حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالًا

          69- قولُه: (لا حَسَدَ) [خ¦1409] أي: لا غِبْطَةَ ممْدوحةً، (إلَّا في اثْنَتَيْنِ) بالتَّأنيثِ، وفي رِوايةٍ: «إلَّا فِي اثْنَيْنِ» بالتَّذْكير.
          فالمرادُ بالحسَدِ الغِبْطَةُ، التي هي تَمنِّي مِثْل ما للغَيْر، وليس المرادُ به حقيقتَه التي هيَ تمنِّي زَوال النِّعْمةِ عنِ الغَيْر، سواءٌ تمنَّى انْتِقالها لنَفْسِه أو لغَيْره.
          فإنْ قُلْت: ما وَجْه الحصرِ في هاتَين الخصلتَين، مَع أنَّ كلَّ خيرٍ يتمنَّى مثله شَرْعاً؟!
          أُجِيْبَ بأنَّ الحصرَ غيرُ مُرادٍ، وإنَّما المرادُ مقابلةُ ما في طِباع الشَّخصِ بالضِّدِّ، فإنَّ طبعَ الإنسانِ إذا رأى غيره يجمع المالَ يحسده ليكون مِثْله، وإذا رأى غيره يُعطي أحَداً يذمّه ليكون مثله، فالطِّباعُ تحسد بجمْع المال وتذم ببذلِه، أي: إعطائه، فبيَّن الشَّرْعُ عكْس الطَّبع، فكأنَّه قالَ: لا حَسَدَ إلَّا فيما تذمون عليه، ولا مذمَّة إلَّا فيما تحسدون عليه.
          ووَجْهُ الجمْع بين الخصلتَين اللَّتَين في الحديث: إنَّ المالَ يزِيدُ بالإنفاقِ ولا ينقص، قال الله تعالى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، وقالَ صلعم: «ما نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ»[ت 2325]، والعِلْمُ المعبَّر عنه بالحكْمةِ يزيدُ أيضاً بالإنفاق منْه، أي: بتعْليْمِه.
          قوله: (رَجُلٍ): بالجرِّ، بدَلٌ مِن (اثْنَتَيْنِ)، وهو على حذفِ مُضافٍ بالنِّسبة لرِوايةِ: (اثْنَتَيْنِ) بالتَّأنيث، أي: خصلة رجُلٍ، وإنَّما كان على حذفِ مُضافٍ؛ ليَتَوافق البَدَلُ والمُبدلُ منْه، وإلَّا؛ فلا يصح الإبْدالُ لتخالفهما، وخصلةُ الرَّجُلِ الأوَّل إنفاقُ المالِ في الخيْراتِ، وخصلةُ الرَّجل الثَّاني تعْليمُه العِلْم وحُكمُه به.
          وأمَّا على رِواية: (اثْنَيْنِ) بالتَّذْكير، فلا تقدير.
          وفي رِوايةٍ: «رَجُلٌ»، بالرَّفْع خبرُ مبتدإ محذوف، أي: أحدُهما رجُلٌ.
          وقوله: (آتَاهُ) بمَدِّ الهمْزة، أي: أعطاهُ.
          قوله: (فَسَلَّطَهُ على هَلَكَتِهِ) في التَّعبير بالتَّسليطِ والهلَكَةِ إشْعارٌ بفناءِ الكُلِّ، أي: كلُّ المالِ. وهَلَكَةٌ بفَتْح اللَّام.
          قوله: (في الحقِّ) أخْرجَ به التَّبذيرَ الذي هو صَرْف المالِ في المحرَّماتِ، فلا حَسَدَ فيْه، وفي رِوايةٍ لغَيْر البُخاريِّ: «في الخيْرِ»(1).
          قوله: (حِكْمَةً) قيلَ: المرادُ بها: القرآنُ.
          وقيل: السُّنَّةُ.
          وقيل: العِلْمُ النَّافعُ الشَّاملُ للقُرآن والسُّنَّة.
          وقوله: (فَهُوَ يَقْضِي بِهَا) أي: يحكمُ بها بين النَّاسِ.
          وقوله: (وَيُعَلِّمُهَا) أي: لهم.
          وهذا الحديثُ ذَكَره البُخاريُّ في باب: إنْفاق المالِ في حَقِّهِ.


[1] نقل هذا اللفظ الغزالي في إحياء علوم الدين.