كفاية القاري في شرح ثلاثيات البخاري

حديث سلمة: لما أمسوا يوم فتحوا خيبر أوقدوا

          الحديثُ السابعُ عشرَ:
          من ثلاثياتِ الإمامِ البخاريِّ: هو ما أخرجهُ في كتابِ الذبائحِ، في ((بابِ آنيةِ المَجوسِ)): (فَقَالَ: حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) / البلخيُّ (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ)الأسلميُّ بن الأكوعِ (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ: لَمَّا أَمْسَوْا يَوْمَ فَتَحُوا خَيْبَرَ، أَوْقَدُوْا النِّيرَانَ، قَالَ النَّبِيُّ صلعم: «عَلَى مَا) بألفٍ بعد الميمِ، ولأبي ذرٍّ عن الكشمهيني: «عَلَامَ» (أَوْقَدْتُمْ هَذِهِ النِّيْرَانِ) وقد تقدمَ أنه حاصلُ معنى هذا الكلامِ على أي شيءٍ سلَّطتم هذه النيرانِ ليُفهمُ منه معنى الإستعلاءِ (قَالُوا: لُحُوْمِ) بالجر أي: على لحوم (الحُمُرِ الإنْسِيَّةِ) بفتحِ الهمزةِ والنونِ وبكسرِ الهمزةِ وسكونِ النونِ، وسقطَ لفظُ الحمرِ لأبي ذرٍّ (قَالَ صلعم: أَهْرِيْقُوْا) بهمزةٍ مفتوحةٍ، ولأبي ذرٍّ: هريقوا (مَا فِيْهَا، وَاكْسِرُوْا قُدُوْرَهَا) مبالغةً في الزجرِ، وسقط قوله: واكسروا قدورهَا، لابنِ عساكر (فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ، فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، نُهَرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا؟ [فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: أَوْ ذَاكَ] بسكونِ الواوِ، إشارةً إلى تخييرٍ بين الكسرِ والغسلِ، وغلظ "أو" حسمًا للمادةِ، فلما سلموا الحكمَ وضعَ عنهم الإصرَّ.
          والأمرُ بغسلِها حكمٌ بالتَّخييرِ، فيُستفادُ منه تحريمُ أكلِها، وهو دالٌ على تحريِمها لعِينِهَا لا لمعنى خارجٍ.
          وسقط لغيرِ أبي ذرٍّ وابنِ عساكر لفظُ النبيِّ صلعم فدلَّ هذا الحديثُ على تحريمِ الحمرِ الأهليةِ، وهو مذهبُ الجمهورِ، وأما مَنْ خالفهم فاستدلَّ بأحاديثٍ ذكرَها في الفتح، وأجابَ عنها حيثُ روى ابنُ عبَّاسٍ ☻، قالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا، فَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ صلعم وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ وَأَحَلَّ / حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، فَمَا أَحَلَّ فِيهِ فَهُوَ حَلَالٌ وَمَا حَرَّمَ فِيهِ فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ. وَتلا هذه الآية: {قُلْ لَا أَجِدُ} إِلَى آخِرِهَا [الأنعام:145].
          والاستدلالُ بهذا الحلِّ إنما لم يتمَّ فيما لم يأتِ فيه نصٌّ عن النبيِّ صلعم بتحريمهِ، وقد تواردَتْ الأخبارُ بذلكَ والتنصيصُ على التحريمِ مُقدمٌ على عمومِ التحليلِ وعلى القياسِ، وقد تقدَّمَ في ((المغازي)) [خ¦4227] عن ابنِ عبَّاسٍ أنه توقَّفُ في النَّهي عن الحُمرِ هل كانَ لمعنى خاصٍّ أو للتأييد، ففيه عن الشعبيِّ عنهُ أنه قال: لا أدري أَنَهَى عنهُ رسول الله صلعم من أجل أنهُ كان حمولةَ الناسِ فَكَرِهَ أن تذهبَ حمولَتهم أو حرَّمها البَتَّةَ يومَ خيبرَ! وهذا التَّرددُ أصحُّ من الخبرِ الذي جاءَ عنه بالجزمِ للعلة المذكورة، وكذا فيما أخرجهُ الطَّبرانيُّ وابنُ ماجه من طريقِ شقيقِ بن سلمةَ عن ابنِ عباسٍ. «قَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلعم الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ مَخَافَةَ قِلَّةِ الظَّهْرِ» وسندُهُ ضعيفٌ، وتقدَّمَ في المغازي أيضًا في حديثِ ابن أبي أَوفى: فتحدثَنا أنهُ إنما نَهى عَنها لأنها كانتْ لم تُخمس.
