حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: من استطاع الباءة فليتزوج

          86- قوله: (عَنْ عَبْدِ الله) [خ¦1905] أي: ابنِ مَسْعودٍ.
          قوله: (البَاءَةَ) فيها لُغاتٌ أربعٌ:
          المدُّ مَع هاءِ التَّأنيثِ، وهي اللُّغةُ المشهورةُ.
          والثَّانية: القَصْرُ مَع الهاءِ.
          والثَّالثةُ: المدُّ بلا هاءٍ.
          والرَّابعة: «البَاهَة» بهاءَيْن بلا مَدٍّ، وهي لُغةً: الجِمَاعُ.
          فالمعنى: مَنِ اسْتطاعَ منكُم الجِماعَ.
          وقيل: الباءَةُ مُؤَنُ النِّكَاحِ، والقائلُ بالأوَّلِ ردَّه إلى الثَّاني؛ إذِ التَّقدير عنْدَه: منِ استَطاعَ منكُم الجِماعَ لقُدْرتِه على مُؤَنِ النِّكَاحِ.
          قوله: (فَلْيَتَزَوَّجْ) الأمْرُ للنَّدْبِ.
          وقوله: (فَإنَّهُ) أي: التَّزوُّج المفهومُ مِن الفِعْل قَبْله.
          وقولُه: (أَغَضُّ) بالغَين والضَّاد المُعجَمتَين، أي: أشدُّ غضّاً للبصرِ مِن / فِعْلِ ما سواه، أي: إنَّ النِّكاحَ أمْنعُ للبصرِ منَ المُحرَّمات.
          وقوله: (وَأَحْصَنُ للفَرْجِ) أي: وأكْثرُ إحْصاناً وحِفْظاً ومَنعاً للفَرْجِ، فقد وردَ عن جابرِ بنِ عبدِ الله(1) قال: قالَ رسوْلُ الله صلعم: «أيُّما شابٍّ تَزوَّجَ في حَدَاثَةِ سِنِّه عَجَّ شَيْطانُه _أي: يقول_ يا وَيْلَهُ! عَصَمَ مِنِّي دِيْنَه».
          قوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أي: الباءَةَ المفسَّرة بالجِماع لعجزِه عنِ المُؤَنِ، أو: لم يستطعِ الباءةَ المفسَّرة بالمُؤَنِ، وأمَّا مَن لم يستطِعِ الجِماع لعدمِ شَهْوته لا يحتاج إلى الصَّوْم(2).
          قولُه: (فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ) في هذا كلامٌ للنُّحاة، قيل من إغْراءِ الغائبِ، (فَعَلَيْهِ) اسم فعل أمْرٍ، والباءُ زائدةٌ في المفعول، أي: فيلزم الصَّوم، وهذا شاذٌّ، ولكن سهله تقدم المُغْرى في قوله: (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الباءَةَ)، فكانَ كإغراءِ الحاضرِ؛ قالَه أبو عُبيدَةَ.
          وقال ابنُ عُصْفُورٍ: الباءُ زائدةٌ في المبتدإ، ﻓ (الصَّوْم) مبتدأٌ مؤخَّرٌ، و(عَلَيْهِ) جارٌّ ومجرورٌ خبَرٌ مقدَّمٌ، أي: فالصَّوْم كائنٌ عليه، وهو من قبيل الإخْبار لا الأمر، فيكون النَّبيُّ صلعم أخْبَرَ بأنَّ عليه الصَّوْم، إمَّا على سبيل الوُجوب إنْ خافَ العَنَتَ، أو على سبِيل النَّدْبِ إنْ لم يخفه.
          وقالَ ابنُ خَرُوْفٍ: مِن إغراءِ المُخاطب، أي: أَشِيْرُوا عليه بالصَّوْم، فحذف فِعْل الأمْرِ وجعل عليه عِوَضاً عنْه، وتولَّى من العملِ ما كان الفِعْلُ يتَولَّاهُ واستترَ فيه ضميرُ المخاطبِ الذي كان متَّصلاً بالفِعْلِ.
          ورجَّحَ بعضُهم رأيَ ابنِ عُصْفُوْرٍ، بأنَّ زيادة الباءِ في المبتدإ أوسعُ من إغراءِ الغائبِ ومن إغراءِ المخاطبِ مِنْ غير أن ينْجرَّ ضميرُه بالظَّرفِ أو حرف الجرِّ الموضوع مَع ما خفضه موضع فِعْل الأمْرِ.
          قوله: (فَإنَّهُ) أي: الصَّوْم.
          وقوله: (لَهُ) أي: للشَّخْص الصَّائم، أي: لشَهْوَتِه، والجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بقوله: (وِجَاءٌ) وهو بكَسْرِ الواو والمدِّ خَبَرُ (إنَّ)، والأصل: فإنَّ الصَّوْمَ وِجَاءٌ لَه، أي: قاطعٌ لشَهْوةِ الصَّائمِ.
          قوله: (وِجَاءٌ) هُو بحسب الأصلِ رَضُّ الخصيتَين، أي: قطع البَيْضتَين.
          وقيل: رَضُّ عروقهما، ومن يفعل به ذلك تنقطع شهوته، أي: إنَّ الصَّوْمَ يقطع الشَّهْوةَ كالوِجَاءِ، فالجامعُ أنَّ كُلًّا قاطعٌ للشَّهْوة، فهو مِن قَبيل التَّشبِيه البَلِيغ مَع حذْفِ الأداةِ.
          فإنْ قلتَ: إنَّ الصَّوْم يزيدُ في تَهْييجِ الحرارةِ، وهو ممَّا يُثير الشَّهْوة!؟
          أُجِيْبَ بأنَّ ذلك إنَّما يكون في ابتداءِ الأمْرِ، فإذا تَمادى عليه واعتادَه سَكَن ذلك.
          قال في «الرَّوْضة»[5/363]: فإنْ لم تنكسر به لم يكسرها بكافورٍ ونحوه، بلْ ينكح، قالَ ابنُ الرِّفْعةِ(3) نقلاً عنِ الأصحاب: لأنَّه نوعٌ من الاختصاءِ، فيحرم كسرها به، ولا دليل في الحديث على جوازِ القطع بتناوله، خلافاً للشَّيخ الأُجْهُورِيِّ، وأمَّا الذي لا يقطعها بلْ يضعفها فيجوز استعماله مع الكراهة.
          وهذا الحديثُ ذكَره البُخاريُّ في باب: الصَّوْم لمن خافَ على نفْسِه العزوبة(4).
          أي: العَنَتَ بسبَبِها.


[1] الطبراني في الأوسط 4475 وأبو يعلى في مسنده 2041.
[2] قوله: «إلى الصوم» زيادة من الأصل، وفي بعض النُّسخ و«م»: للصوم.
[3] كفاية النبيه ░13/6▒.
[4] في نسختي (العزبة).