوله هو؛ كأنَّه سألَ نفسه: كيف كان بدء الوحي، فأجاب بالحديث الَّذي فيه كيفيَّة ذلك.
          فائدة: بدأ البخاريُّ بقولِه: (كيف كان بِدْءُ الوحي؟) ولم يقل: (كِتَابُ الوحي) ولا (كتابُ بِدْءِ الوحي)؛ لأنَّ بدء الوحي مِن بعض ما يشتمِل عليه الوحي؛ قاله البُلقينيُّ.
          قال شيخنا: (ويظهر لي أنَّه إنَّما عرَّاه من «باب»؛ لأنَّ كلَّ بابٍ يأتي بعده ينقسم منه، فهو أمُّ الأبواب، فلا يكون قسمًا لها.
          قال البلقينيُّ: وقدَّمه لأنَّه منبعُ الخيرات، وبه قامت الشرائعُ وجاءت الرِّسالات، ومنه عُرِفَ الإيمانُ والعلومُ، وكان أوَّله إلى النبيِّ ◙ بما يقتضي [الإيمان]؛ مِن القراءة والربوبيَّة وخلق الإنسان، فذكر بعده كتابَ الإيمان، وكتابُ الإيمان أشرف العلوم، فعقَّبه بكتاب العلم...) إلى آخر كلامه.
          وسأقطع كلامه على أماكنه في تعليقي هذا.
          إشارة: رواية أبي ذرٍّ والأصيليِّ بغير ذكر (باب).
          فائدة: إنَّما لم يبدأ البخاريُّ بالحمدلة؛ لأنَّ حديثَها ليس بشرطه، أو أنَّه حَمِد بلسانه، أو أنَّه منسوخٌ بحديث الحديبية، والنَّسخ بعيدٌ، وعنه أخبر به آخر.
          وإيراده حديث: «إنَّما الأعمال بالنِّيَّات» قائمٌ مَقَامَ الخطبة، فإنَّ عمر ╩ خطب به.
          قوله: (وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى) قال الكرمانيُّ: (هو مجرورٌ عطفًا على محلِّ الجملة التي هي «كيف كان بدوُّ الوحي» ومرفوعٌ عطفًا على لفظ: «البدوِّ»).
          وقال النَّووي: (مجرورٌ أو مرفوعٌ(1)، معطوفٌ على: «كيف»).
          أقول: ليس هو مجرورًا أو مرفوعًا معطوفًا على (كيف)؛ إذ لا صحَّة له لفظًا ولا معنى؛ أمَّا لفظًا؛ فلأنَّ (كيف) منصوب بأنَّه خبر (كان)، وأمَّا معنًى؛ فلأنَّ التَّقدير حينئذ: (وقول الله كان بدء الوحي) وهو فاسدٌ.
          وعبارة عياض (يجوز الرَّفعُ على الابتداءِ، والكسرُ عطفًا على «كيف»، وهي في موضعِ خفضٍ؛ كأنَّه قال: باب كيف كذا، و «باب قول الله» أو الحجَّة بقول الله تعالى، ولا يصحُّ أن يُحمَل على الكيفيَّة؛ لقول الله تعالى، إذ لا يُكيَّف كلامه تعالى).
          شيخنا: (هو بالرَّفع على حذفِ الباب عطفًا على الجملةِ؛ لأنَّها في محلِّ رفعٍ، وكذا على تَنْوين «باب»، وبالجرِّ عطفًا على «كيف»، وإثبات «باب» بغير تَنْوين، التَّقدير: «باب مَعْنى قولِ الله كذا» أو «الاحتجاج بقولِ الله كذا»، ولا يصحُّ تَقْدير: «كيفيَّة قول الله»؛ لأنَّ كلامَ الله لا يُكيَّف؛ قاله عياض، ويجوز رفع «وقول الله» على القَطْع)، انتهى، وتقدَّم كلامُ عياض.
