ختم صحيح البخاري

في شهر رمضان وفضله

          أنعمَ على هذه الأمة بتمام إحسانه، وجاد عليها بفضله وامتنانه، وجعل شهرها هذا مخصوصًا بعميم غفرانه، { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ }[البقرة:185].
سِوَاهُ فَلا وَالله ما اختَرتُ منظرًا                     يُسِرُّ ولا شيءٌ يُحَبُّ سوى الله
ومَن يكُ غيرَ الله للعبدِ راحمًا                     إذا أعلن الشكوى إليه سوى الله
ومَن يكُ غيرَ الله يُسألُ راجيًا                     ومَن تُرفع الأيدي إليه سوى الله /
ومَن يكُ غيرَ الله للذنب غافرًا                     ومَن غيرُه للمسرفين سوى الله
ومَن يكُ غيرَ الله بدعوةِ جهرةٍ                     وسِرًّا لتكفير الخطايا سوى الله
ومَن يكُ غيرَ الله نهتفُ باسمه                     إذا جاءَ مكروهٌ عظيمٌ سوى الله
ومَن ذا الذي نرجوه في كلِّ كربة(1)                     لتفريجها عنَّا وعنكم سوى الله
ومَن ذا الذي نادى: ألستُ بربكم                     وقلنا: بلى كل الأنام سوى الله
ومَن للفتى في موقف الفصل والقضا                     إذا أَسَرَتْه المخزياتُ سوى الله
فلا تعذلوني إنْ لهجْتُ بذِكرِه                     فما فيَّ عضوٌ ناطقٌ بسوى الله
          سبحانه وتعالى! لا يُحمَد إلَّا هو، ولا يُعبَدُ إلَّا هو، ولا يُقصَدُ إلَّا هو، ولا يُرشَدُ إلَّا هو، ولا يُرفَدُ إلَّا هو، ولا يُوَحَّدُ إلَّا هو، ولا يُمجَّدُ إلَّا هو، ولا يُعرَفُ بالفضل إلَّا هو، ولا يُوصَفُ بالعدل إلَّا هو، فـ {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}[الأنعام:102]، لا يَخلُقُ إلَّا هو، ولا يَرزُقُ إلَّا هو، ولا يُعطي إلَّا هو، ولا يمنعُ إلَّا هو، ولا ينفعُ إلَّا هو، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}[الأنعام:17].
سبحانَ مَن خضعتْ له الأشياءُ                     وعَنَتْ لعِزِّ جلالِه العظماءُ!
سبحانَ مَن أبدى(2) النهارَ بنورِه                     فتلأْلأتْ مِن نورِه الظلماءُ!
سبحانَ سلطانِ الملوكِ فما له                     ضِدٌّ ولا نِدٌّ ولا وُزراءُ!
سبحانَ قهَّارِ الجبابرةِ التي                     مِن تحت هيبتِه الجميعُ هباءُ!
سبحانَ مَن رفعَ السماءَ بقول كن                     ودَحَى بِساطَ الأرضِ فهْيَ سواءُ! /
سبحانَ مَن أرسى الجبالَ شوامخًا                     فتفتَّتتْ للهيبةِ الصماءُ!
سبحانَ مَن هَوَّ الهواءَ فما له                     لونٌ فيُنظَرَ في الفضاءِ هواءُ!
سبحانَ خالقِ كلِّ مخلوقٍ له                     مِن فردِ نفسٍ أصلُ ذاكَ الماءُ!
سبحانَ ذِي العرشِ العَلِيِّ ومَن علا                     حقًّا عليه ليسَ فيه مِراءُ!
