كفاية القاري في شرح ثلاثيات البخاري

حديث سلمة: كان جدار المسجد عند المنبر

          الحَدِيْثُ الثَّاني:
          من الثلاثياتِ هو ما رواهُ البخاريُّ في صحيحهِ من جملةِ أبواب سترةِ المصلِّيِّ، في «بابِ قَدْرِ كَمْ ينبغي أن يكونَ بين المصلِّي والسترةِ؟»
          قالَ القسطلانيُّ: في شرحه: بابُ بيانِ قَدْرِ كَمْ ذِرَاعٍ ينبغي أن يكونَ بين المصلِّي _بكسر اللام_ والسترةِ. انتهى.
          قالَ الكَـِرْمَانِيُّ: فإن قلتَ (كم) سواءٌ كانت استفهاميةً أو خبريةً لها صدرُ الكلامِ، فما بالها تقدَّم عليها لفظ القَدْرِ؟ قلتُ: المضافُ والمضاف إليه في حكمِ كلمةٍ واحدةٍ. انتهى.
          وفي ((الفتح)): المصلِّي _بكسرِ اللام_ [على أنَّه اسم فاعل، ويحتمل أن يكون بفتح اللام] أي: المكان الذي يُصلي فيه. انتهى.
          وقال السيدُ السَّمهُوْدِيّ: كانَ بين مُصَلَّى رسولِ الله صلعم وبين جدارِ المسجدِ، أي: مقامهُ في صلاته، كما في روايةِ أبي داودَ، فلم يُرِدْ بالمصلَّى موضعَ السجود وإن قالهُ النوويُّ.
          قلتُ: وعبارةُ النوويِّ في ((شرحِ مسلمٍ)): يعني بالمُصلَّى موضعَ السجودِ حيثُ قالَ:
          (حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) قال: (حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ ☺) قد سبقَ بيانُ رجالِ هذا الإسنادِ في الحديثِ الأولِ، ولا حاجةَ إلى إعادته لقُرْبِ العهدِ به. وفي روايةٍ: «حَدَّثَنَا المَكِّيُّ» بلا ذكرِ أبيهِ، قال: (كَانَ جِدَارُ المَسْجِدِ) النبويِّ من جهةِ القبلةِ / (عِنْدَ المِنْبَر) تتمةُ اسم «كان»، أي: عند الجدارِ الذي كانَ عندَ المنبر، والخبرُ قولُهُ: (مَا كَادَتِ الشَّاةُ تَجُوْزُهَا) بالجيم، أي: المسافةُ، وهي ما بينَ الجدارِ والمنبر.
          قال النَّوويُّ في ((شرحِ مسلم)): وَإنَّما أخَّرَ المنبرَ عن الجدارِ لئلا ينقطعَ نظرُ أهلِ الصَّف الأولِ بعضهم عن بعضٍ. انتهى.
          قال في ((الفتحِ)): وهذا الحديثُ رواهُ الإسماعيليُّ من طريقِ أبي عاصمٍ عن يزيدَ فقال: «كان المنبرُ على عهدِ رسولِ الله صلعم، ليس بينهُ وبين حائطِ القبلةِ إلَّا قَدْرَ ما تمرُّ العنزُ»، فَتَبَيَّنَ بهذا السياقِ أن الحديثَ مرفوعٌ. انتهى.
          قال القسطلانيُّ: وللكُشْمِيْهَنِيِّ: «ما كادتْ الشاةُ أَنْ تَجُوْزَهَا»، بزيادةِ (أن)، واقترانُ خبر (كادَ) بـــ(أن) قليلٌ كحذفِها من خبرِ (عسى)، ثم إنَّ القاعدةَ أن حرفَ النَّفْيِ إذا دخلَ على (كادَ) يكون للنفي، لكنه هنا لإثباتِ جوازِ الشاةِ. انتهى.
          قلتُ: ولم يتعرضِ الشارحُ لسبب مجيئها مثبتةً ههنا، وقد ذكرهُ البدرُ الدَّمَامِيْنِيُّ في ((شرحِ التَّسهيلِ)) حيث قال: قال المصنفُ: وقد يقولُ القائلُ: لم يَكَدْ زَيْدٌ يَفْعَلُ، ومُرادهُ أنه فعلَ بعسرٍ لا بسهولةٍ، وهو خلاف الظاهرِ الذي وُضِعَ له اللفظُ.