          فائدة: إنما ذكر (نُوحًا) ولم يذكر (آدم)؛ لأنَّه أوَّل مُشَرِّعٍ عند بعضِ العلماء، أو لأنَّه أوَّل نبيٍّ عُوقِب قومُه، فخصَّصه به تهديدًا لقوم النبيِّ ◙، واسمه عبد الغفَّار، و(نوح): أعجميٌّ، والمشهور: صرفه، وقيل: يَسْكن أو يَشْكر، ولُقِّبَ نوحًا؛ لكثرة نَوحِه، انتهى، وأخوه (صابئ) إليه يُنسَب دين الصَّابئة، ووالده لامك أوَّل من اتَّخذ العود واتَّخذ مصانع الماء.
          فائدة: لمَّا كانَ كتابُ «البخاريِّ» معقودًا على أخبار الرَّسولِ ◙؛ طلب تصديرَه بأوَّل شأن الرِّسالةِ والوحي، ولم يُرَد أن يُقدِّم عليه شيئًا ولهذا لم يقدم على خطه، ولمَّا كان الوحي لبيان الأعمال الشَّرعيَّة؛ صدَّره بحديث: «إنَّما الأعمال بالنِّيَّات».
          فائدة: (قال الأصفهانيُّ: لو قال: «كيف كان الوحي وبدؤه»؛ لكان أحسن؛ لأنَّه تعرَّض فيه لبيان كيفيَّة الوحي، لا لبيانِ كيفيَّة بدء الوحي، وكان ينبغي أن لا يقدِّم عليه بعد التَّرجمة غيره؛ ليكون أقربَ إلى الحسن، وكذا حديث ابن عبَّاس لا يدلُّ على بِدء الوحي، ولا تعرَّض له، غير أنَّه لم يقصد بهذه التَّرجمة تحسين العبارة، وإنَّما مقصوده فهم السَّامع والقارئ إذا قرأ الحديث؛ عَلِم مقصوده من التَّرجمة فلم يشتغل بها تعويلًا منه على فهم القارئ).
          ومعرفة سببه، بهذا الشَّأن مشهورة، وقد قال شيخ الإسلام سراج الدِّين ابن الملقِّن، كما رأيته بخطِّه ضمن إذنه له بالفتوى والتدريس ما لفظه: حافظ أوانه ومحدِّث زمانه.
          كرماني: (أقول: ليس قوله: «لكان أحسن» مسلَّمًا؛ لأنَّا لا نسلِّم أنَّه ليس بيانًا لكيفيَّة بدء الوحي؛ إذ يُعْلم ما في الباب أنَّ الوحي كان ابتداؤه في حال النَّوم، ثمَّ في حالِ الخلوةِ بغار حِراء على الكيفيَّة المذكورة من الغطِّ ونحوِه، ثمَّ ما فرَّ عنه لازمٌ عليه على هذا التَّقريب أيضًا؛ إذ «البدء» عُطِف على «الوحي» كما قرَّره، فيصحُّ أن يُقال: ذلك إيرادًا عليه أيضًا، وليس قوله: «كان ينبغي» أيضًا مسلَّمًا؛ إذ هو بمنزلة الخُطْبة وقصد التَّقرُّب؛ كما قال هو بنفسه، / والسَّلف كانوا يستحبُّون افتتاح كلامِهم بحديث النِّيَّة؛ بيانًا لإخلاصهم فيه.
          وليس قوله: «وكذا حديث ابن عبَّاس» مسلَّمًا؛ إذ فيه بيان حال الرَّسول صلعم عند ابتداء نزول الوحي، أو عند ظهور الوحي، والمراد مِن حال ابتداء الوحي: حاله مع كلِّ ما يتعلَّق بشأنه أيَّ تعلُّقٍ كان؛ كما في التَّعلُّق الَّذي للحديث الهرقليِّ، وهو أنَّ هذه القصَّة وقعت في أحوالِ البعثةِ ومبادئها).