سبحانَ عالمِ ما خَفِي ولنملة                     تمشي على رمل فهيْ عفراءُ
لا نوم يأخذُه ولا سنةٌ ولا                     للذات شِبْهٌ [لا] ولا العلياءُ
آمنتُ بالمعبودِ ثم صفاتِه                     مثل الذي يرضى وفيه هداءُ
مستشفعًا بحبيبه متوسِّلًا                     بكتابِه فيه الشفا وغناء(3)
صلَّى عليه اللهُ ما اسْوَدَّ الدُّجَى                     وترادفتْ في مدحِهِ الشُّعراءُ
          أحمدُه حمدَ آبقٍ سترَه بحِلمه وكساه، وأشكرُه شكرًا كما يحبُّ ربُّنا ويرضاه، وأشهد أنْ لا إله إلَّا الله وحدَه لا شريكَ له، ولا نظيرَ له، ولا شبيهَ له، ولا مثيلَ له، ولا عديلَ له، ولا معقِّبَ لما قدَّره وقضاه، شهادةً خالصةً مِن الأكدار، مُنجيَةً قائِلَها من النار، شهادةً أدَّخرُها عند مولاي العزيز الغفَّار يومَ ألقاه.
          اضرِبْ بسيوفِ التنزيه وجوهَ أهلِ التعطيل والتشبيه، واحذَرْ أنْ تَفوَّه بما فاهوا، {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [التوبة:129]، وإيَّاك وأهلَ التعطيل؛ فإنَّهم نفَوا حقيقةَ ما هو، { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }[المؤمنون:116] / المُشَبِّه يعبدُ صنمًا، والمُبطِل يعبدُ عدمًا، والمنزِّهُ الموحِّدُ يعبدُ إلهًا واحدًا فردًا صمدًا، لا إله إلَّا هو، فكلُّ ما تصوَّرَه وَهْمُك، أو تخيَّلَه فَهْمُك، أو تعقَّلَه عقلُك، أو التبسَ به جنسُك، أو حدَّثَتْك به نفسُك؛ فاللهُ تعالى بخلاف ذلك، لا إله إلَّا هو، فسبحانَ مَن خالفَ خلقَه ذاتًا وصفاتٍ وأحكامًا، وأقوالًا وأفعالًا، ونقضًا وإبرامًا، لا إله إلَّا هو.
هذا اعتقادي وبه أقولُ                     وعمدتي في نقله الرسولُ
          وأشهد أنَّ سيِّدَنا وحبيبَنا وشفيعَنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه، وحبيبُه وخليلُه، المبعوثُ بالنور الباهر، والمخصوصُ بالشفاعة العظمى يومَ تُبلى السرائرُ، بدعوتِه هطلَ السحابُ الماطر، ونبع من بين أصابعه الماءُ الطاهر، وببركتِه رُدَّت عينُ قتادةَ فكان بها أحسنَ ناظر، وأتاه البعيرُ شاكيًا فكان له خيرَ ناصر، وكلَّمَه الضبُّ والذئب وسلَّمَتْ عليه الظباء وخضعت له الأكاسر، فصلَّى اللهُ وأنبياؤه ورسلُه وجميعُ خلقه عليه؛ كما عُبِدَ اللهُ وحدَه وهدانا إليه، ورضي الله تعالى عن أصحاب رسول الله أجمعين، ورضي الله عن التابعين وتابع التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ورضي الله عنا وعن والدينا، وعنكم وعن والديكم، وعن جميع المسلمين، وأثابنا وإيَّاكم الجنَّةَ بمنِّه / وكرمه، وغفر(4) لنا أجمعين.
          إخواني؛ اغتنموا زمان الأرباح فأيَّام المواسم معدودة، واستدركوا ما بقي في هذا الشهر فساعاتُه مشهودة، جُدُّوا في طلب الغنائم فأعمال الصُّوَّامِ منقودة.
