كفاية القاري في شرح ثلاثيات البخاري

حديث سلمة: كنا نصلي مع النبي المغرب

          الحديثُ الرَّابعُ:
          من ثلاثياتِ الإمامِ البخاريِّ هو ما ذكرهُ في «بابِ وقتِ المغربِ» حيثُ قالَ:
          (حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن بشيرٍ البلخيُّ، هو شيخُ البخاريِّ السابق ذِكْرُهُ (قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ) بضمِّ العينِ وفتحِ الموحدةِ، مولى سَلَمَةَ (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ) الصحابي السابق ذِكره ☺ (قَالَ: كُنَّا) أي أصحابَ رسولِ الله صلعم (نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلعم المَغْرِبَ إِذَا تَوَارَت) أي استترتْ، والمرادُ الشمسُ، (بِالحِجَابِ) أي استترَتْ بما تحجبها عن الأبصارِ وهو غروبُها في الأفقِ، فشبَّهَ غروبَها بتواري المُخَبَّأةِ بِحجابِها، وأضمرَهَا من غيرِ ذكرٍ اعتمادًا على قرينةِ قوله: «المَغْرِبَ».
          قال في ((الفتح)): وقد رواهُ مسلمٌ مِنْ طَرِيقِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ بِلَفْظِ: «إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَتَوَارَتْ بِالْحِجَابِ»، فدلَّ على أن الاختصارَ في المتنِ من شيخِ البخاري.
          وفي روايةٍ عندَ الإِسْمَاعِيْلِيِّ وعندَ ابن حميدٍ وغيرِهما، عن يزيدَ بن أبي عُبيدٍ، بلفظِ: «كَانَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ سَاعَةَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ»، واستُدِلَّ بهذه الأحاديثِ على ضعفِ حديثِ أبي بَصْرَةَ بالموحدة ثم المهملة، رفعهُ في أثناء حديثِ: «وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يُرَى الشَّاهِدُ»، والشاهدُ النجمُ. انتهى.
          ومعنى قولهِ في الحديثِ السابقِ: «كانَ يصلي المغربَ ساعةَ تغربُ الشمسُ» أنه يبكِّرُ بها في أولِ وقتها بمجرَّدِ غروبِ الشمسِ.
          وقد روى البخاري عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ: قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلعم: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا» [خ¦527].
          قال في ((الفتح)) نقلًا عن ابنِ / بطالٍ: فيه أن البِدَارَ إلى الصلاةِ في أولِ الوقتِ أفضلُ من التراخِي فيها؛ لأنهُ إنما شرطَ فيها أن يكونَ أحبَّ الأعمالَ إذا أُقيمتْ لوقتِها المستحبِّ. انتهى.
          وقال أيضًا: تنبيه: اتَّفَقَ أصحابُ شعبةَ على اللفظِ المذكورِ، وهو قوله: ((على وقتِها))، وخالفَهم عليُّ بن حفصٍ، وهو شيخٌ صدوقٌ من رجالِ مسلمٍ، فقال: «الصَّلاةُ في أَوَّلِ وَقْتِهَا». أخرجهُ الحاكمُ والدَّارقطنيُّ والبيهقيُّ من طريقهِ. انتهى.
          والمرادُ من الوقتِ القدرُ المجرَّدُ للفعلِ من الزمانِ والمكانِ.
          وقال صاحبُ ((المنتهى)): كلُّ شيءٍ جُعلَ له حينٌ(1) وغايةٌ فهو مؤقتٌ، يُقَالُ: وَقَّتَهُ ليوم كذا، أي أَجَّلَهُ. انتهى.
          وقال الإمامُ النوويُّ في ((شرحِ مسلمٍ)): في بيانِ قولهِ صلعم(2) : «فَإذَا صَلَّيْتُمُ الْمَغْرِبَ»، فإنه وَقَّتَ إلى أن يسقطَ الشفقُ.
          [وفي روايةٍ: ((وقتُ المغربِ ما لم يسقطْ ثورُ الشفقِ))، وفي رواية: ((ما لم يغبْ الشفقُ))، وفي روايةٍ: ((ما لم يسقطْ الشفقُ))] هذا الحديثُ وما بعدهُ من الأحاديثِ صريحٌ في أن وقتَ المغربِ يمتدُ إلى غروبِ الشفقِ، وهذا أحدُ القولينِ في مذهبِنا، وهو ضعيفٌ عند جمهورِ نَقَلَةٍ مَذْهَبِنَا، وقالوا: الصحيحُ أنه ليسَ لها إلا وقتٌ واحدٌ، وهو عَقِبَ غروبِ الشمسِ بقدرِ ما يَتَطَهَّرُ ويسترُ عورتَهُ ويؤذنُ ويُقيمُ، فإن أَخَّرَ الدخولَ في الصلاةِ عن هذا الوقتِ أَثِمَ وصارتْ قضاءً.
          وذهبَ المحققونَ من أصحابنا إلى ترجيحِ القولِ بجوازِ تأخيرِها ما لم يَغِبِ الشفقُ، وأنه يجوزُ ابتداؤها في كلِّ وقتٍ من ذلكَ، ولا يأثمُ بتأخيرها(3) عن أولِ الوقتِ، وهذا هو الصحيحُ، والصوابُ الذي لا يجوزُ غيرُهُ.
          والجوابُ عن حديثِ جبرايلَ ╕ حينَ [صلَّى] المغربِ في اليومينِ في وقتٍ واحدٍ حين غربَتْ الشمسُ، من ثلاثةِ أوجهٍ:
          أحدها: أنه اقتصرَ على بيانِ وقتِ الاختيارِ فلم يستوعبْ وقتَ الجوازِ، وهذا جارٍ في كلِّ الصلوات سوى الظهرِ.
          والثاني: أنه متقدمٌ في أولِ الأمرِ بمكةَ، / وهذه الأحاديثُ بامتدادِ وقتِ المغربِ إلى غروبِ الشَّفَقِ متأخرةٌ(4) في أواخرِ الأمرِ بالمدينةِ فوجبَ اعتمادُها.
          والثالثُ: أن هذهِ الأحاديثَ أصحُّ إسنادًا من حديثِ بيانِ جبريلَ ╕ فوجبَ تقديمُها، فهذا ملخصُ ما يتعلقُ بوقتِ المغربِ. انتهى.


[1] في المخطوط: «خير».
[2] في المخطوط: «بيان قوله تعالى»، وهو وهم، لأنه من قول رسول الله صلعم، وكذا في شرح مسلم للنووي.
[3] في المخطوط: «بتأخرها».
[4] في المخطوط: «مستأخرة».