حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر

          89- قوله: (أَوْصْانِي خَلِيْلِي) [خ¦1981] أي: وهو النَّبيُّ صلعم.
          قوله: (صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ): بجرِّ (صِيَامِ) بدلٌ مِن (ثَلَاثٍ)، ولم يعيِّن الأيَّامَ بلْ أطْلقَها، فلذلك وقعَ فيها الخلافُ.
          فقيل: هي البِيْضُ؛ كما عليه البُخاريُّ والجُمهورُ، / ويدلُّ لذلك ما وردَ عِنْد النَّسائيِّ[2421، 4310] وصحَّحَه ابنُ حِبَّانَ[3650]، مِن طرِيق مُوسى بنِ طَلْحةَ، عَن أبي هُريرةَ قال:
          جاءَ أَعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلعم بأرْنبٍ قد شَوَاها، فأمَرَهم أنْ يأكُلوا، وأمْسَكَ الأعْرابيُّ، فقالَ النَّبيُّ صلعم: «ما مَنَعَكَ أنْ تأكُلَ!؟».
          قال: إنِّي أَصُوم ثلاثةً من كُلِّ شَهْرٍ. قال: «إنْ كُنْتَ صَائماً فَصُمِ الغُرَّ».
          أي: البِيْضَ.
          وفي بعض طُرُق الحديثِ عِنْد النَّسائيِّ[2427]: «إنْ كُنْتَ صائماً فَصُمِ البِيْضَ: ثلاثَ عشرةَ، وأرْبعَ عشرةَ، وخمْسَ عَشْرةَ».
          وعِنْده[2420] _أيضاً_ مِن حديث جَريرِ بنِ عبدِ الله، عَنِ النَّبيِّ صلعم قال: «صِيَامُ ثلاثةِ أيَّامٍ منْ كُلِّ شَهْرٍ صِيامُ الدَّهْر، وأيَّامُ البِيْضِ: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرةَ».
          وإسْنادُه صحيحٌ.
          وفي رِوايةٍ: «أيَّامُ البِيْضِ» بغَيْر واوٍ.
          فَفيه استحبابُ صومِ الثَّلاثة التي أوَّلها الثَّالث عشر، والمعنى فيه: إنَّ الحسَنةَ بعشر أمْثالها، فصومُها كصَوْم الشَّهْر.
          ومِن ثمَّ سنَّ صوم ثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شَهْرٍ ولو غير أيَّام البِيْضِ، كما في «البَحْرِ»(1) وغيره؛ لإطْلاقِ حديثِ البابِ وغيرهِ.
          وقال السُّبْكيُّ: والحاصل: أنَّه يسنُّ صوم ثلاثة أيَّامٍ من كلِّ شهرٍ، وأن تكون أيَّام البِيْض؛ فإنْ صامَها أتى بالسُّنَّتيْن.
          وتترجَّح البِيْض بكونها وسط الشَّهر، ووسطُ الشَّيء أعدله؛ ولأنَّ الكسوفَ غالباً يقعُ فيها.
          وقد ورد الأمْرُ بمزيدِ العِبادةِ إذا وقعَ، وسُئل الحسن البَصْريُّ: لمَ صامَ النَّاسُ الأيَّامَ البِيْضَ؟ وأعرابيٌّ يسمعُ فقالَ الأعْرابيُّ:
          «لأنَّه لا يكون الكسوف إلَّا فيهنَّ، ويحبُّ اللهُ تعالى أن لا تكون في السَّماء آيةً إلَّا كان في الأرض عِبادة».
          والاحتياطُ صومُ الثَّاني عشر مع صيام أيَّام البِيْض؛ لأنَّ في «التِّرْمذيِّ» أنَّها الثَّاني عشر(2) والثَّالث عشر والرَّابع عشر.
          وقيل: صيام الثَّلاثة(3) في أوَّل كلِّ شهرٍ، ورجَّحَه بعضُهم؛ لأنَّ المرْءَ لا يَدْري ما يعرض عليه من الموانِع.
          وفي حديث ابنِ مسعودٍ عِنْد أصْحابِ «السُّننِ»[س 2368] وصحَّحَه ابنُ خُزيْمةَ [2129]، أنَّ النَّبيَّ صلعم كان يصومُ ثلاثةَ أيَّامٍ من كلِّ شَهْرٍ.
          وقيل: يصومُ من أوَّل كلِّ عشرة أيَّامٍ يَوْماً، وفي حديث عبدِ الله بنِ عَمْرٍو عِنْد النَّسائيِّ: «صُمْ مِنْ كُلِّ عَشَرةِ أيَّامٍ يَوْماً».
          وقيل: ثلاثة أيَّامٍ من آخر الشَّهْر، وقد روى أبو داوُدَ والنَّسائيُّ [د 2451، س 2366] من حديث حَفْصةَ: «كان النَّبيُّ صلعم يصوْمُ مِن كلِّ شَهْرٍ ثلاثة أيَّامٍ: الإثنين والخميْس، والإثنَين من الجُمعةِ الأُخرى».
          ورَوى التِّرْمذيُّ [746]، عَن عائشةَ: «كان النَّبيُّ صلعم يصومُ من الشَّهْرِ السَّبْت والأحَدَ والإثنين، ومنَ الشَّهْرِ الآخر الثُّلاثاء والأربعاءَ والخمِيس».