          يا مَن يُبارز بالعصيان ولم يستحيِ من رقيبه، وقد دنا فِراقُ شهر رمضان وما فاز بمصالحةٍ لحبيبه، وهبَّ نسيم القبول ولكن ما شفَّ عَرْف طيبه، أَمَا سمعتَ قولَ الملك المنان في فضل صوم شهر رمضان: «الصوم لي وأنا الذي أجزي به»، بالله عليكم نوحوا على أيَّام الغفلات، بالله عليكم تفكَّروا في مصاريع الأموات، بالله عليكم اطلبوا باب الكريم قبل الفوات، أَمَا يحقُّ البكاءُ لمن قد مضى زمانُه، أَمَا يحقُّ البكاءُ لمن قد وَهَنَتْ أركانُه، أَمَا يحقُّ البكاءُ لمن قد طال عصيانُه، أَمَا يحقُّ البكاء لمن نهاره في المعاصي وقد زاد طغيانُه، أَمَا يحقُّ البكاءُ لمن ليله في الخطايا(5) وقد خَفَّ ميزانُه، أَمَا يحقُّ البكاءُ لمن بين يديه الموتُ الشديدُ فيه لقاؤُه وعيانُه، أَمَا يحقُّ البكاءُ لمن بين يديه القبرُ المظلمُ المتهدِّمَةُ أركانُه، أَمَا يحقُّ البكاءُ لمن بين يديه الحشرُ الضيِّقُ فيه ذُلُّه وهَوانُه، أَمَا يحقُّ البكاءُ لمن بين يديه الحسابُ العسيرُ ويُنشرُ فيه ديوانُه، أَمَا يحقُّ البكاءُ لمن بين يديه الموقفُ الطويلُ فيه غمومُه وأحزانُه / أَمَا يحقُّ البكاءُ لمن بين يديه الجحيمُ الشديدُ فيه من العذاب ألوانُه.
          أُفٍّ لعيشٍ آخرُه الندامةُ، آهٍ مِن سفرٍ نهايتُه القيامة، كيف يكونُ حالُكم إذا نُفخ في الصور، وبُعثِرَ ما في القبور، وحُصِّلَ ما في الصدور، ومُدَّتِ الأرضُ وجمعتْهُم فيها للعَرْض، وحُشِرتُم حُفاةً ووُقِفْتُم عُراةً، وطالَ العناءُ وكَثُرَ البكاءُ، واشتدَّ القلقُ وألجمَكُمُ العَرَقُ، وتحيَّرتِ الألبابُ وتقطَّعَتِ الأسبابُ، وتزلزلتِ الأقدامُ وانقطعَ الكلامُ، وبرزتِ النارُ فأحرقتْ، وزَفَرتْ غضبًا فمزَّقَتْ، وتقطَّعَتِ القلوبُ وتفرَّقَتْ، وقامتِ الخصومُ للجدل، وأحاطَ بصاحبِه العمل، والأحداقُ قد سالتْ، والأعناقُ قد مالتْ، والمحنُ قد توالتْ، وسِيق العبادُ ومعهم الأشهاد، وطارت الصحائفُ وقلق الخائف، وشاب الصِّغار وبان الصَّغَار، ووُضعتِ الموازين ونُشرتِ الدواوين، وتغيَّرت الألوانُ وتحيَّر الإنسان، وخُتِمَ على اللسان وشهدتْ عليكم الأركان، فكم مِن شيخٍ في ذلك الموقف يقول: واشيبتاه، وكم مِن كَهْلٍ يُنادي: واخيبتاه، وكم مِن شابٍّ يُنادي: واشباباه، لو رأيتم العاصي في ذلك اليوم يَتَلَهَّفُ، ويبكي على ما فاتَه ويتأسَّف، يقول: يا ليتني تدبَّرتُ آياتي، ليتني قدَّمتُ لحياتي، ليتني حقَّقْتُ صلاتي، ليتني أدَّيتُ زكاتي، ليتني حَسِبتُ كلماتي، ليتني قيَّدْتُ نَظَراتي، أهملتُ / فُروضي وواجباتي، وضيَّعتُ ساعاتي في غير طاعاتي، لقد سعيت في هلاك ذاتي بلذَّاتي، أفسدتُ بالمعاصي صِفاتي، وآثرتُ ذنوبي وسيئاتي، ونسيت في غروري وفاتي، فما خطر على قلبي ذِكْرُ مماتي، فاليومَ لا ترقأ عَبَراتي، صِرتُ أسيرًا لزَلَّاتي، حُوسِبتُ على حركاتي وسكناتي، واأسفا على ضَياعِ أوقاتي، مَن يأخذُ بيدي في عثراتي، واحسرتي وأشتاتي، ما نفعني أهلي ولا أقربائي.
