حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة

          75- قولُه: (يَسْأَلُ النَّاسِ) [خ¦1474] أي: منْ غيرِ حاجةٍ، بلْ على وَجْهِ التَّكْثر، وأمَّا دَوامُ السُّؤال مَع الحاجة كُلّ مرَّةٍ، فليسَ مذْمُوماً. /
          وظاهرُه الوَعيْد لمن سألَ سُؤالاً كَثيْراً.
          والبخاريُّ فهِمَ أنَّه وَعِيْدٌ لمن سألَ تكثُّراً، والفَرْقُ بينهما ظاهرٌ، فقد يسألُ الرَّجُلُ دائماً وليس مُتكثِّراً لدوامِ افْتقارِه واحتياجِه، لكن القواعد تبيِّن أن المتوعَدَ هو السَّائل عَن غِنًى وكثرة؛ لأنَّ سؤالَ الحاجةِ مُباحٌ؛ وعلى هذا نزَّلَ البخاريُّ الحديْثَ.
          وظاهرُ قولِه: (يَسْأَلُ النَّاسَ) عُمُومُ المسلم والكافرِ، فيُؤخذ منه جوازُ سؤالِ غير المسلم، وكان بعضُ الصَّالحين إذا احْتاج يسأل ذمِّياً، لئلَّا يعاقب المسلم بسبَبِه لو رَدَّه. قالَه ابنُ أبي جَمْرةَ.
          قوله: (مُزْعَةُ لَحمٍ) _بضمِّ الميم، وسُكون الزَّاي، وفتح العَين المهملة، وزادَ في «القامُوْسِ» كسرَ الميْم، وحكى ابنُ التينِ فَتْحَ الميمِ والزَّاي(1)_: القِطْعةُ منَ اللَّحْمِ.
          ثمَّ يَحتملُ أن يكون ذلك كِنايةً عن إتيانِه يوم القيامة ذليْلاً ساقطَ الرّتبةِ، لا قَدْرَ لهُ ولا جَاهٌ.
          ويحتملُ أن يسقطَ لحْمُ وَجْهِه حقيقةً، وإنَّما نالتْه تلْك العُقوبة في وَجْهِه مُشاكلةً للذَّنْب الذي وقعَ منْه، فإنَّه حين كانَ يسأل النَّاس يقبلُ عليهم بوَجْهِه، فالجزاءُ مِن جِنْسِ العَمَل، كالعالِمِ الذي لم يعملْ بعِلْمِه، يُقرض لِسانُه بمقراضٍ منْ نارٍ يوم القِيامةِ.
          و يُؤخذُ منَ الحديْث ذَمُّ السُّؤالِ إذا كان لاسْتكثارِ المالِ، وأمَّا إذا كان لحاجةٍ، فهُو مطْلوبٌ ولا ذَمّ فيه.
          فالذي يبذلُ وَجْهَه لغَيْر الله تعالى في الدُّنيا منْ غَيْر بأْسٍ وضرورةٍ بلْ للتَّوسُّع والتَّكْثير: يصيبُه شَيْنٌ في وجْهِه بإذْهابِ اللَّحْمِ عنْه، ليظهر للنَّاسِ عنه صُورة المعنى الذي خفيَ عليْهم منْه.
          وهذا الحديثُ ذَكَرهُ البُخاريُّ في باب: مَن سألَ النَّاس تكَثُّراً.


[1] نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح ░3/339▒.