ختم صحيح الإمام البخاري

الكلام على الآية إعرابًا

          العلم الأوَّل منها: علم الإعراب:
          الواو للاستئناف، و{نضع}: مضارع وضع، وفاعله ضمير المتكلِّم المتعاظم، وهو الله ╡ ، و{الموازين}: مفعوله، و{القسط}: مصدر وصف به، وأُفرِد مع أنَّ الموصوف به جمع؛ لأنَّ المصدر إذا وُصِف به يوحَّد، ويذكَّر مطلقًا، وفي الألفيَّة:
ونعتوا بمصدر كثيرا                     فالتزموا الإفراد والتذكيرا
          المراد به ما يشمل رسمه، وهو مع كثرته مقصور على السماع، وصحَّ أن يكون اسم المعنى نعتًا للذات؛ لتأويله عند الكوفيِّين بالمشتقِّ؛ أي: اسم الفاعل، أو اسم المفعول، نحو: هذا رجل عدل؛ أي: عادل، ورضًا؛ أي: مرضيٌّ، وقال البصريُّون: إنَّه على حذف مضاف؛ أي: ذو كذا، أو ذات، أو ذوا، أو ذوو، أو ذوات، ولهذا التزم إفراده وتذكيره، كما يلزمان لو صرَّح بالمضاف، وقيل: لا تأويل، ولا حذف مضاف، بل تجعل الذات نفس المعنى، مبالغةً، مجازًا وادِّعاءً، والتزم إفراده وتذكيره على القول الأوَّل والأخير؛ لأنَّ المصدر من حيث هو مصدر لا يثنَّى، ولا يجمع، ولا يؤنَّث، فأجرَوه على أصله، والله أعلم.
          ويجوز على قلَّة أن يكون قوله: {القسط} مفعولًا من أجله؛ أي: لأجل القسط، وقال الزَّجَّاج: هو على حذف مضاف؛ أي: ذوات القسط، واللام في قوله: {ليوم القيامة}: لام الجرِّ، متعلِّقة بقوله: {نضع}، وما بعدها مجرور بها، و{القيامة}: مضاف إليه.
          ثمَّ اختلف في اللام المذكورة؛ فقال ابن قتيبة: هي للتوقيت، بمعنى في، كما في قولك / جئت لخمسٍ خلون من الشهر؛ أي: في خمس، واختاره ابن مالك، وجرى عليه ابن هشام في «المغني»، وكذا السيوطيُّ في «الإتقان»، وقيل: إنَّها للتعليل على حذف مضاف، والتقدير: لأجل جزاء، أو حساب، أو حكم، أو أمل يوم القيامة، وجرى على ذلك ابن عطيَّة وغيره، وذهب صاحب «الكشَّاف» إلى أنَّها لام الاختصاص، ومعنى المثال المذكور: اختصاص المجيء بذلك الزمن، ومعنى الآية: اختصاص وضع الميزان بيوم القيامة، وقيل: إنَّها بمعنى: (عند).
          وتتمَّة الآية: {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] الفاء: عاطفة، وهي مع ذلك مفيدة للسببيَّة، والمعطوف عليه قوله: {ونضع}، و(لا) نافية، و{تظلم}: مضارع (ظلم)، مبنيٌّ للمجهول، وهو مرفوع بالضمَّة، و{نفس}: نائبه، و{شيئًا}: إمَّا مفعول ثانٍ لـ{تظلم}، إن قلنا: إنَّه بمعنى: تنقص؛ لأنَّ (نقص) يتعدَّى إلى مفعولين، نحو: نقص زيدٌ عمرًا حقَّه، ومنه قوله تعالى: {لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} [التوبة:4]، وإمَّا مفعول مطلق إن أبقيناه على أصله؛ أي: على معناه الأصليِّ، و{إن}: شرطيَّة، و{كان}: فعل ماضٍ في محلِّ جزم بها، فعل الشرط، و{مثقالُ}: فاعل بـ{كان} على قراءة نافع، بالرفع، بناءً على أنَّها تامَّة، أو خبرها، واسمها ضمير مستتر، والتقدير: وإن كان العمل أو الظلم مثقالَ على قراءة غيره بالنصب، بناءً على أنَّها ناقصة، و{حبَّةٍ}: مضاف إليه، و{من خردل}: جارٌّ ومجرور، يتعلَّق بمحذوف صفة، لـ{حبَّة}؛ أي: كائنة، و{أتينا}: جواب الشرط، وهو في محلِّ جزم؛ لكونه اسمًا مبنيًّا لا يظهر فيه إعراب، و(أتى): فعل ماض، وبناؤه على الفتح المقدَّر على الياء، منع من ظهوره اشتغال المحلِّ بالسكون العارض؛ لدفع توالي أربع متحرِّكات فيما هو كالكلمة الواحدة، و(نا): فاعله، و{بها}: متعلِّق بـ(أتى)، وهذه قراءة العامَّة.