          إخواني؛ لا تستبعدوا هذا، فهذا واللهِ عن قريبٍ يأتي، فمَن عَرَفَ الدنيا حقَّ معرفتِها؛ حَقَرَها وأبغضَها، ومَن عَرَفَ الآخرةَ وعظَّمَها؛ رَغِبَ فيها.
          عبادَ الله؛ هَلُمُّوا إلى دارٍ لا يموتُ ساكنُها، ولا يَخرَبُ بنيانُها، ولا يَهْرَمُ شبابُها، ولا يتغيَّر حُسنُها وأحيانُها، هواؤُها النسيم، وماؤُها التسنيم، يتقلَّبُ أهلُها في رحمةِ أرحمِ الراحمين، ويتنعَّمونَ بالنظر إلى وجهه الكريم كلَّ حين، { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[يونس:10].
          إخواني؛ فاسمعوا الآن بعضَ صفتِها، وجُدَّ واجتهد في طلبها، وشمِّر(6) إلى دارٍ أعدَّها اللهُ لأهل خدمته، وملأها من كرامتِه ورحمتِه، وأودعَها جميعَ الخيرات، وطهَّرَها من العيوب والنقائص والآفات، فأهلُها في روضاتِ الجنَّاتِ يتقلَّبون، وعلى الفُرُش التي بطائنُها مِن / إستبرقٍ يتَّكِؤون، بالحور العين يتمتَّعون، وبأنواعِ الثِّمار يتفكَّهون، { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ. وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ. جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:17-24] { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [الزخرف:71].
          يا مسكين؛ فإنْ سألتَ عن أرضِها وتربتِها؛ فهِيَ المِسْكُ والزَّعْفَران، وإنْ سألتَ عن سقفِها؛ فهو عرشُ الرحمن، وإنْ سألتَ عن بَلاطها؛ فهو المِسْكُ الأذفر، وإنْ سألتَ عن حصبائها؛ فهو اللؤلؤُ والجوهر، وإنْ سألتَ عن بِنائِها؛ فلَبِنَةٌ مِن ذَهَبٍ ولَبِنَةٌ مِن فِضَّةٍ، وإنْ سألتَ عن أشجارِها؛ فما فيها مِن شجرة إلَّا وساقُها مِن ذَهَبٍ أو فِضَّة، لا مِنَ الحطب والخشب، وإنْ سألتَ عن ثمرتِها؛ فأمثالُ القلال؛ ألينُ مِنَ الزُّبد، وأحلى مِنَ العسل، وإنْ سألتَ عن ورقِها؛ فأحسنُ ما يكون مِن رقائِق الحُلَل، وإنْ سألتَ عن أنهارِها؛ فـ { وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى }[محمد:15]، وإنْ سألتَ عن طعامِهِم؛ فـ { وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ } [الواقعة:20-21]، وإنْ سألتَ عن شرابِهم؛ فالتسنيمُ والكافور، وإنْ سألتَ عن آنيتِهِم؛ فآنيةُ الذَّهَب والفِضَّة في صفاءِ القوارير / وإنْ سألتَ عن سَعَةِ أبوابها؛ فما بين المِصراعينِ مسيرةُ أربعينَ مِنَ الأعوام، وليأتينَّ على ذلك يومٌ وهو كظيظ الزِّحام، وإنْ سألتَ عن تصفيقِ الرِّياحِ لأشجارِها؛ فإنَّها تستغن بالطرب لمن يسمعها، وإنْ سألتَ عن ظِلِّها؛ ففيها شجرةٌ يسيرُ الراكبُ الجوادِ السريعِ في ظِلِّها مئةَ عامٍ لا يقطعُها، وإنْ سألتَ عن سَعَتِها؛ فأدنى أهلِها يسيرُ في مُلكِه وسرره(7) وقصورِه وبساتينِه مسيرةَ ألفي عام، وإنْ سألتَ عن خِيامِها وقِبابِها؛ فالخيمةُ الواحدةُ مِنْ دُرَّةٍ مجوَّفةٍ طولُها ستونَ ميلًا من جملةِ الخيام، وإنْ سألتَ عن علاليها وجواسقها؛ فهي { غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } [الزمر:20] وإنْ سألتَ عنِ ارتفاعِها؛ فانظرْ إلى الكوكبِ الطَّالِعِ والغاربِ في الأُفق الذي لا تكادُ تنالُه الأبصار، وإنْ سألتَ عن لباسِ أهلِها؛ فهو الحريرُ والذَّهَب، وإنْ سألتَ عن وُجوهِ أهلِها وحُسنِهِم؛ فعلى صورةِ القمر، وإنْ سألتَ عن أسنانِهِم؛ فأبناء ثلاثٍ وثلاثينَ على صورةِ آدمَ أبي البَشر، وإنْ سألتَ عن سماعهم؛ فغناءُ أزواجِهِم مِنَ الحُور العِين، وأعلى منه سماعُ الملائكةِ والنبيين، وأعلى منه سماعُ خِطابِ رَبِّ العالمين، وإنْ سألتَ عن غِلمانِهِم؛ فوِلدانٌ مخلَّدون، [7/أ] كأنَّهم لؤلؤٌ مكنون، وإنْ سألتَ عن عرائِسِهِم وأزواجِهِم؛ فهنَّ الكواعبُ الأتراب، اللاتي جرى في أعضائهن ماء الشباب، تجري الشمسُ في محاسنِ وجهِها إذا برزت، ومضى البرقُ مِن بين ثناياها إذا ابتسمت، يَرى وجهَه في صحن خَدِّها، ويَرى مُخَّ ساقِها مِن وراءِ لحمها وجِلدها، لو اطلعتْ على الدنيا؛ لَملأتْ ما بين السماء والأرض رِيحًا، ولَاستنطقتْ(8) أفواهَ الخلائِقِ تهليلًا وتكبيرًا وتسبيحًا، ولَتزخرفَ لها ما بين الخافقين، ولَأغمضت من عينها كلُّ عين، ولَطمستْ ضوءَ الشمس كما تطمسُ الشمسُ ضوءَ النجوم، ولَآمَنَ مَن على ظهرِها للحيِّ القيوم، ونَصِيفُها(9) الذي على رأسِها خيرٌ مِنَ الدنيا وما فيها، ووِصالُها إليه أشهى من جميع أمانيها، لا تزداد على تطاول الزمان إلَّا حُسنًا وجمالًا، ولا يزدادُ لها على طول المَدى إلَّا محبَّةً ووِصالًا، ولا يَفنى شبابُها، ولا تَبلى ثيابُها، وإنْ سألتَ عنِ السِّنِّ؛ فأترابٌ في أعدل سِنِّ الشباب، وإنْ سألتَ عنِ الحُسنِ؛ فهل رأيتَ القمر، وإنْ سألتَ عنِ الحَدَقِ؛ فأحسنُ سوادٍ في أحسنِ بياضٍ في أحسنِ حَوَر، وإنْ سألتَ عنِ القُدُودِ؛ فهل رأيتَ أحسنَ الأغصان، وإنْ سألتَ عنِ النُّهُود؛ فهُنَّ الكواعب، نُهُودُهُنَّ كألطفِ الرُّمَّان، وإنْ سألتَ عنِ اللون؛ فكأنَّهُنَّ الياقوتُ [7/ب] والمَرجان، وإنْ سألتَ عن حُسنِ الخلق؛ فهُنَّ الخَيرَاتُ الحِسَان، اللَّاتي جُمِعَ لهنَّ بين الحُسنِ والإحسان، قد أُعطينَ جمالَ الباطن والظاهر، فهُنَّ أفراحُ النُّفوس وقُرَّةُ النواظر.