          وقالَ بعضهم: نهى عنها لأنها كانت تأكلُ العُذْرَةَ.
          قلتُ: هذه الإحتمالاتُ من كونها لم تُخمسْ أو كانت جَلَّالَةً، أو كانت انْتُهِبَتْ لحديث أنسٍ قبل هذا حديث: «فَإِنَّهَا رِجْسٌ» وكذا الأمرُ بغسلِ الإناءِ في حديثِ سلمةَ، قالَ القرطبيُّ: قوله «فَإِنَّهَا رِجْسٌ» ظاهرٌ في عودِ الضميرِ على الحُمر؛ لأنها المتحدثُ عنها المأمورُ بإكفائها من القدورِ وغسلِها، وهذا حكمُ المتنجسِ فيستفادُ منه تحريمُ أكلِهَا، وهو دالٌّ على تحريِمها بِعينها لا لمعنى خارجٍ.
          وقال ابنُ دقيقِ العيدِ: / الأمرُ بإكفائهِ القدورَ ظاهرٌ أنه سببُ تحريمِ لحمِ الحُمُرِ، وقد وردَتْ عِلَلٌ أُخرى إن صحَّ رفعُ شيءٍ منها وجبَ المصيرُ إليهِ، لكن لا مانعَ أن يُعَلَّلَ الحكمُ بأكثرِ من عِلَّةٍ، وحديثُ أبي ثعلبةَ صريحٌ في التحريمِ فلا يُعْدَلُ عنهُ، وأمَّا التعليلُ بخشيةِ قِلَّةِ الظهرِ فأجابَ عنهُ الطَّحاويُّ بالمعارضةِ بالخيلِ، فإنَّ في حديثِ جابرٍ النهيُ عن الحُمُرِ والإذنُ في الخيلِ مقرونًا، ولو كانت العلةُ لأجلِ الحمولةِ لكانت الخيلُ أولى بالمنعِ لقلَّتِهَا عندهُم وعِزَّتِهَا وشدَّةِ حاجَتهم إليها، فالجوابُ عن آيةِ الأنعامِ أنها مكيةٌ، وخبرُ التَّحريمِ متأخرٌ جدًا، فهو مقدمٌ، وأيضًا فنصُّ الآيةِ خبرٌ عن الحكمِ الموجودِ عند نزولها فإنَّهُ حينئذٍ لم يكنْ نزلَ في تحريمِ المأكولِ إلا ما ذُكر فيها، وليس فيها ما يمنعُ أن يُنزَّلَ بعد ذلكَ غيرُ ما فيها، وقد أنزلَ بعدها في (المدينةِ)(1) أحكامٌ بتحريمِ أشياءَ غيرَ ما ذُكِرَ فيها كالخمرِ في آيةِ المائدةِ. وفيها أيضًا تحريمُ ما أُهِلَّ لغيرِ اللهِ به والمُنْخَنِقَةُ إلى آخرِهِ، وكتحريمِ السِّباعِ والحشراتِ.
          قال النوويُّ: قالَ بتحريمِ الحُمُرِ الأهليةِ أكثرُ العلماءِ من الصحابةِ فمن بعدهم، ولم نجدْ عن أحدٍ من الصحابةِ في ذلكَ خلافًا لهم إلا عن ابن عباسٍ، وعندَ المالكيةِ ثلاثُ رواياتٍ ثالثُها الكراهةُ، وأما الحديثُ الذي أخرجهُ أبو داودَ عن غالبِ بنِ أَبْجَرَ: أَصَابَتْنَا سَنَة،
          فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي مَا أُطْعِمُ أَهْلِي إِلَّا سِمَانَ حُمُرٍ، فَأَتَيْتُ رَسولَ اللهِ صلعم فَقُلْتُ: إِنَّكَ حَرَّمْتَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَقَدْ أَصَابَتْنَا سَنَةٌ، قَالَ: أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ حُمُرِكَ فَإِنَّمَا / حَرَّمْتُهَا مِنْ أَجْلِ حَوَالَيِ الْقَرْيَةِ يَعْنِي الْجَلَّالَةُ. وإسنادهُ ضعيفٌ والمتنُ شاذٌّ مخالفٌ للأحاديثِ الصحيحةِ فالاعتماد عليها.
          وأمَّا الحديثُ الذي أخرجهُ الطبرانيُّ عن أُمِّ نصرٍ المُحاربيةُ أن رجلًا سألَ رسولَ اللهِ صلعم عَنْ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، قال: أليسَ تَرْعَى الكَلَأَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَصِبْ مِنْ لُحُوْمِهَا.