          ثم قالَ بعد كلامٍ طويلٍ: بلى قد يجيءُ مع نفي (كادَ) قرينةٌ تدلُ على ثبوتِ مضمونِ الخبر بعد انتفائه، وبعد انتفاءِ القربِ منه، فيُعْمَلُ على حسبِ تلك القرينةِ، وهي المفيدةُ حينئذٍ لثبوت مضمونِ الخبر لا نفي (كادَ).
          ثم قال: وذهبَ قومٌ إلى أنَّ إثباتَ (كاد) نفيٌ ونفيُهُ إثباتٌ متمسِّكًا بالآية الكريمةِ، وبقولُ ذي الرِّمَّةِ _شعر_:
إذا غيَّرَ النأيُ المحبينَ لم يَكَدْ                      رسيسُ الهوى من حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ /
          وقد اشتهرَ بهذا القولِ حتى نظمَهُ المعريُّ لغزًا، فقال:
أَنَحْوِيَّ هَذَا الْعَصْرِ مَا هِيَ لَفْظَةٌ                      جَرَتْ في لِسَانَي جُرْهُمِ وَثَمُودِ
إِذَا نُفِيَتْ وَاللهُ أَعْلَمُ أَثْبَتَتْ                       وَإنْ أُثْبِتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ
          وَثَمَّ مذهبٌ ثالثٌ: وهو التفصيلُ بين نفي الماضي فيكونُ إثباتًا نظرًا إلى ظاهرِ قوله تعالى: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71]، ونفيُ غير الماضي فلا يكونُ اثباتًا لقياسِ سائر الأفعالِ، نظرًا إلى قولهِ ╡: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40]، والصحيحُ ما قدَّرناهُ. انتهى.
          قلتُ: والقرينةُ التي ذكرناها موجودةٌ فيما نحن فيه، وهي الروايةُ السابقة المصرحةُ بقوله: «إلا قدرَ ما تمرُّ العنزُ».
          فإن قيل: من أين تطابقُ الترجمةِ؟ أجاب الكِرْمَانِيُّ فقالَ: مِنْ حيثُ أنه صلعم كان يقومُ بجنبِ المنبرِ(1) ، أي: ولم يكن لمسجدهِ محرابٌ، فيكونُ مسافةُ ما بينه وبين الجدارِ نظيرَ ما بين المنبرِ والجدارِ، فكأنهُ قال: الذي ينبغي أن يكونَ بين المصلي وسُترتهِ قدرَ ما كان بين منبرهِ صلعم وجدارِ القبلةِ.
          وأوضحُ من ذلك ما ذكرهُ ابن رُشَيدٍ أن البخاريَّ أشارَ بهذه الترجمةِ إلى حديثِ ابن سعدٍ، فإنَّ فيه أنه صلعم قَامَ على المِنْبَرِ حينَ عُمِلَ وصلَّى عليهِ، فاقتضى ذلك أن ذِكْرَ المنبرِ يُؤخذُ منه موضعُ قيام المُصَلِّي.
          فإن قيل: إن في ذلكَ الحديثِ أنه لم يسجدْ على المنبرِ، وإنما نزل وسجد في أصلهِ، وبين أصل المنبر وبين الجدارِ أكثرُ من ممرِّ الشَّاةِ؟
          أُجِيْبَ بأن أكثرَ أجزاءِ الصلاةِ قد حصلَ في أعلى المنبر، ويحصلُ به المقصودُ، وإنَّما نزلَ عن المنبرِ لأن الدرجةَ لم تتسعْ بقدر سجودِه، وأيضًا / فإنَّهُ لمَّا سَجَدَ في أصلِ المنبرِ صارت الدَّرَجَةُ التي فوقَهُ سترةٌ له، وهو قَدْرُ ما تقدَّمَ.
          قال ابنُ بَطَّالٍ: هذا أقلُّ ما يكون بين المصلي وسترتِهِ؛ يعني قدرَ ممرِّ الشاة.
          وقيل: أقلُّ ذلك ثلاثةُ أَذْرُعٍ لحديث بلالٍ أنَّ النبيَّ صلعم صَلَّى في الكَعْبَةِ، وبَيْنَهُ وبَيْنَ الجِّدَارِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ.
          وجمع الدَّاودي(2) بأنَّ أقلَّهُ ممرُ الشاةِ، وأكثرهُ ثلاثةُ أَذْرُعٍ، وجمع بعضهم بأن الأولَ في حال القيامِ والقُعودِ، والثاني في حالِ الرُّكوعِ والسجودِ.
