المعلم بشيوخ البخاري ومسلم

باب في ذكر إمامة محمد بن إسماعيل البخاري

          [♫]
          محمَّد بن إسماعيل البُخاريُّ ثقةٌ مأمونٌ.
          حدَّثنا أبو العبَّاس العذريُّ عن محمَّد بن أبي حاتم الورَّاق، سمعت عليَّ بن حُجْرٍ قال: أخرجتْ خراسانُ ثلاثةً: أبا زُرْعة الرازيَّ بالرَّيِّ، ومحمَّدَ بنَ إسماعيلَ البُخاريَّ ببُخَارى، وعبدَ الله بنَ عبدِ الرحمن السمرقنديَّ بسمرقَندَ، ومحمَّد بنُ إسماعيلَ عندي أبصرُهم وأعلمُهم وأفقهُهم.
          وروى عبدُ الله بنُ أحمد ابن حنبل عن أبيه قال: انتهى الحفظُ إلى أربعةٍ من أهل خراسان؛ أبو زُرعةَ الرازيُّ، ومحمَّدُ بنُ إسماعيلَ البُخاريُّ، وعبدُ الله بن عبد الرحمن السَّمَرقنديُّ، والحسنُ بن شجاع البلخيُّ.
          ورُوِيَ عن بُنْدَارٍ محمَّد بن بشَّار أنَّه قال: حُفَّاظ الدنيا أربعة: أبو زُرعة _يعني: الرَّازيَّ_ بالرَّيِّ، ومسلم بن الحجَّاج بنِيسابور(1)، وعبد الله بن عبد الرحمن الدَّارِميُّ بسمَرقَندَ، ومحمَّد بن إسماعيلَ البُخاريُّ ببُخارى.
          ورُوِيَ عن نُعيم بن حمَّادٍ المَروزيِّ ويعقوبَ بنِ إبراهيم الدَّورَقيِّ: أنَّهما قالا: محمَّد بن إسماعيلَ فقيهُ هذه الأمَّة.
          ورُوِيَ عن عبدانَ بنِ عثمانَ أنَّه قال: ما رأيتُ بعينيَّ شابًّا أبصرَ مِن هذا، وأشار إلى محمَّد بن إسماعيل.
          وقال محمَّد بن أبي حاتم: سمعتُ يحيى بن جعفر يقول: لو قدرتُ أن أزيدَ في عمر محمَّد بن إسماعيل؛ لفعلتُ، فإنَّ موتي يكون موت رجلٍ واحدٍ، وموتُ محمَّد بن إسماعيلَ ذهاب العِلم.
          وقال أبو حاتم محمَّد بن إدريسَ الرازيُّ في سنة سبعٍ وأربعين ومئتين: يقدُم عليكم رجلٌ من أهل خراسان لم يخرج منها أحفظُ منه، ولا قدم العراقَ أعلمُ منه، فقدم بعد ذلك محمَّد بن إسماعيلَ بأشهُرٍ.
          ورُوِيَ عن سليم(2) بن مجاهدٍ قال: كنت عند محمَّد بن سلَام فقال: لو جئتَ قبلُ؛ لرأيتَ صبيًّا يحفظ سبعين ألفَ حديثٍ، قال: فخرجتُ في طلبه حتَّى لقيته فقلت: / أنت الذي تقول: أنا أحفظُ سبعين ألفَ حديثٍ، [قال: نعم وأكثر] منه، ولا أجيئُكَ بحديثٍ عن الصحابة [والتابعين إلَّا عرفتُ مولد] أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولستُ أروي حديثًا من حديث الصحابة والتابعين إلَّا لي في ذلك أصلٌ أحفظُه عن كتاب الله وسُنَّة رسول الله صلعم.