          وأخرجهُ ابنُ أبي شَيْبَةَ من طريقِ رجلٍ من بَني مُرَّةَ، قَالَ: سَأَلْتُ..، فذكرَ نحوهُ، ففي السندينِ مقالٌ، ولو أُثْبِتَا احتملَ أن يكونَ قبل التحريمِ.
          قالَ الطَّحَاوِيُّ: لولا تواترُ الحديثِ عن رسول الله صلعم بتحريمِ الحُمُرِ الأهليةِ لكانَ النظرُ يقتضي حِلَّهَا؛ لأنَّ كلَّمَا حُرِّمَ من الأهلي أُجْمِعَ على تحريمهِ إذا كانَ وحشًا كالخنزيرِ، وقد أُجْمِعَ على حِلِّ الحمارِ الوحشيِّ فكان النظرُ يقتضي حِلَّ الحمارِ الأهليِّ.
          وفي الحديثِ فوائدٌ:
          منها: أن الذَّكاةَ لا تُطهر ما لا يحلُّ أكلُهُ، فإن قلت يلزم من هذا ردُّ مذهب الحنفية حيث قالوا: تطهرُ لحمِ السباعِ بالذكاةِ. قلتُ: ذكر في الخلاصةِ أن المختارَ عدمُ طهارةِ لحوم السباعِ بالذكاةِ. انتهى. فمن قالَ منهم بطهارتهِ يَحملُ الأمرَ بغسلِ القدورِ على المبالغةِ في تحريمِ اللحومِ، فهو كالأمرِ بكسرِ القدورِ، فإنهُ للمبالغةِ في الإنزجارِ عنه بالاتفاقِ.
          منها: أنَّ كلَّ شيءٍ ينجسُ بملاقاةِ النجاسةِ يكفي غسلهُ مرةً واحدةً؛ لإطلاقِ الأمرِ بالغسلِ فإنه يصدق الإمتثالَ بالمرةِ، والأصلُ أن لا زيادةَ عليها، فإن قلتَ هذا أيضًا يُشْكِلُ على الحنفيةِ حيث قالوا بتثليثِ الغسلِ مع العصرِ. قلتُ: إنما اشترطوا ذلكَ / فيما يُتوهمُ فيه عدمُ زوالِ النجاسةِ، وأما ما يتحققُ فيه زوالُ أثرِهِ بمرَّةٍ فلا يشترطونَ فيه التثليثَ.
          ومنها: أن الأصلَ في الأشياءِ الإباحةِ لكون الصحابةِ أقدموا على ذبحِهَا وطبخِها كسائرِ الحيوانِ من قبل أن يستأمروا مع توفُّرِ دواعِيهم على السؤالِ عما يُشْكِلُ.
          ومنها: أنه ينبغي لأميرِ العسكرِ تفقدُ أحوالِ رعيتِهِ، ومن رآهُ فعلَ ما لا يسوغُ في الشرعِ أشاعَ مَنَعَهُ، إما بنفسهِ كأن يَخطبَهُم وإما بغيره، وأما بأن يأمرَ مناديًا فينادي لئلا يغترَّ به من رآهُ فيظنهُ جائزًا.
          فإن قلتَ: فإذا ثبتَ تحريمُ لحومِها فلماذا قالت الحنفيةُ بتشكيكِ سؤرِها؟
          قلتُ: وقد أوضحَ بيانَ ذلكَ الإمامُ ابنُ الهمامِ في ((شرحِ الهداية)) حيثُ قال: وسببُ الشكِّ تعارضُ الأدلةِ في إباحتهِ وحرمتِهِ، فحديثُ خيبرَ في إلقاءِ القدورِ وفي بعضِ رواياته أنه ╕ أمرَ مناديًا ينادي بإكفائها فإنها رجسٌ، رواه الطحاويُّ وغيره يفيدُ الحرمةَ، وحديثُ غالبِ بن أَبْجَرَ، حيث قالَ له ╕: «هَلْ لَكَ مِنْ مَالٍ؟» فقالَ: ليسَ لي من مالٍ إلا حميراتٍ لي، فقالَ ╕: «كُلْ مِنْ سَمِيْنِ مَالِكَ» يفيدُ الحِلَّ، واختلافُ الصحابةِ ♥ في طهارتِه ونجاستِهِ، فعن ابنِ عمرَ: نجاستِهِ، وعن ابنِ عباسٍ: طهارتُهُ.