فيا خاطبَ(10) الحسناءِ إنْ كنتَ راغبًا                     فهذا زمانُ المهرِ فهو المقدَّمُ
وصُمْ يومَكَ الأدنى لعلَّك في غدٍ تفوزُ                     بعيدِ الفطرِ والناسُ صُوَّمُ
وأقدِمْ ولا تَقنَعْ بعيشٍ منغَّصٍ                     فما فازَ باللَّذاتِ مَن ليس يقدَمُ
وإنْ ضاقتِ الدنيا عليكَ بأسرِها                     ولم يكنْ فيها منزلٌ لك يُعلَمُ
فحَيَّ على جناتِ عدنٍ فإنَّها                     منازِلُكَ الأُولى وفيها المخيَّمُ
وحَيَّ على روضاتِها وخِيامِها                     وحَيَّ على عينٍ بها ليس يسأمُ
وحَيَّ على تلكَ القصورِ التي بها                     وفيها يَحار(11) الناظرُ المتوسِّمُ
ومِن تحتِها الأنهارُ تخفِقُ دائمًا                     وطيرُ الأماني فوقَها يترنَّمُ
وحصباؤُها الياقوتُ والدُّرُّ بينه                     وتربتُها(12) كالمِسْكِ بل هيَ أكرمُ
ولكنَّنا سبيُ العدوِّ فهل تُرى                     نُرَدُّ إلى أوطانِنا ونُسلَّمُ
وقد زعموا أنَّ الغريبَ إذا نأى                     وشطَّتْ به أوطانُه فهو مُغْرَمُ
وأيُّ اغترابٍ فوقَ غربتِنا التي                     بها أضحتِ الأعداءُ فينا تَحكَّمُ
وحَيَّ على يومِ المزيدِ وشأنِه                     وذلكَ للأبرار عيدٌ وموسِمُ
يزورونَ فيه اللهَ جلَّ جلالُه                     فيعطيهِمُ فوقَ الأماني منهمُ /
يُبيحُهُمُ منهُ الرِّضا ثمَّ رُؤيةً                     كرؤيةِ بدرِ التِّمِّ لا يُتوهَّمُ
وحَيَّ على وادٍ هناك ذا فيحٍ                     وتُربتُه مِن إذفر(13) المِسْك أعظمُ
منابرُ مِن نورٍ هناكَ وفِضَّةٍ                     ومِن خالصِ العِقيانِ لا يتفصَّمُ
فبينا هُمُ في عيشِهِم وسرورِهِم(14)                     وأرزاقُهم تجري عليهم وتُقسَمُ
إذا هُم بنورٍ ساطعٍ أشرقتْ له                     بأقطارِها الجنَّاتُ لا يُتوهَّمُ
تجلَّى لهم رَبُّ السماوات جهرةً                     فيضحكُ فوقَ العرش ثم يُسَلِّمُ
سلامٌ عليكم يَسمعونَ جميعُهم                     بآذانِهِم تسليمَهُ إذْ يُسلِّمُ
يقولُ: سَلُوني ما اشتهيتُم فكلُّ ما                     تريدونَ عندي أنَّني أنا أكرمُ
فأنساهمُ ذاكَ النعيمَ كلامُه                     وكلُّ نعيمٍ غيرَ رؤيَتِهِ وَهْمُ
فقالوا جميعًا: نحن نسألك الرضا                     فأنت الذي تُولي الجميلَ وتَرحمُ
فيا بائعًا هذا ببخسٍ معجَّلٍ                     كأنَّكَ لا تدري بلى سوف تَعلمُ
