ختم صحيح الإمام البخاري

الكلام على الآية من جهة علم المنطق

          السابع: علم المنطق:
          في هذه الآية قضايا أربع، جمع قضيَّة، وهي عندهم ما كان من المركَّبات الإسناديَّة محتملًا للصدق والكذب، بالنظر إلى ذاته؛ أي: مدلوله المطابق، بقطع النظر عن المخبِر _بالكسر_ أو المخبَر به _بالفتح_ أو الواقع.
          القضيَّة الأولى: قوله: {ونضع الموازين}: وهي حمليَّة، والحمليَّة عندهم: ما تركَّب من مفردين أو ما في قوَّتهما، شخصيَّة إن قلنا: إنَّه ميزان واحد معيَّن لجميع الخلق؛ لكونه حكم فيها على فرد معيَّن، أو كلِّيَّة إن قلنا بتعدُّد الموازين، / وأنَّ كلَّ فرد من أفراد المحاسبين له ميزان يخصُّه؛ لكون الحكم فيها على كلِّ فرد استقلالًا، موجبة؛ لكونها ليس فيها أداة سلب، مسوَّرة بسور الإيجاب الكلِّيِّ على اعتبار التعدُّد للموازين، وهو «أل» الاستغراقيَّة، محصِّلة؛ وهي التي لا تكون أداة السلب جزءَ الشيء من طرفيها؛ لكونها ليس فيها أداة سلب أصلًا، خارجيَّة؛ وهي التي قصد بموضوعها الأفراد الموجودة في الخارج؛ لكونها مقصودًا بها الفرد الخارجيُّ، أو الأفراد الخارجيَّة الموجودة الآن، أو التي ستوجد بعد.
          والثانية: {فلا تظلم نفس شيئًا}، وهي حمليَّة، كليَّة؛ لكونه حكم فيها على كلِّ فرد استقلالًا؛ لوقوع النكرة في سياق النفي، وهي كذلك تعمُّ، سالبة؛ لدخول أداة السلب _وهي (لا) _ على محمولها، مسوَّرة بسور السلب الكلِّيِّ، وهو (لا) الداخلة في المعنى على (شيء)؛ لأنَّ المعنى: فلا شيء من الظلم ثابت لنفس من الأنفس، أيَّ نفس كانت، محصِّلة؛ لكونها لم يجعل النفي فيها جزءَ الشيء من طرفيها وإن كانت سالبة، ثمَّ إن أريد بإفراد موضوعها _وهو النفس_ الخارجيَّة فقط؛ فهي خارجيَّة، أو ما يشملها، ويشمل المقدرَّة في الزمن، وهو أبلغ، فهي حقيقيَّة.
          والثالثة: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا}: وهي شرطية؛ لتركُّبها من قضيَّتين ليستا في تأويل مفرد؛ لعدم صحَّة التأويل مع بقاء الربط الذي فيها، موجبة؛ لعدم دخول أداة السلب فيها، متَّصلة؛ للحكم فيها بتعليق حصول مضمون قضيَّة على حصول مضمون أخرى، لزوميَّة؛ لكون الصُّحبة بين طرفيها لموجب؛ أي: لسبب، وهو اتِّصاف الحقِّ تعالى بالعدل.
          والرابعة: {وكفى بنا حاسبين}: وهي حمليَّة، شخصيَّة؛ للحكم فيها على فرد معين؛ وهو الله ╡ ، موجبة، محصِّلة؛ لعدم وجود أداة السلب فيها أصلًا، خارجية؛ لكونها مقصودًا بها الفرد الخارجيُّ؛ وهو الله سبحانه وتعالى.
          ثمَّ لفظ (ميزان)، وكذا (يوم) إذا جرِّد عن الإضافة، و(نفس)، و(شيء)، و(حبَّة)، و(خردلة): من قبيل الكلِّيِّ، وهو الذي تفهم الشركة في معناه؛ أي: لا يمنع نفسُ تصوُّرِ معناه من صدقه على متعدِّد، كإنسان، وأسد، وحيوان، ويقابله الجزئيُّ؛ وهو الذي لا تفهم الشركة في معناه، بأن يمنع نفسُ تصوُّرِ معناه من صدقه على متعدِّد؛ كزيد.
          ومعلوم انقسام الكلِّيِّ إلى خمسة أقسام:
          المتواطئ: وهو الكليُّ الذي تساوت في معناه أفراده الخارجيَّة أو الذهنيَّة، بأن لم يكن بعضها أكثر، ولا أقدم، ولا أولى من بعض فيه، كالإنسان، والشمس. /
          ومشكِّك: وهو الكليُّ الذي تفاوتت في معناه أفراده تفاوتًا بيِّنًا، وهو الذي يتوهَّم رجوعه للحقيقة، وإن كان عند التحقيق راجعًا للعوارض؛ كالبياض، والنور.
          ومشترك: وهو الكلِّيُّ الذي اتَّحد لفظه، وتعدَّد مسمَّاه، بأن وضع لمعنى بخصوصه، ثمَّ لمعنى آخر بخصوصه من غير اعتبار نقله من المعنى الأوَّل إلى المعنى الثاني؛ كعين.
          ومتباين: وهو الكلِّيُّ الذي تعدَّد لفظه، وتعدَّد مسمَّاه؛ كرجل، وفرس، وكتاب.
          ومترادِف: وهو الكلِّيُّ الذي تعدَّد لفظه، واتَّحد مسمَّاه؛ كالبُرِّ، والحنطة، والقمح.
          وهذه الألفاظ الستَّة التي ذكرنا _أعني: لفظ (ميزان) وما بعده في الآية_ بالنظر إلى بعضها بعضًا من قبيل المتباين؛ لتعدُّد ألفاظها ومسمَّاها، وبالنظر إلى لفظ (شيء) بخصوصه و{حبة} كذلك من قبيل المشترك؛ لإطلاق كلِّ واحد منها على معانٍ مختلفة؛ كالكتاب، والدار، والفرس، وغيره، وكالقمح، والشعير، والذرة، ونحوها، وبالنظر إلى لفظ (ميزان)، و(يوم)، و(نفس)، و(خردلة)؛ من قبيل المتواطئ؛ لتساوي أفرادها الخارجيَّة في معناها؛ فتأمَّل.
          ومن الكلِّيِّ الجارية فيه هذه النِّسب الخمس _كما ذكروه_: الفعل، وعليه فأفعال هذه الآية الشريفة كذلك، وهي من قبيل المتواطئ إلَّا {تظلم}؛ فمن قبيل المشكِّك، والله أعلم.