          وقال البغويُّ: استحبَّ أهلُ العلم الدُّنُوَّ من السترةِ بحيثُ يكون بينهُ وبينها قدرُ إمكانِ السجودِ، وكذلك بين الصفوفِ، وقد وردَ الأمرُ بالدُّنُوِّ منها أي في حالِ القيامِ، وفيه بيانُ الحكمةِ في ذلكَ وهو ما رواهُ أبو داودَ وغيرُهُ من حديثِ سَهْلِ بنِ أبي حَثْمَةَ مَرفوعًا: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا لَا يَقْطَعِ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ». انتهى.
          وقال في ((الفتحِ)) في شرحَ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ ☺، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ».
          أي فِعْلُهُ فعلُ الشيطانِ لأنه أَبى إلا التَّشْوِيْشَ على المُصلي، وإطلاقُ الشيطانِ على المارد(3) من الإنسِ شائعٌ، وقد جاءَ في القرآنِ قولهُ تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112]، وقال ابنُ بَطَّالٍ: في هذا الحديث جوازُ إطلاقِ لفظ الشيطانِ على من يَفْتِنُ في الدِّينِ، وأنَّ الحكمَ للمعاني دونَ الأسماءِ لاستحالةِ أن يصيرَ المارُّ شيطانًا بمجرَّدِ مُرُوْرِهِ. انتهى. /
          وهو مَبْنِيٌّ عليه أن لفظَ الشيطانِ يُطْلَقُ حقيقةً على الجِنِّيِّ ومَجَازًا على الإِنْسِيِّ، وفيه بحثٌ، ويَحْتَمِلُ أن يكونَ المعنى فإنَّمَا الحاملُ له على ذلك الشيطانُ، وقد وقعَ في روايةٍ للإِسْمَاعِيْلِيِّ: فإنَّ معه الشيطانُ ونحوهُ لمسلمٍ من حديثِ ابن عمرَ بلفظ فإن معه القرينَ، واستنبطَ ابنُ أبي جَمْرَةَ من قوله: «فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ»، أنَّ المرادَ بقوله: «فَلْيُقَاتِلْهُ» المدافعةَ اللطيفةَ لا حقيقةُ القتالِ. قال: لأنَّ مقاتلةَ الشيطانِ إنَّما هي بالاستعاذةِ والتسترِ عنه بالتسميةِ ونحوها، وإنَّما جازَ الفعلُ اليسيرُ في الصلاة للضَّرورةِ، فلو قاتلهُ حقيقةَ المقاتلَةِ لكان أشدَّ على صلاتهِ من المارِّ.
          قال: وهل المقاتلةُ لخَلَلٍ يقعُ في صلاةِ المصلي من المرورِ، أو لدفعِ الإثمِ عن(4) المارِّ الظاهرُ الثاني. انتهى.
          وقالَ غيرُهُ: بل الأولُ أظهرُ؛ لأنَّ إقبالَ المصلِّي على صلاتهِ أَوْلَى لَهُ من اشتغالهِ بدفعِ الإثمِ عن غيرهِ. وقد رَوى ابنُ أبي شَيْبَةَ عن ابنِ مسعودٍ أن المرورَ بين يدي المصلي يقطعُ نصف صلاتِهِ.
          وروى أبو نُعَيْمٍ عن عمرَ: لو يعلمُ مُصَلٍّ ما ينقصُ من صلاتهِ بالمرورِ بين يديهِ ما صلى إلَّا إلى شيءٍ يستره من الناسِ.
          فهذانِ الأثرانِ مُقَتَضَاهُمَا الدَّفْعُ لخللٍ يتعلقُ بصلاة المصلي، ولا يختصُّ بالمارِّ، وهما وإن كانا موقوفينِ لفظًا فحُكْمُهُمَا حكمُ الرَّفع،؛ لأنَّ مثلهُما لا يُقَالُ من قِبَلِ الرَّأي. انتهى.
          وقال النَّوَوِيُّ في ((شرحِ مسلم)) في بيانِ قوله صلعم: «إِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ، فَلْيُصَلِّ وَلَا يُبَالِ مَنْ مَرَّ وَرَاءَ ذَلِكَ» وفي الحديثِ النَّدبُ إلى السُّترةِ بين يدي المصلِّي، وبيانُ أن أقلَّ السترة كمؤخرةِ الرَّحْلِ، وهي قدرُ عظمِ الذِّراعِ، وهو نحو ثُلثَي ذِرَاعٍ.
