كفاية القاري في شرح ثلاثيات البخاري

حديث سلمة: من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة

          الحديثُ الثامنُ عشرَ:
          من ثلاثياتِ البخاريِّ: هو ما أخرجهُ في كتابِ الأضاحِي، في (بابِ ما يُؤكلُ من لحومِ الأضاحي وما يتزوَّدُ منها) فقال: (حَدَّثَنَا أَبُوْ عَاصِمٍ) الضَّحاكُ النبيلُ السابقُ ذِكْرُهُ (عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْد) بضم العين (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ).
          قالَ في ((الفتح)) في كتاب الأضاحي: هي جمعُ أُضْحِيَةٍ بضمِّ الهمزةِ ويجوزُ كسرُها، ويجوزُ حذفُ الهمزةِ، فيُفتحُ الضادُ والجمعُ ضَحَايَا، وهي أضحاةٌ والجمعُ أَضحىًن وبه سُمِّيَ يومُ الأضحَى وهو يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، وكأنَّ تسميتَها اشتُقَّتْ من اسمِ الوقتِ الذي تُشْرَعُ فيهِ.
          (فَلاَ تُصْبِحَنَّ) بالصادِ المهملةِ والموحدَةِ المكسورةِ (بَعْدَ ثَالِثَة) من اللَّيالي من وقتِ التضحيةِ (وَفِيْ بَيْتِهِ) ولأبي ذرٍّ: «وبقي في بيتهِ» (مِنْهُ) من الذي يُضَحَّى به (شَيْءٌ) من لحمهِ (فَلَمَّا كَانَ العَامُ المُقْبِلُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا عَامَ المَاضِي؟) من تركِ الإدخارِ، وفي بعضِ النُّسخِ: «العامَ الماضِي»، بلا إضافةٍ، قد يُقالُ لما حرَّم عليهم الإدخارَ فوقَ ثلاثةٍ / وعملوا بمقتضى ذلكَ، كانَ الظاهرُ أنهم يستمرون عليهِ كلَّ عامٍ ولا يعاودونه السؤالَ ثانيًا.
          قال ابنُ المُنَيِّر: وكأنهم فهموا أن النهيَ عن ذلكَ كانَ على سببٍ خاصٍّ وهو الرأفةُ، وإذا وردَ العامُّ على سببٍ خاصٍّ حاكَ في النفسِ من عُمُوْمِهِ وخصوصِهِ إشكالٌ، فلمَّا كان مظنَّةَ الاختصاصِ عاودوا السؤالَ فبيَّنَ لهم صلعم أنه خاصٌّ بذلك السببِ، ويُشْبِهُ أن يَستدلَّ بهذا من يقولُ إن العامَّ يَضْعُفُ عمومُهُ بالسببِ فلا يبقى على أصالتِهِ ولا ينتهي به إلى تخصيصِ، ألا ترى أنهم لو اعتقدوا بقاءَ العمومِ على أصالتِهِ لما سألوا، ولو اعتقدوا الخصوصَ أيضًا لما سألوا، فسؤالهمُ يدلُّ على أنه ذو شأنينِ، وهذا اختيارُ الإمامِ الجوينيِّ.
          (قَالَ) صلعم (كُلُوْا وَأَطْعِمُوْا) بهمزةِ قطعٍ وكسرِ العينِ المهملةِ (وَادَّخِرُوْا) بالدالِ المهملةِ المشدَّدةِ (فَإِنَّ ذَلِكَ العَامَ) الواقعُ فيه النهيُّ (كَانَ بِالنَّاسِ جَهْد) بفتحِ الجيم: أي مشقةٌ (فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا) الفقراءَ (فِيهَا) للمشقةِ المفهومةِ من الجهدِ.
          والأمرُ في قوله: «كُلُوْا وَأَطْعِمُوْا» للإباحةِ. قالَ في ((الفتحِ)): تمسَّكَ به من قالَ بوجوبِ الأكلِ من الأضحيةِ ولا حجةَ فيه؛ لأنه أمرٌ بعد حظرٍ فيكونُ للإباحةِ.
          وقال في موضعٍ آخرَ: ولا خلافَ في كونِها من شرائعِ الدينِ، وهي عندَ الشافعيِّ [والجمهور] سنةٌ مؤكَّدَةٌ على الكفايةِ، وفي وجهٍ للشافعيةِ من فروضِ الكفايةِ، وعن أبي حنيفةَ: تجبُ على المقيمِ المُوْسِرِ، وعن مالكٍ مثلُهُ، وفي روايةٍ لكن لم يُقيدْ بالمقيمِ، ونُقِلَ عن الأوزاعيِّ وربيعةَ والليثِ مثلهُ، وخالفَ أبو يوسفَ من الحنفيةِ وأشهبُ من المالكيةِ فوافقَا الجمهورَ، وقال أحمدُ: يُكْرَهُ تركُها مع القدرةِ، وعنهُ واجبة، وعن محمدِ بن الحسنِ: هي سنةُ عينٍ مُرخصٍ في تركِها، / وأقربُ ما يُتَمَسَّكُ به للوجوبِ حديثُ أبي هريرةَ رفعهُ: «مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» أخرجهُ ابن ماجَه وأحمدُ ورجالُهُ ثِقَاتٌ، ومثل هذا الوعيدِ لا يلحقُ بتركِ غير الواجبِ.