          إشارة: (اعتُرِضَ على البخاريِّ في إدخالِه حديثَ الأعمالِ في ترجمةِ بدء الوحي، فإنَّه لا تعلُّق له به أصلًا، بحيث إنَّ الخطَّابيَّ في «شرح البخاري» والإسماعيليَّ في «المستخرج» أخرجاه قبل التَّرجمة؛ لاعتقادهما أنَّه إنَّما أورده للتَّبرُّك به فقط، واستصوب ابن منده صنيع الإسماعيليِّ في ذلك.
          وقال ابن رُشَيد: «لم يقصدِ البخاريُّ بإيرادِه سوى بيانُ حسن نيَّته لله في هذا التَّأليف، وقد تكلَّفت مناسبته للتَّرجمة، فقال: كلٌّ بحسب ما ظهر له»، انتهى.
          وقيل: إنَّه أراد أن يقيمه مقام الخطبة للكتاب، لأنَّ في سياقه أنَّ عمر قاله على المنبر بمحضر الصَّحابة، فإذا صلح أن يكون في خُطبةِ المنبر؛ صلح أن يكون في خُطبة الكتاب.
          وحكى المهلَّب: «أنَّ الشَّارع خطب به حين قَدِم المدينة مُهاجرًا، فناسب إيراده هنا؛ لأنَّ الأحوالَ الَّتي كانت قبل الهجرة كانت كالمقدِّمة لها؛ لأنَّه إنَّما بالهجرة افتُتِح الإذن في قتال المشركين، ويعقبه النَّصر والظَّفر والفتح»، انتهى.
          وهذا وجهٌ حسنٌ، إلَّا أنَّني لم أرَ ما ذكره، وأنَّه ◙ خطب به أوَّل ما هاجر مقبولًا.
          وقد وقع في «البخاريِّ» في (كتاب الحيل) بلفظ: سمعتُ النَّبيَّ ◙ يقول: «يا أيُّها النَّاس إنَّما الأعمال» [خ¦6953] ففي هذا إيماءٌ إلى أنَّه كان في حال الخطبة)؛ قاله شيخنا.
          أقول: ولا يلزم مِن عدمِ رؤيته عدم وقوعه.
          قال شيخنا: (أمَّا كونه كان في ابتداءِ قدومه إلى المدينة، فلم أرَ ما يدلُّ عليه، ولعلَّ قائله استند إلى ما رُوِيَ في قصَّة مهاجِر أمِّ قيس.
          قال ابن دقيق العيد: «نقلوا أنَّ رجلًا هاجر مِن مكَّة إلى المدينة لا يُريد بذلك فضيلةَ الهجرة، وإنَّما هاجر ليتزوَّج امرأةً تُسمَّى أمَّ قيس، فلهذا خُصَّ في الحديث ذكر المرأةِ دون سائرِ ما يُنوَى به»، انتهى.
          وهذا لو صحَّ؛ لم يَسْتلزم البداءة بذكره أوَّل الهجرة، وقصَّة المهاجر رواها سعيدُ بنُ منصورٍ، ورواها الطَّبرانيُّ، والإسناد صحيحٌ على شرط مسلمٍ والبخاريِّ، ولكن ليس فيه أنَّ حديث الأعمال سِيْقَ بسبب ذلك، ولم أرَ أنَّه في شيءٍ مِن الطُّرق ما يقتضي التَّصريح بذلك، وأيضًا فلو أرادَ البخاريُّ إقامته مقام الخُطبة فقط، أو الابتداء به تيمُّنًا وترغيبًا في الإخلاص؛ لكان ساقه قبل التَّرجمة، كما قال الإسماعيليُّ وغيره.