          قالَ العلماءُ: والحكمةُ في السترةِ كفُّ البصرِ / عمَّا وراءه، ومنعُ من يجتازُ بقربه، وإذا صلَّى إلى سترةٍ منعَ غيره من المرورِ بينه وبينها.
          ويحرُمُ أي على المارِّ المرورَ بينه وبينها، فلو لم يكن سَتَرَهُ أو تباعدَ عنها، فقيل: له مَنْعُهُ.
          والأصحُّ أنه ليسَ له لتقصيره، ولا يحرمُ حينئذٍ المرور بين يديهِ، لكن يكرَهُ لو وجدَ الداخلُ فُرْجَةً في الصفِّ الأولِ، فله أن يمرَّ بين يدي الصف الثاني ويقفُ فيها؛ لتقصيرِ أهل الصف الثاني بتركِهَا، والمستحبُّ أن يجعلَ السترةَ عن يمينهِ أو شِمالهِ، ولا يضمُّ لها، واللهُ أعلم. انتهى.
          قالَ الشيخُ ابنُ الهُمَامِ في ((شرحِ الهدايةِ)): لا بأس بتركِ السترةِ إذا أمنَ المرورَ.
          وقالَ أيضًا في بيانِ إِثْمِ المارِّ: وإنما يأثمُ إذا مرَّ في موضعِ سجودِه على ما قيلَ، ولا يكونُ بينهما حائلٌ.
          قيل: هذا هو الأصحُّ لأن من قدَّمَهُ إلى موضعِ سجوده هو موضعُ صلاتِهِ، ومنهم من قدَّرَهُ بثلاثةِ أذرعٍ، ومنهم بخمسة، ومنهم بأربعين، ومنهم بمقدارِ صفَّين أو ثلاثةٍ.
          وفي ((النهايةِ)): الأصحُّ إن كان بحالٍ لو صلَّى صلاةَ الخاشعينَ، نحو أن يكون بصرُهُ في قيامهِ في موضعِ سجودِهِ وفي موضعِ قدميهِ في ركوعِهِ، وإلى أرنبةِ أنفهِ في سجودِهِ، وفي حِجْرِهِ في قعودهِ وإلى منكبهِ في سلامِهِ، لا يقعُ بصره على المارِّ لا يُكْرَهُ.
          وقالَ أيضًا: ثم ذكرَ شيخُ الإسلامِ هذا الحدَّ الذي ذكرناه، إذا كان يُصلِّي في الصحراءِ، أما في المسجدِ فالحدُّ هو المسجدُ إلا أن يكون بينه وبين المارِّ أسطوانةٌ أو غيره؛ يعني إن لم يكن بينهما حائلٌ، فالكراهةُ ثابتةٌ إلا أن يخرجَ من حدِّ المسجدِ فيمرَّ فيما ليس بمسجدٍ.
          وفي ((جوامعِ الفقهِ)): في المسجدِ يُكْرَهُ، وإن كان بعيدًا.
          وفي ((الخلاصة)): وإذا كان في المسجدِ لا ينبغي لأحدٍ أن يمرَّ بينه وبين حائطِ القبلةِ.
          وقالَ بعضُهُمْ: يمرُّ ما وراءَ خمسين / ذراعًا.
          وقال بعضُهُمْ: قدرُ ما بين الصفِّ الأول وحائطِ القبلةِ، ومنشأُ هذه الاختلافاتِ ما يُفْهَمُ من لفظ: «بَيْنَ يَدَي المُصَلِّي»، فمن فَهِمَ بأنَّ بين يديهِ يخصُّ بينه وبين محلِ سجوده قال به، ومن فَهِمَ أنه يصدقُ مع أكثرَ من ذلك نفاهُ وعيَّن ما(5) وقعَ عندَهُ.
          والذي يظهرُ ترجيحُ ما اختارَ في ((النهاية)) من مختارِ فخرِ الإسلام وكونِهِ من غير تفصيلٍ بين المسجدِ وغيره. انتهى.
          قال القسطلانيُّ: ولا فرقَ في منعِ المرورِ بين يدي المصلِّي بين مكةَ وغيره.