فإنْ كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ                     وإنْ كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ
          أخي؛ هنا قد سمعت بعضَ صفةِ هذه الدار، وجُلِّي عليك من صفاتها ما يُحيِّرُ العقولَ والأفكار، ويُذهِلُ القلوب ويُدهشُ الأبصار، ومع هذا لا سبيل إلى وصفها على التحقيق، ولو أُتِيَ إليه بكلِّ طريق، وكيف يَقدِرُ الواصفون على ذلك مع قول سيِّدِ البشر: «فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمعتْ، ولا خَطَرَ على / قلب بَشَر»، فاجتهد أخي في تحصيلها، وارض من الدنيا بقليلها، واطلب من مولاك هذه الدار؛ فإنَّه قريبٌ ممن دعاه، واسأله العفو والغفران، فإنَّه مجيبٌ لمن قصده ورجاه، فإنَّه سبحانه وتعالى يقول في بعض كتبه المنزلة: عبدي؛ وأنا قريبٌ ممن دعاني، عبدي؛ أنا لا أخيِّبُ مَن قصدني ورجاني، عبدي؛ أنا لا أُقنط من رحمتي مَن عصاني، عبدي كم أُقرِّبك إليَّ بالخيرات وأُدني، عبدي؛ كم أخوِّلك في نعمتي وفضلي بإذني، عبدي؛ كم أدعوك إلى طاعتي فتُعرض كأنَّك عنها مستغني، فإذا أعرضت يا عبدي عني؛ هل تلقى أحدًا أكرمَ مني، عبدي؛ أنا المعروف بالحميد، عبدي؛ أنا معطي الكثير، قابل القليل، عبدي؛ أنا العزيز ومن عاداني ذليل، عبدي؛ كل كريم بالنسبة إلى عطائي بخيل، عبدي؛ أنا أُعزُّ وأُذلّ، وأُفقر وأُغني، فإذا أعرضت يا عبدي عني هل تلقى أحدًا أكرم مني، عبدي؛ إنْ مرضتَ كنتُ لك طبيبًا، عبدي؛ إنْ دعوتني كنتُ لك مجيبًا، عبدي؛ إنِ استجرتَ بي وجدتني منك قريبًا، عبدي؛ أرعاك بعين عنايتي وأمني، فإذا أعرضتَ يا عبدي عني هل تلقى أحدًا أكرمَ مني، عبدي؛ أنا خالق أبيك مِن تراب، عبدي؛ أنا منشئ قلبه من قطرات سحاب الأصلاب، عبدي؛ أنا الرزاق لك الكريم الوهاب، عبدي؛ أنا المعطي أنا المانع أنا الرحيم أنا التواب، / عبدي؛ أنا المنعم عليك سألتني أم لم تسألني، فإذا أعرضتَ يا عبدي عني هل تلقى أحدًا أكرمَ مني.
          أخي؛ هذا خطاب مولاك المنَّان، فاطلبِ الآن منه الأمنَ والأمان، فهذا شهر التوبة والغُفران، ومعدِن الفوز والرضوان، تُفتح فيه أبواب الجِنان، وتُفَرَّق فيه خِلَعُ الإحسان، ويُعتَقُ فيه كلَّ يومٍ ألفُ ألفِ عتيقٍ من النيران، ولم يبقَ من شهركم إلَّا القليل، فأين البكاء على فراقه والعويل، فرحم الله امرءًا أظهر لفِراقه جَزَعَه، وسلَّمَ عليه وودَّعَه، وقال: السلامُ عليك يا شهرَ رمضان، السلامُ عليك يا شهرَ القرآن، السلامُ عليك وعلى أيَّامك المباركات، السلامُ عليك وعلى لياليك النيرات، فما لكم عن ثوابه غافلون، إنا لله وإنا إليه راجعون، { وَتُوبُوا(15) إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور:31].