          وقد جمعَ البَيْهقيُّ(4) بين ذلك وبين ما قبله ممَّا في «مُسلم»[194_1160] عن عائشةَ قالت: «كان رسولُ الله صلعم يصومُ مِن كلِّ شهرٍ ثلاثة أيَّامٍ، ما يُبالي من أيِّ شهرٍ صامَ».
          قال: فكلُّ مَن رآه فَعَلَ نَوْعاً ذَكَره، وعائشةُ رأتْ جميعَ ذلك وغيره، فأطلقتْ.
          ورَوى أبو داوُد[2452]، عن أُمِّ سَلَمَةَ قالت: «كان رسولُ الله صلعم يأمُرني أنْ أصومَ ثلاثة أيَّامٍ من كلِّ شهرٍ، أوَّلها: الإثنين والخميس». /
          والمعروفُ من قولِ مالكٍ كراهةُ تعْيين أيَّامِ النَّفل، أو يجعل لنفسِه شَهْراً أوْ يوماً يلتزم صَوْمه، ورُوي عنه كراهةُ تعمُّد صيامِ الأيَّام البِيْض، وقال: «ما كان ببلَدِنا».
          ورُوي عنه أنَّه كان يصومها، وأنَّه كتبَ إلى الرَّشِيْد يحضّه على صوْمِها.
          قال ابنُ رشدٍ: وإنَّما كرهَها لسُرعة أخذِ النَّاس بمذهبِه، فيظنُّ الجاهلُ وُجوبَها، والمشهور من مذْهَبِه استحبابُ ثلاثة أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ وكراهةُ كونها البِيْض؛ لأنَّه يفرُّ منَ التَّحديدِ.
          وقال الماوَرْدِيُّ(5): ويسنّ صوم أيَّام السُّود الثَّامن والعشرين وتاليَيه، وينبغي أن يصامَ معها السَّابع والعشرون احتياطاً، وخصَّت أيَّام البِيْض وأيام السُّود بذلك لتعميم ليالي الأُولى بالنُّور وليالي الثَّانية بالسَّواد، فناسب صوم الأُولى شُكْراً والثَّانية لطلب كشفِ السَّواد؛ ولأنَّ الشَّهْرَ ضيفٌ قد أشرفَ على الرَّحيل، فناسبَ تزويده بذلك.
          والحاصلُ ممَّا سبق أقْوالٌ:
          أحدُها: استحبابُ ثلاثة أيَّامٍ من الشَّهر غير معيَّنةٍ.
          الثَّاني: استحبابُ الثَّالث عشر وتاليَيه، وهو مذهبُ الشَّافعيِّ وأصحابِه، وابنِ حَبيْبٍ من المالكيَّة، وأبي حَنيفةَ وصاحِبَيْه وأحمدَ.
          والثَّالث: استحباب الثَّاني عشر وتالييْه، وهو في «التِّرْمذيِّ».
          الرَّابع: استحبابُ ثلاثةٍ من أوَّل الشَّهر.
          الخامسُ: السَّبْت والأحد والإثنين من أوَّل الشَّهر، ثمَّ الثُّلاثاء والأرْبعاء والخميس من أوَّل الشَّهْر الذي يَلِيْه.
          السَّادس: استحبابُها من آخر الشَّهْرِ.
          السَّابع: أوَّلها الإثنين والخميس.
          الثَّامن: الإثنين والخميس، والإثنين من الجمعة الثَّانية.
          التَّاسع: أنْ يصومَ من أوَّل كلِّ عشرة أيَّامٍ يَوْماً.
          قوله: (وَرَكْعَتَي الضُّحَى) عطْفٌ على السَّابق، أي: قالَ أبو هُريرةَ: وأوْصاني خَليْلي صلعم بصلاةِ رَكْعَتَي الضُّحى.
          وزاد أحمد [8091]: «في كُلِّ يَوْمٍ».
          وهما يُجزِيان عن ثلاث مئةٍ وستِّين صَدَقةً، وهي التي تطلب من الشَّخص شُكراً لله تعالى على سلامةِ أعضائِه.
          قوله: (وأنْ أُوْتِرَ) أي: أوْصاني بالوِتْرِ قبلَ أنْ أنامَ، وهذا محمولٌ على ما إذا لم يَثِقْ بيقظتِه آخر اللَّيل، وإلَّا فالتَّأخيرُ أفضلُ.
          وليست هذه الوَصيَّة خاصةً بأبي هُريرة، فقد وردتْ وصِيَّته ╕ بالثَّلاث _أيضاً_ لأبي ذَرٍّ، كما عِنْد النَّسائيِّ [2404]، ولأبي داوُد(6) كما عِنْد مُسلمٍ [86/722].
          وقيل: في تخصيص الثَّلاثة بالثَّلاثة لكونهم فُقراء لا مال لهم، فوصَّاهم بما يليقُ بهم وهو الصَّوم والصَّلاة، وهُما مِن أشْرفِ العِباداتِ البَدَنيَّةِ.
          وهذا الحديثُ ذكرَهُ البخارِيُّ في باب: صيامُ أيَّام البِيْضِ.


[1] بحر المذهب 3/307.
[2] قوله: «مع صيام أيام... الثاني عشر» ليس في الأصل، واستدركت من النسُّخة التيموريَّة.
[3] كذا في الأصل، وفي «م» زيادة: عشر.
[4] نقله عنه الحافظ في الفتح 4/226.
[5] نقله عنه القسطلاني في الإرشاد 3/411.
[6] كذا في الأصل وبجميع نُسخ الكتاب، وهو غلط، والصَّواب عندي: الدَّرْداء في مسلم.