الكوكب المنير الساري في ختم صحيح البخاري

تفسير: {واتقو يومًا ترجعون فيه إلى الله}

          ♫
          ورد في الحديث الشريف عن النبي صلعم أنه قال:«إنَّ أحسَنَ الحَديثِ كتابُ اللهِ، وخَيرَ الهَديِ هَديُ مُحمَّدٍ صلعم ، وشَرَّ الأُمورِ مُحدَثاتُها، وكلُّ بِدعَةٍ / ضَلالَةٌ، وكُلُّ ضَلالَةٍ في النَّارِ»(1).
          وقد قال الله تعالى في كتابه المبين في تبيين شأن يوم الدين {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] التقوَى: مأخوذة من الوقاية، وقيل من القوِوَ، وهي هنا بمعنى التحذير هو التخويف، فكأنه قال: اتقوا يومًا، أي: احذروا يومًا ترجعون فيه إلى الله، وقيل: إذا كان بمعنى الوقاية، فمعناه اتخذوا وقاية من العمل الصالح، يقيكم يومًا هوله شديد وعذابه مديد.
          قال شيخنا: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ} ف«يوم» منصوب لأنه مفعول به وليس ظرفًا(2). لأنه لا يفيد التقوى فيه وإنما يفيد التقوى له، وقال السمرقندي: وهذه آخر آية نزلت من القرآن(3).
          و«ترجعون فيه» صفة ليوم، لأن الجملة إذا أتت بعد نكرة محضة تكون صفة لها، ونكرت لتعظيمه أو لتهويله وهو المراد به يوم الآخرة.
          قوله:{تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ} أي:تحشرون فيه إلى الله دون كل أحد، فإن في ذلك اليوم تنقطع العلائق من جميع الخلائق، لأن فيه تحق الحقائق، ولا ينفع فيه صديق ولا رفيق إلا من أتى الله بقلب سليم، أي: سالم من شوائب الدنيا من الرياء والنفاق والشقاق وكل عمل مذموم شرعًا.
          ولما كان هذا اليوم هو يوم واحد في الحقيقة عند الله تعالى، إلا أنه يتعدد بحسب من يقاصص فيه:
          فمنهم من يكون عليه كركعتي الفجر وهم صالحوا هذه الأمة كما بينته السنة(4).
          ومنهم من يكون عليه بقدر عمله(5).
          ومنهم من يكون عليه كخمسين ألف سنة كما هو في القرآن مذكور(6).
          غير أن السنة مصرحة بمن يكون كافرًا كما دلت عليه الآية الشريفة، وأن ذلك اليوم له أسماء كثيرة جمعها بعضهم وأفردها بالتصنيف، كالإمام حجة الإسلام، وكالإمام ابن العربي، و وافقهما على ذلك أحد / الفسرين حجة البارعين شيخ الإسلام والمسلمين شمس الملة والدين المرحوم الشيخ محمد بن الشيخ أحمد بن أبي بكر بن فرج الخزرجي الأندلسي الأنصاري ثم القرطبي وذلك مصرح به في «تذكرته»(7).


[1] أخرجه الآجري في «الشريعة» (85) من حديث أبي هريرة ☺ ، وأخرجه البخاري (7277) من حديث ابن مسعود ☺ إلى قوله «محدثاتها»، وأخرجه مسلم (867) من حديث جابر ☺ إلى قوله «كل بدعة ضلالة».
[2] وأخرجه أحمد في «مسنده» 4/ 212 (17858)، وابن ماجه (4323) من حديث الحارث بن أُقَيش ☺.
[3] «بحر العلوم» 1/209.
[4] تقدير الموقف بركعتي الفجر لم يرد في السنة، ولكن أخرج أحمد في «مسنده»3/75 (11717)، وأبو يعلى في «مسنده» (1390)، وابن حبان في «صحيحه»(7334) من حديث أبي سعيد الخدري ☺ قال: قيل لرسول الله صلعم: يومًا مقداره خمسين ألف سنة ؟ ما أطول هذا اليوم فقال:«والذي نفسي بيده إنه لخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا» وحسن إسناده الحافظ في «الفتح» 11/448.
[5] وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد»7/51، وعزاه للطبراني وقال: وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف.
[6] أراد المؤلف والله أعلم أن مقدار خمسين ألف سنة جعله الله على الكفار فقط كما دلت عليه السنة المطهرة، فقد أخرج أحمد في «مسنده» 3/75 (11714) من حديث أبي سعيد ☺ عن رسول الله صلعم قال: «ينصب للكافر يوم القيامة مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا، وإن الكافر ليرى جهنم يظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة » وقال القاري في «مرقاة المفاتيح» في قوله تعالى:{ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } [المعارج: 4]محمول على تطويل ذلك اليوم على الكفار كما يطوى حتى يصير ساعة بالنسبة إلى الأبرار. وقال القرطبي: قال ابن عباس: هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ثم يدخلون النار للاستقرار. وقال القسطلاني في «المواهب اللدنية» 3/636: دلت الأحاديث على أنه مخصوص بالبض وهو الأكثر ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله، فأشدهم الكفار ثم أصحاب الكبائر ثم من بعدهم.
[7] ذكره ابن العربي في «سراج المريدين» انظر «التذكرة» ص 543- 579، ولا ترابط بين كلامه هنا وما الكلام الذي بعده، فلينظر.