          نعم واغتفرَ بعضُهم ذلك للطائفينَ دون غيرهم للضرورةِ.
          وزادَ في ((الفتحِ)): وعن بعضِ الحنابلةِ جوازُ ذلك في جميعِ مكَّةَ.
          وقال أيضًا في شرح حديث: «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ؟ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» [خ¦510]: قال أبو النصرِ: لا أدري قالَ أربعينَ يومًا أو شهرًا أو سنةً.
          قال في ((الفتح)): نقلًا عن الكِـَرْمَانِيِّ: وأبْهمَ المعدودَ تفخيمًا للأمرِ وتعظيمًا.
          قلتُ: ظاهرُ السِّياقِ أنه عيَّنَ المعدودَ لكن شكَّ الراوي فيه.
          ثم أبدى الكِـَرْمَانِيُّ لتخصيصِ الأربعينَ بالذكر حِكْمَتَيْنِ:
          أحدُهُما: كونُ الأربعةِ أصلُ جميعِ العددِ، فلما أُرِيْدَ التكثيرُ ضُربت في عشرة.
          ثانيهما: كونُ كمالِ أطوارِ الإنسانِ بأربعين كالنُّطفةِ والمضغَةِ والعلقَةِ، وكذا بلوغُ الأشدِّ، ويحتملُ غيره ذلك. انتهى.
          وفي ابن ماجَه وابنُ حِبَّانَ من حديثِ أبي هريرةَ: «لَكَانَ أَنْ يَقِفَ مِائَةَ عَامٍ خَيْرًا لَهُ مِنَ الْخُطْوَةِ الَّتِي خَطَاهَا»، وهذا مشعرٌ بأن إطلاقَ الأربعينَ للمبالغةِ في تعظيمِ الأمرِ لا بخصوصِ عددٍ مُعَيَّنٍ.
          وقالَ أيضًا نقلًا عن النَّوَوِيِّ: / فيه دليلٌ على تحريمِ المرورِ، فإن مَعْنَى الحديثِ النهي الأكيد والوعيدِ الشديدِ على ذلك. انتهى.
          ومقتضى ذلك أن يعدَّ في الكبائرِ.
          وقال أيضًا في ((الفتح)): تنبيهاتٌ:
          أحدُها: استنبطَ ابنُ بَطَّالٍ من قوله: ((لو يعلم)) أنَّ الإثم يختصُّ بمن يَعْلمُ بالنهي وارتكبهُ، انتهى. وَأَخْذُهُ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ بُعْدٌ لَكِنْ هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى.
          ثانيها: ظاهرُ الحديثِ أن الوعيدَ المذكورَ يَخْتَصُّ بمن مرَّ لا بمَنْ وقف عامدًا مثلًا بين يدي المصلي أو قعدَ أو رَقَدَ، لكن إن كانت العلةُ فيه التَّشويش على المصلي فهو في معنى المارِّ.
          ثالثها: ظاهرهُ عمومُ النهي في كلِّ مُصَلٍ، وخصَّهُ بعضُ المالكيةِ بالإمامِ والمُنْفَرِدِ؛ لأنَّ المأمومَ لا يضرُّهُ من يمرُّ بين يديهِ لأنَّ سُتْرَةَ إِمَامِهِ سُتْرَةٌ لهُ. ثم قال: والتعليلُ المذكورُ لا يُطابقُ المدَّعى؛ لأن السترةَ تفيدُ رفعَ الحرج عن المصلي لا عن المارِّ، فاستوى الإمامُ والمأمومُ والمنفردُ في ذلك.
          رابعها: ذكرَ ابنُ دَقِيْقِ العيدِ أن بعضَ الفقهاءِ قسَّمَ أحوالَ المارِّ والمصلي في الإثمِ وعدمهِ إلى أربعة أقسامٍ، يأثمُ المارُّ دونَ المصلي وعكسه، يأثمان جميعًا وعكسُهُ، فالصورةُ الأولى: أن يُصلي إلى سترةٍ في غير مَشْرَعٍ، وللمارِّ مندوحةٌ فيأثمُ المارُّ دونَ المصلي.
          الثانية: أن يُصلي في مَشْرَعٍ مَسْلُوْكٍ بغير سُترةٍ أو متباعدًا عن السترةِ ولا يجدُ المارُّ مندوحةً فيأثمُ المصلي دون المارِّ.
          الثالثةُ: مثل الثانية، لكن يجدُ المارُّ مندوحةً فيأثمانِ جميعًا.