مضى شهر الصيام بكلِّ خيرٍ                     سلامُ الله على شهر الصيام
مضى شهر الصيام بكلٍّ جودٍ                     فواأسفا على شهر الصيام
مضى رمضانُ شهرُ الله حقًا                     أَلَا فابكوا على شهر الصيام
هنيئًا للذي قد تاب فيه                     من العصيان في جنح الظلام
هنيئًا للذي قد فاز فيه                     بغفرانٍ من البر السلام
هنيئًا للذي قد صان فيه                     جوارحَه فصار من الكلام /
هنيئًا للذي قد كفَّ فيه                     عن الفحشاء من سوء الكلام
هنيئًا يا أخي لك باجتهاد                     فقد وُعِدَ المجاهدُ بالمرام
سألت اللهَ يُعتقنا جميعًا                     ويُدخلنا إلى دار السلام
سألت الله يرحمنا جميعًا                     ويَجبُر كلَّ عظم من عظام
سألت الله يرزقنا جميعًا                     شفاعةَ سيِّدِ الرسل الكرام
ويُدخلنا بها جناتِ عدنٍ                     مع الأبرار في دار المُقام
سألت الله يغفر كلَّ ذنبٍ                     ويمنحنا الإجابة في مُقام
سألت الله يستر كلَّ عيبٍ                     ويوصلنا إلى تلك الخيام
سألت الله يرزقنا حلالًا                     ويمنعنا من الرزق الحرام
فلا تقنط فمولانا كريم                     يجود على العباد بكلِّ نام
فناظمها مسكين فقير                     عبيدك يرتجي(16) عتق العظام
فحقِّق ظنَّه وأنله عفوًا                     ومن وافى الختام بكلِّ عام
          فإذا رحل عنكم رمضان السعيد، الذي ميِّز فيه الشقي من السعيد، عقبه يوم الفطر أعني العيد، الذي تهبط فيه الملائكة بالبشرى للعبيد، يبشرونهم بكرم الله وعفوه المجيد؛ لما رُوي من حديث ابن عباس عن النبي صلعم أنَّه قال: / «إذا كان غداة الفطر؛ بعث الله تعالى الملائكة إلى كلِّ بلدٍ، فيهبطون إلى الأرض، فيقومون على أفواه السكك، فينادون بصوت يسمعه جميع من خلق الله إلَّا الجن والإنس، فيقولون: أمة محمَّدٍ؛ اخرجوا إلى ربٍّ كريم، يغفر الذنب العظيم، فإذا برزوا في مُصلَّاهم؛ يقول الله تعالى: يا ملائكتي؛ ما جزاء الأجير إذا عمل عملَه؟ فيقولون: إلهنا وسيدنا؛ جزاؤه أن نوفيَه أجره، فيقول الله: يا ملائكتي؛ إني قد جعلت ثوابهم من صيامهم شهر رمضان وقيامهم رضايَ ومغفرتي، ويقول الله تعالى: سلوني، فوَعزَّتي وجلالي لا تسألوني اليوم شيئًا في جمعكم هذا لآخرتكم إلَّا أعطيتكموه، ولا لدنيا إلَّا نظرت لكم(17)، انصرفوا مغفورًا لكم، قد أرضيتموني ورضيت عنكم».
          ويُستحبُّ الغسل يوم العيد، ثم البكور والخروج على أحسن هيئة، وأن يفطر قبل صلاة العيد بخلاف الأضحى، وكان النبي صلعم يأكل سبع تمرات يوم الفطر قبل أن يخرج إلى المصلَّى، وإذا غدا من طريقٍ؛ رجع في أخرى، ولا يتطوَّع قبل صلاة العيد ولا بعدَها في موضعها.
          ويُستحبُّ اتْباعُ رمضان بستٍّ من شوالٍ متتابعة أو متفرِّقة، وقال النبي صلعم: / «مَن صام رمضانَ وأَتْبعَه بستٍّ من شوالٍ؛ كان كمَن صام الدهر»، والسِّرُّ في ذلك ما روى ثوبانُ: أنَّ رسول الله صلعم قال: «صيامُ رمضانَ بعشرةِ أشهرٍ، وصيامُ ستَّةِ أيامٍ بشهرين؛ فذلك صيامُ سنٍة».


[1] في الأصل: كروبة.
[2] في الأصل: (أبد).
[3] في الأصل: (وعناء).
[4] في الأصل: (واغفر).
[5] في الأصل: (الخطيا).
[6] في الأصل: (وشهر).
[7] في الأصل: (وسروره).
[8] في الأصل: (ولاستنقطت).
[9] أي: خمارُها.
[10] في الأصل: (فيا خاطبًا).
[11] في الأصل: (يجار).
[12] في الأصل: (وتربته).
[13] في الأصل: (أذافر).
[14] في الأصل: (وشرورهم).
[15] في الأصل: (فتوبوا).
[16] في الأصل: (يرجي).
[17] في الأصل: (لدنيا له نظرت لكره)، وانظر «العلل المتناهية» (2/536).