          ثم قال: والصوابُ أنه سببَ التَّردُّدِ في تحقُّقِ الضرورةِ المسقطةِ للنجاسةِ، فإنه تربطُ في الأفنيةِ من الإجَّاناتِ المستعملةِ، فبنظرُ إلى هذا القدرِ من المخالطةِ يَسْقُطُ نجاسةَ سؤرِهِ، التي هي مقتضى حرمةِ لحمهِ الثابتةِ بالنظرِ إلى أنه لا يدخلُ المضايقَ كالهرَّةِ والفأرةِ، ويكون مجانبًا لا مخالطًا فلا / يسقط، فلما وقعَ التَّرَدُّدُ في الضرورةِ وجبَ تقريرُ الأصولِ، فالماءُ كان طاهرًا فلا يتنجسُ بما لم يتحققْ نجاستُهُ، والسُّؤرُ بمقتضى حرمةِ اللحمِ فلا يُحكمُ بطهارتِهِ، ولا يتنجسُ الماءُ بوقوعهِ فيه. انتهى.
          وقد سبقَ هذا الحديثُ مختصرًا في التاسعِ من الثلاثياتِ، فلعل سببَ إعادتِهِ تغيرُ بعضِ الرواياتِ واختلافٌ في الكلماتِ، فلا يكونُ من المكرراتِ، وحيثُ وردَ في الحديثين ذِكْرُ غزوةِ خيبرَ فلا غُرُوَّ أن يزيدَ بيانًا للخبرِ.
          قال في ((الفتح)): قوله: خيبر _بمعجمةٍ وتحتانيةٍ وموحدةٍ_ بوزنِ جَعْفَر: وهي مدينةٌ كبيرةٌ ذاتٌ حصونٍ ومزارعَ على ثمانيةِ بُرُدٍ من المدينةِ إلى جهة الشَّمالِ، وذكرَ أبو عبيدةَ البكريُّ أنها سُمِّيتْ باسمِ رجلٍ من العماليقِ نزلَها، و [قالَ ابن إسحاقَ: خرجَ النبيُّ صلعم في بقيةِ المحرمِ سنةَ سبعٍ فأقامَ يُحاصرها بضعَ عشرةَ ليلةً إلى أن فتحَها في صفرٍ، وروى يونسُ بن بُكَيْرٍ في المغازي] عن ابنِ إسحاقَ في حديثِ المِسْوَرِ ومروانَ قالا: انصرفَ رسولُ الله صلعم من الحديبيةِ فنزلتْ عليهِ سورةُ الفتحِ فيما بينَ مكةَ والمدينةِ، فأعطاهُ اللهُ فيها خيبرَ بقوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِه} [الفتح:20] يعني خيبرَ فقدمَ المدينةَ في ذي الحجَّةِ، فأقامَ بها حتى سارَ إلى خيبرَ في المحرَّم، وعن ابن شهابٍ أنَّهُ صلعم أقامَ بالمدينةِ عشرينَ ليلةً أو نحوِها ثم خرجَ إلى خيبرَ.
          وقال ابنُ إسحاقَ: خرجَ النبيُّ صلعم في بقيةِ المحرَّمِ سنةَ سبعٍ، فأقامَ يُحاصرها بضعَ عشرةَ لياليَ إلى أن فتحَها في صفرٍ. انتهى.
          قالَ ابنُ إسحاقَ: كان غطفانُ مُظاهرينَ يهود خيبرَ على رسول الله صلعم، فبلغني أن غطفانَ لما سمعوا بمنزلِ رسولِ الله صلعم من خيبرَ ثم خرجوا ليُظاهروا يهودَ عليهِ / فلما ساروا منقلةً سمعوا خلفَهم في أموالِهم وأهليهم حِسًّا ظنوا أن القومَ قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابِهم فأقاموا في أهلِيهم وأموالِهم وخلُّوا بين رسولِ الله صلعم وبين خيبرَ.
          ورُوِيَ أنَّ رسولَ اللهِ صلعم لما أشرفَ على خيبرَ، قال لأصحابِهِ: قِفُوْا فوقفوا، فقال: اللهم ربَّ السماواتِ السبعِ وما أَظْلَلْنَ وربَّ الأرضينِ السبعِ وما أَقْلَلْنَ، وربَّ الشياطينِ وما أضللنَ، وربَّ الرياحِ وما ذَرَيْنَ، فأنا أسألكُ من خيرِ هذه القريةِ وخيرِ أهلِها وخيرِ ما فيها، ونعوذُ بك وشرِّها وشرِّ أهلِها وشرِّ ما فِيها، اقدموا بسمِ الله. وكان يقولها لكل قريةٍ يريد دُخولَها.