          الرابعة: مثلُ الأولى، لكن لا يجدِ المارُّ مندوحةً فلا يأثمانِ جميعًا. انتهى.
          وظاهرُ الحديثِ يدلُّ على منعِ المرور مطلقًا، ولو لم يجدْ مَسْلَكًا بل يقف حتى يفرغَ المصلي من صلاتهِ. انتهى.
          وفي ((مُنْيَةِ المُصَلِّي)): وتُكْرَهُ الصلاةُ / في الصحراءِ من غير سترةٍ إذا خاف المرورَ بين يديه، ينبغي أن يكونَ كراهةَ تحريمٍ لمخالفةِ الأمرِ المذكورِ. انتهى.
          قال ابن نُجَيْمٍ في ((شرحِ الكنز)): لكن في ((البدائعِ)): والمستحبُّ لمن يصلي في الصحراءِ أن ينصبَ شيئًا يسترُهُ، فإذًا الكراهةَ تنزيهيةٌ، فحينئذٍ كان الأمرُ للندب، لكن يحتاج إلى صارفٍ عن الحقيقةِ.
          قال العلامةُ الحلبيُّ في ((شرحِ المُنْيَةِ)): إنما قيَّدَ بقوله: "في الصَّحراء" لأنها المحلُّ الذي يقع فيه المرورُ أيَّ موضعٍ كان.
          وفيه أيضًا أن من السنةِ غَرْزُهَا إن أمكنَ، وقال أيضًا: إن في استنانِ وضعِهَا عند تعذُّرِ غرزِهَا اختلافًا، فاختارَ في ((الهدايةِ)) أنه لا عبرةَ بالإلقاءِ.
          وقيل: يُسَنُّ الإلقاءُ واختارهُ القدوسيُّ عن أبي يوسفَ، ثم قيل: يضعهُ طولًا لا عرضًا ليكونَ على مثال الغرزِ، فإذا لم يتخذْ سترةً فهل ينوب الخطُّ بين يديه؟
          فيه روايتانِ: الأول: أنه ليس بمسنونٍ.
          والثانية: عن محمدٍ أنه يخطُّ لحديثِ أبي داودَ: «فإن لم يكنْ معه عَصًا فليخطَّ خطًّا».
          وفيه أيضًا: إنَّ تَرْكَ الدَّرْءِ أفضلُ لما في ((البدائعِ))، ومن المشايخِ من قال: إنَّ الدرءَ رخصةٌ، والأفضلُ أنه لا يُدْرَءَ، لأنه ليس من أعمالِ الصلاةِ، وكذا رواهُ المَاتُرِيْدِيُّ عن أبي حنيفةَ، والأمرُ بالدَّرْءِ في الحديث لبيانِ الرُّخصةِ، كالأمر بقتلِ الأسودينِ.
          وذكر الشارحُ عن السَّرَخْسِيِّ أن الأمرَ بالمقاتلةِ محمولٌ على الابتداءِ، حتى كان العملُ فيها مباحًا. انتهى.
          وقال النَّوَوِيُّ في ((شرحِ مسلمٍ)): قولهُ صلعم: «يَقْطَعُ الصَّلاَةَ الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ الَأسْوَد» اختلفَ العلماءُ في هذا، فقال بعضهمُ: يقطعُ هؤلاءِ الصلاةَ، وقال أحمدُ بن حَنْبَلٍ ☺: يقطعُهَا الكلبُ [الأسود]، وفي قلبي من الحمارِ والمرأةِ شيءٌ، وَوَجْهُهُ / قولُه: إِنَّ الكلبَ لم يجئْ فيه من الترخيصِ شيءٌ يعارضُ هذا الحديثَ، وأما المرأةُ ففيها حديثُ عائشةَ المذكورِ بعد هذا، وفي الحمارِ حديثُ ابن عباسٍ. انتهى.
          وأشارَ الطَّحَاوِيُّ إلى أن صلاتَهُ صلعم إلى أزواجهِ ناسخةٌ لِكُلِّ ذلكَ.
          قالَ ابن الهُمَامِ: وصحَّ عن ابن عباسٍ ☻ أنه قالَ: أتيتُ رسولَ الله صلعم، وهو يصلي، فنزلتُ عن الحمار ِوتركتُهُ أمامَ الصفِّ فما بَالاهُ. انتهى.