          وقُرِئَ: {آتينا بها} بمدِّ الهمزة، فيحتمل أن يكون وزنه (أفعلنا)، من آتى يؤاتي إيتاء، أو (فَاعَلنا)، هي المؤاتاة؛ لأنَّهم أتوه بالأعمال، وأتاهم بالجزاء، ويؤيِّده قوله: {بها}؛ لأنَّ ما هو بوزن (أفعلنا) يتعدَّى إلى مفعوليه بنفسه، قال تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ} [الإسراء:59].
          وقُرِئَ: ▬أثبنا↨ من الإثابة، و▬جئنا↨، والضمير في {بها} لـ(المثقال)، وتأنيثه لإضافته إلى (الحبَّة).
          و{كفى}: فيه قولان: أحدهما أنَّه اسم فعل، والثاني _وهو الصحيح_: أنَّه فعل ماض، وفي فاعله قولان: أحدهما _وهو الصحيح_: أنَّه المجرور بالباء، والباء فيه صلة، أتى بها للتوكيد؛ أي لتوكيد الاتصال؛ لأنَّ الاسم في قوله: {وكفى بنا} متَّصل بالفعل اتِّصال الفاعل، وقيل: أتى بها لتوكيد المعنى؛ أي: معنى الفعل، لتضمُّنه معنى: اكتفِ، قال في «المغني»: وهو من الحسن بمكان، وقيل: زيدت لينزَّل على معنى الأمر؛ إذ التقدير: اكتفِ بنا في حسابنا، وزيادة الباء في فاعل (كفى) جائزة غالبة، ومن غير الغالب قوله:
          كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
          والثاني قول ابن السرَّاج: إنَّ الفاعل ضمير الاكتفاء، والتقدير: كفى الاكتفاء بنا، على هذا في موضع نصب؛ لأنَّه مفعول به في المعنى، فحذف المصدر، وبقي معموله دالًّا عليه، وردَّ بأنَّ إعمال المصدر المحذوف لا يجوز عند البصريِّين إلا ضرورة.
          وقال في «المغني»: إنَّ صحَّة قول ابن السرَّاج هذا موقوفة على جواز تعلُّق الجارِّ بضمير المصدر، وهو قول الفارسيِّ والرُّمَّانيِّ. /
          و{حاسبين}: في نصبه وجهان: أحدهما: أنَّه حال من فاعل كفى، والثاني _وهو الصحيح_: أنَّه تمييز، يدلُّ على ذلك صلاحيَّة دخول (من) عليه، وتقديمه على فاعله هنا ممتنع إجماعًا، وإن كان، فعلامتهم ما قال ابن عقيل، في «شرحه لألفيَّة ابن مالك»: قد يكون العامل متصرِّفًا، ويمتنع تقديم التمييز عليه عند الجميع، وذلك نحو: كفى بزيد رجلًا، فلا يجوز تقديم (رجلًا) على (كفى) وإن كان فعلًا متصرِّفًا؛ لأنَّه بمعنى فعل غير متصرِّف، وهو فعل التعجُّب، فمعنى قولك: (كفى بزيد رجلًا!): ما أكفاه رجلًا! اهـ