          ونقل ابن بطَّال عن أبي الفخار قال: «التَّبويب يتعلَّق بالآيةِ والحديثِ معًا؛ لأنَّ الله أوحى إلى الأنبياءِ ثمَّ إلى محمَّدٍ أنَّ الأعمال بالنِّيَّات؛ لقوله: {وَمَا أُمِرُوا}؛ الآية [البيِّنة:5]»، وقال أبو العالية في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ}؛ الآية [الشُّورى:13]؛ قال: «وصَّاهم بالإخلاص في عبادته».
          وعن أبي عبد الملك البُوني قال: مناسبةُ الحديث للتَّرجمة فذكر ما نذكر عن النَّوويِّ.
          وقال المهلَّب ما محصِّله: قصدَ البخاريُّ الإخبار عن حال الشَّارع في منشأه، وأنَّ الله بغَّض له الأوثانَ وحبَّب له خلال الخير ولزومِ الوحدة؛ فرارًا مِن قرناءِ السُّوء، فلمَّا التزمَ ذلك؛ أعطاه الله على قدرِ نيَّته، ووهب له النُّبوَّة، كما يُقال: «الفواتح عنوان الخواتم» ولخَّصه بنحو مِن هذا ابن العربيِّ).
          وأمَّا مناسبة الآيةِ للتَّرجمة واضحٌ، مِن جهة أنَّ صفة الوحي إلى نبيِّنا تُوافق صفةَ الوحي الَّذي تقدَّمه مِن النَّبيِّين ‰، ومِن جهة أنَّ أحوال النَّبيِّين في الوحي الرُّؤيا، كما رواه أبو نعيم في «الدَّلائل» بإسنادٍ حسن عن علقمة بن قيس صاحب ابن مسعود، قال: أوَّل ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتَّى تهدأ قلوبهم، ثمَّ ينزل الوحي بعدُ في اليقظةِ.
          والمرادُ مِن الباب بجملتِه بيانُ كيفيَّة بدء الوحي لا من كلِّ حديث منه، فلو عُلِم مِن مجموع مَا في الباب كيفيَّة بدء الوحي مِن كلِّ حديث شيء ممَّا يتعلَّق به؛ لصحَّت التَّرجمة، والله تعالى أعلم.
          فائدة: قال النَّوويُّ: (مناسبة الحديث للتَّرجمة أنَّ بدء الوحي كان بالنِّيَّة؛ لأنَّ الله تعالى فَطَر محمَّدًا صلعم على التَّوحيد وبغض الأوثان، ووهب له أوَّل أسباب النُّبوَّة؛ وهي الرُّؤيا الصَّالحة، فلمَّا رأى ذلك؛ أخلصَ إلى الله في ذلك، فكان يتعبَّد بغار حِراء، فَقَبِلَ الله تعالى عَمَله وأتمَّ له النِّعمة).
          وذكر ابن المنيِّر فيه شيئًا ذكره والدي ⌂.
          فائدة: تراجم ابن المنيِّر لخَّصها بدر الدِّين بن جماعة، وزاد عليهَا أشياء، وتكلَّم على التَّراجم أيضًا محمَّد بن منصور التَّلمسانيُّ(2) على نحو مئة ترجمةٍ، وسمَّاه: «أغراض البخاريِّ المبهمة في الجمع بين الحديث والتَّرجمة» وتكلَّم على ذلك أيضًا زين الدِّين علي بن المنير أخو ناصر الدِّين المذكور، وأبو عبد الله بن رُشيد له كتاب سمَّاه «ترجمان التَّراجم» وصل فيه إلى (كتاب الصِّيام).
          خاتمة:
          سبب نزولِ هذه الآية قول سفيان بن عدي بن زيد: يا محمَّد ما نعلم أنَّ الله أنزل على بشرٍ مِن شيء بعد موسى؛ فأنزل الله تعالى: {قَالُوا حَسْبُنَا} الآية [المائدة:104].


[1] في الأصل: (ومرفوع).
[2] في الأصل(السجلماسي).