          ورُوِيَ عن أبي حامد أحمد بن حمدون القصَّار أنَّه قال: سمعتُ مسلم بن الحجَّاج وجاء إلى محمَّد بن إسماعيلَ البُخاريِّ فقبَّل بين عينيه وقال: دعني حتى أقبِّل رِجليك يا أستاذ الأستاذين وسيِّد المحدِّثين وطبيب الحديث في عِلَله: حدَّثَك محمَّدُ بن سلَام قال: حدَّثنا مَخْلَدُ بن يزيد الحرَّانيُّ قال: أخبرنا ابن جُرَيج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلعم في كفارة المجلس، فما عِلَّتُهُ؟ قال محمَّد بن إسماعيل: هذا حديثٌ مليحٌ، ولا أعلم في الدنيا غير هذا الحديث الواحد في هذا الباب، إلَّا أنَّه معلولٌ، حدَّثنا به موسى بن إسماعيلَ قال: حدَّثنا وُهَيب قال: حدَّثنا سهيل عن عوف بن عبد الله قولَه، قال محمَّد بن إسماعيل: وهذا أولى، فإنَّه لا يُذكَر لموسى بن عقبة سماعٌ من سُهَيل، فقال له مسلمٌ: لا يبغضك إلَّا حاسدٌ، وأشهد أنَّه ليس في الدنيا مثلك.
          ورُوِيَ عن محمَّد بن أبي حاتم الورَّاق النَّحْوِيِّ قال: قلت لأبي عبد الله محمَّدِ بن إسماعيلَ _يعني: البُخاريَّ_: تحفظ جميع ما أدخلتَ في المصنَّف، قال: لا يخفى عليَّ جميع ما فيه.
          ورُوِيَ عن البُخاريِّ أنَّه قال: أحفظ مئة ألفِ حديثٍ صحيحٍ، وأحفظ مئتي ألف حديثٍ غيرِ صحيح.
          ورُوِيَ عنه أنَّه قال: أخرجت هذا الكتاب _يعني: «الجامع الصحيح»_ مِن زهاء ستِّ مئة ألفِ حديثٍ، وحدَّثني الشيخ الحافظ أبو / بكر الفهريُّ ☼ فيما كتب إليَّ قال: حدَّثنا أبو بَحْر الأسديُّ قال: حدَّثنا أبو العبَّاس العذريُّ قال: حدَّثنا أبو العبَّاس الرازيُّ قال: حدَّثنا أبو أحمد بن عَدِيٍّ قال: وسمعت عبد القُدُّوس بن همَّام يقول: وسمعت عدَّة مشايخ يحكون: أنَّ محمَّد بن إسماعيلَ البُخاريَّ ☼ قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا، وعمدوا إلى مئة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متنَ هذا الإسناد لإسنادٍ آخرَ، وإسنادَ هذه المتن لمتن آخرَ، ودفعوا إلى عشرة أنفسٍ؛ لكلِّ(3) رجلٍ منهم عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس؛ أن يلقوا(4) ذاك على البُخاريِّ، فأخذوا الموعد للمجلس، فحضر المجلسَ جماعةٌ مِن أصحاب الحديث مِنَ الغرباء من أهل خراسان وغيرها(5) ومن البغداذيّين، فلمَّا اطمأنَّ المجلس بأهله؛ انتدب إليه رجل من المجلس من العشرة، فسأله عن حديثٍ من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البُخاريُّ: لا أعرفه، فسأله عن آخَرَ فقال: لا أعرفه، ثمَّ سأله عن آخر فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدًا بعد واحدٍ حتَّى فرغ من عَشَرته والبخاريُّ يقول: لا أعرفه، فكان العلماء(6) ممَّن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: الرجل فَهِمٌ، ومَن كان منهم غير ذلك؛ فهو يقضي على البُخاريِّ بالعجز والتقصير وقلَّة الفهم، ثمَّ انتدب رجلٌ آخَرُ من العشرة فسأله عن حديثٍ من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البُخاريُّ: لا أعرفه، وسأله عن آخَرَ فقال: لا أعرفه، وسأله عن آخَرَ فقال: لا أعرفه، فلم يزل يُلقِي عليه واحدًا بعد واحدٍ حتَّى فرغ من عَشرته، والبُخاريُّ يقول: لا أعرفه، ثمَّ انتدب الثالث والرابع... إلى تمام العشرة، حتَّى فرغوا كلُّهم مِن الأحاديث المقلوبة، / والبخاريُّ لا يزيدُهم(7) على: لا أعرفه، فلمَّا عرف البُخاريُّ أنَّهم قد فرغوا التفت إلى الأوَّل منهم فقال: أمَّا حديث الأوَّل؛ فهو كذا، وحديثك الثاني؛ فهو كذا، والثالث والرابع... على الولاء حتَّى أتى على تمام العشرة، فردَّ كلَّ متنٍ إلى إسناده، وكلَّ إسنادٍ إلى متنه، ثمَّ فعل(8) بالآخرين مثل ذلك(9)، وردَّ متونَ الأحاديث كلِّها إلى أسانيدها، وأسانيدَها إلى متونها، فأقرَّ له الناس بالحفظ والعلم، وأذعنوا له بالفضل.