          وعن أنسٍ ☺ قالَ: سارَ رسولُ اللهِ صلعم إلى خيبرَ فانتهى إليها ليلًا، وكانَ رسولُ الله صلعم إذا أطرقَ قومًا لم يغرْ عليهم حتى يُصبحَ، فصلينا الصبحَ عند خيبرَ بِغَلَسٍ، فلم نسمعْ أذانًا، فلما أصبحَ رَكْبُ رسولِ الله ِ صلعم وركبَ معه المسلمونَ وأنا رَدِيْفَ أبي طلحةَ، فأجرى نبيُّ الله صلعم فانحسرَ عن فخذِ رسولِ الله صلعم، فإن قَدَمِي لتمسُّ قَدَمَيِّ رسولِ الله صلعم، وخرجَ أهلَ القريةِ مزارعَهم بمكاتِلهم ومساحِيهم، فلما رأوا رسولَ الله صلعم قالوا: محمدٌ والخميسُ، فأدبروا هربًا، فقال رسولُ الله صلعم _ورفع يديه_: الله أكبرُ خربت خيبرًا، إنا إذا نزلنا بساحةِ قومٍ فساءَ صباحُ المُنْذَرِيْنَ.
          وقال مُغلطاي وغيره: وفرَّقَ النبيُّ صلعم الراياتِ، ولم تكن الراياتُ إلا [يوم] خيبر وإنما كانت / الألويةُ، وقال الدِّمياطي: وكانت رايةُ النبيِّ صلعم السوادُ من بُرْدٍ لعائشةَ، وفي البخاريِّ: وكانَ عليُّ بن أبي طالبٍ تخلَّفَ عن النبيِّ صلعم وكان رَمدًا فلحقَ فلما بِتْنَا الليلةَ التي فُتِحَتْ، قال: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا _أَوْ لَيَأْخُذَنَّ الرَّايَةَ_ غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ يَفْتَحُ اللهُ عليهِ، فلما أصبحَ الناسُ غدوا على رسولِ الله صلعم كلهم يرجونَ أن يُعْطَاهَا، فقال: «أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟» فقالوا: هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْه، قالَ: «فَأَرْسَلُوا إِلَيْه» فأُتِيَ به فبصقَ رسولُ الله صلعم في عينيهِ ودعا لهُ، فبرئ حتى كأن لم يكن به وجعٌ، فأعطاهُ الرايةَ، فقال عليٌّ: يا رسولَ اللهِ، أُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكُوْنُوْا مِثْلَنَا؟ فقال: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ فِيهِ، فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» الحديث.
          وعن أبي رافعٍ مولى رسولِ الله صلعم قالَ: خرجنا مع عليِّ بن أبي طالبٍ ☺ حين بعثهُ رسولُ اللهِ صلعم، فلما دنَا من الحصنِ خرجَ إليهِ أهلُهُ فقاتلَهُم، فضرَبهُ رجلٌ من يهودِ خيبرَ فطرحَ ترسهُ من يدهِ، فتناولَ عليٌّ بابًا كانَ عندَ الحصنِ فترَّسَ به عن نفسهِ، فلم يزلْ في يدهِ وهو يقاتلُ حتى فتحَ الله تعالى عليه، ثم ألقاهُ من يدهِ حين فرغَ، فلقدْ رأيتني في نفرٍ سبعةٍ أنا ثامِنُهُمْ نجهدُ أن نقلبَ ذلك البابَ فما نقلبه.
          وعن جابرِ بن عبدِ اللهِ [رضي الله ] عنهما: أن عليًا ☺ حملَ البابَ يومَ خيبرَ حتى صعدَ إليه المسلمونَ فافتتحوهَا، وأنه جرَّبَ بعد ذلكَ فلم يحملْهُ / أربعونَ رجلًا. رجالهُ ثقاتٌ.
          وعنهُ أيضًا قال: اجتمعَ عليهِ سبعونَ رجلًا وكان جهدهم أن أعادوا البابَ.
          ويُرْوَى أن عليًا قلعَ بابَ خيبرَ ولم يحركْهُ سبعونَ رجلًا بعد جهدٍ، وقاتلَ النبيُّ صلعم أهلَ خيبرَ وقاتلوهُ أشدَّ القتالِ، واستشهدَ من المسلمينَ خمسةَ عشرَ، وقُتِلَ من اليهودِ ثلاثةٌ وتسعونَ، وفتحَها اللهُ تعالى عليه حِصنًا حصنًا حتى استوفى أرضَ خيبرَ كُلَّهَا.


[1] في المخطوط: « الدنيا ».