          وعنهُ: وفي روايةِ أخرى بعد قولهِ: «فما بَالاه» وجاءتْ جاريتانِ من بني عبدِ المطلِبِ فدخَلَتَا بين الصفِّ فما بالا ذلكَ.
          وأخرجَ النَّسائيُّ في حديثِ فضلِ بن عباسٍ قالَ: رَأَى النَّبِيُّ صلعم عَبَّاسًا، في بَادِيَةٍ لَنَا وَلَنَا كَلْبَةٌ وَحِمَارٌ، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلعم العَصْرَ، وهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَمْ يَزْجُرْ وَلَمْ يُؤَخِّرْ.
          وقال مالكٌ وأبو حنيفةَ والشافعيُّ ♥وجمهورُ العلماءِ من السَّلَفِ والخَلَفِ لا تبطلُ الصلاةُ بمرورِ شيءٍ من هؤلاءِ ولا من غيرهم، وتَأَوَّلَ هؤلاءِ هذا الحديثَ على أن المرادَ بالقطعِ نقصُ الصلاةِ لِشَغْلِ القلبِ بهذه الأشياِء، وليس المرادُ إِبْطَالَهَا. انتهى.
          وأمَّا حديثُ عائشةَ الذي أشارَ إليه النوويُّ فهو ما ذكرهُ بقولهِ عن عائشةَ ♦ أنها قالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلعم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ وأنا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ، كَاعْتِرَاضِ الجَّنَازَةِ» استدلَّتْ به عائشةُ والعلماءُ بعدَها على أن المرأةَ لا تقطعُ صلاةَ الرجل، وفي جوازِ صلاتهِ إليها.
          وكَرِهَ العلماءُ أو جماعةٌ منهم الصلاةَ إليها لغيرِ النبي صلعم لخوفِ الفتنةِ بها، وتذكُّرِها، واشتغالُ القلب بها بالنظرِ إليها.
          وأمَّا النبيُّ صلعم فمُنَزَّهٌ عن هذا كُلِّهِ في صلواتِهِ، مع أنه كان في الليلِ، والبيوتُ يومئذٍ ليس فيها مصابيحٌ. /
          ثم قالَ النَّوَوِيُّ في شرحِ حديث آخر عن عائشة ♦ قولها: «كَانَ النَّبِيُّ صلعم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ وَأَنَا حَائِضٌ، وَعَلَيَّ مِرْطٌ وَعَلَيْهِ بَعْضُهُ إِلَى جَنْبِهِ».
          المِرْطُ كِسَاءٌ، وفي هذا دليلٌ على أن وقوفَ المرأةِ بجنبِ المصلي لا يُبْطِلُ صلاتَهُ، وهو مذهبنا ومذهبُ الجمهورِ وأبطلَها أبو حنيفةَ. انتهى.
          قلتُ: والعجبُ كلُّ العجبِ من نسبةِ بطلانِ الصلاةِ إلى أبي حنيفةَ ⌂ في أثناءِ ذكرِ الحديث المذكورِ، فإن المتبادرَ منه بطلانُ الصلاةِ في الصورة المذكورة عند الإمامِ أبي حنيفةَ، وليس هذا مذهبُهُ ولا مذهبُ أحدٍ من أصحابهِ، كما لا يَخفى على من طالعَ كتب الحنفيةِ، بل عندَهم: لو مسَّ بدنَ الرَّجُلِ بَدَنَهَا في الصورةِ المذكورةِ لصحَّتْ صلاتُهُ، وعند الشافعيةِ تبطلُ صلاةُ الرجلِ في هذه الصورةِ لبطلانِ طهارتِهِ بالمسِّ، فإن بطلاَن الصلاةِ بمحاذاةِ المرأة عند الحنفيةِ مشروطٌ بسبعِ شروطٍ لو اختلَّ شرطٌ منها لم تبطلِ الصلاةُ.
          قال في ((شرحِ الكنز المختصرِ من الزَّيْلَعِيِّ)) للشيخِ قاسمٍ الحنفيِّ: وقد تَضَمَّنَتْ هذه المسألةُ شروطًا سبعةً:
          الأول: أن تكونَ المُحَاذِيَةُ مُشْتَهَاةً، فقيلَ بنتُ تسعٍ ، نظرًا [إلى] بنائِهِ ◙ بعائشةَ ♦، والأصحُّ أن تصلحَ للجماعِ بأن تكون ضخمةً عبلةً، ولا فرقَ بين المَحْرَمِ والأجنبيةِ، ولا تفسدُ بالمجنونة لعدم جوازِ صلاتها.