          قال: وكان ابن صاعد ☼ إذا ذكر محمَّدَ بن إسماعيلَ البُخاريَّ ☼؛ يقول: الكبش النَّطَّاح.
          وقال أبو أحمد بن عديٍّ: وسمعت الحسن بن الحسين البزَّاز يقول: سمعت إبراهيم بن مَعْقِل يقول: سمعت محمَّد بن إسماعيلَ البُخاريَّ ☼ يقول: ما أدخلت في هذا الكتاب _يعني: «جامعه الصحيح»_ إلَّا ما صحَّ، وتركت من الصحاح حتَّى لا يطول الكتاب.
          قال محمَّد: البُخاريُّ إمامٌ مِن أئمَّة المتكلِّمين في الحديث وعِلَلِه ورجاله، روى عنه جماعةٌ من أئمَّة الحديث وحفَّاظهم، فممَّن روى عنه: أبو عليٍّ الحسين بن محمَّد بن زياد القبَّانيُّ الحافظ، وأبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزَّار، وأبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن عليٍّ النَّسويّ، وأبو عيسى محمَّد بن عيسى السلميُّ التِّرمذيُّ، وأبو العبَّاس محمَّد بن إسحاقَ بن إبراهيمَ الثَّقَفيُّ السَّرَّاج، وأبو بكر محمَّد بن إسحاقَ بن خزيمة السلميُّ، وأبو محمَّد عبد الله بن عليِّ بن الجارود النِّيسابوريُّ، وأبو محمَّد يحيى بن محمَّد بن صاعد البغداذيّ، ((وأبو القاسم جعفر بن محمَّد بن الحسن بن عبد العزيز الجرويُّ))، وأبو عبد الله الحسن بن إسماعيلَ الضَّبِّيُّ البغداذيُّ، وأبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ إسحاقَ الحربيُّ، وأبو بكر محمَّد بن محمَّد بن سليمانَ الباغنديُّ، وأبو محمَّد عبد الله بن محمَّد بن ناجيةَ المُخَرِّمِيُّ، وغيرُهم، رحمة الله عليهم / أجمعين.


[1] كذا ضبطها في الأصل بكسر النون هنا وفي مواضع أخرى، وفي «معجم البلدان» (5/231): (بفتح أوَّله).
[2] في الأصل: (سليمان).
[3] في هامش الأصل: (إلى كلِّ، ب، صح).
[4] في هامش الأصل: (يلقون، خـ، صح).
[5] في هامش الأصل: (وغيرهم، ب، صح).
[6] في هامش الأصل: (الفقهاء، خـ، صح).
[7] في هامش الأصل: (ب: في الأصل: يزيد، صح).
[8] في هامش الأصل: (وفعل، خـ، صح).
[9] في هامش الأصل: (كذلك، خـ، صح).