          الثاني: أن تكونَ الصلاةُ مُطْلَقَةً، وهي ذاتُ ركوعٍ وسجودٍ.
          الثالثُ: أن تكونَ الصلاةُ مُشتركةً بينهما تحريمةً وأداءً، بأن يكونا بَانِيينَ تحريمهما على تحريمةِ الإمامِ.
          الرابعُ: أن يكونا في مكانٍ واحدٍ بلا حائلٍ، وأدناه / قَدْرُ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ، والفُرْجَةُ تقومُ مقامَ الحائلِ، وأدناهُ قَدْرُ ما يقوم فيه الرجلُ.
          الخامس: أن ينوي الإمامُ إمامَتَها، وإمامةُ النساءِ وقت الشروعِ، ولو نوى النساءَ إلَّا واحدةً بعينها فحاذتهُ لا تفسدُ صلاتُهُ، ورُوِيَ ذلك عن أبي يوسفَ.
          السادسُ: لم يذكرْهُ في ((المختصرِ)): وهو أن تكون المحاذاةُ في ركنٍ كاملٍ، وفي ((ملتقطِ البخاريِّ)): يُشْتَرَطُ أن يؤدِّي ركنًا مجازيَّةً عند محمدٍ، وعندَ أبي يوسفَ لو وقفتْ مقدارَ ركنٍ فَسَدَتْ وإن لم تؤذِ.
          السابعُ: لم يذكره أيضًا في ((المختصر)): وهو أن يكونَ جهتهما متحدةً حتى لو اختلفتْ لا تَفْسُدُ، ولا يتصورُ اختلافُ الجهةِ إلا في الكعبةِ، أو في ليلةٍ مُظْلِمَةٍ، وصلَّى كلُّ واحدٍ بالتَّحري إلى جهةٍ. انتهى.
          ومما يَسْتَدِلُّ به الحنفيةُ على بطلانِ الصلاةِ بمحاذاةِ المرأة على التفصيلِ المذكورِ قيامُ أمُّ المؤمنينَ عائشةُ ♦ وحدَهَا خلفَ ابن عباسٍ في صلاتها مع النبيِّ صلعم، وإِقَامَةُ النبيِّ صلعم النساءَ عن يمينهِ، وإقامتُهُ أمةً خلفَهُ في حديثِ أبي هريرةَ ☺: «أَقِيمُوا الصَّفَّ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، سُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَهُ قَطَعَهُ اللهُ»، فلو كانَ قيامُ المرأةِ بجنب الرجلِ جائزًا في صلاتِها مع الإمامِ لَمَا أمكنَ انفرادُ عائشةَ ♦ عن الصفِّ، ولَمَا أقامَ النساءَ عن يمينهِ، وأقامَ آخر َخلفه وحدها، فتجويزهُ صلعم انفرادَ المرأةِ مع دعائهِ صلعم بالقطعِ على من قطعِ الصفِّ دليلٌ على تحريم اقترانِها بالرجلِ في الصلاة مع الإمامِ / كما لا يخفى، فاحفظْهُ.
          فإن قُلتَ: فما وجهُ التخصيصِ بفسادِ صلاة الرجل دونَ المرأةِ عندَ الحنفيةِ.
          قلتُ: وجهُ ذلكَ تركه التقدُّمَ المأمور به في قولهِ صلعم: «لِيَلِيَنِي أُولُو الْأَحْلَامِ مِنْكُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم»، وقوله صلعم: «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللهُ»، فإن الخطابَ واردٌ في حقِّ الرجلِ دونَ المرأةِ، فهو إذا حاذى المرأةَ في صلاتِها مع الإمامِ فسدَتْ صلاتُهُ دون صلاتِها، فافهمْ وباللهِ التوفيقُ.
          وقال المحققُ ابنُ الهُمَامِ: وأما مُحَاذَاتُهَا في الصلاةِ دونِ اشتراكٍ فمُوْرِثٌ الكراهةَ.


[1] هنا ينتهي كلام الكرماني.
[2] في المخطوط: «الراوي» وما أثبته من فتح الباري الذي نقل عنه المصنف.
[3] في المخطوط: «المار».
[4] في المخطوط: «من».
[5] في المخطوط: «وغيره».