حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس

          66- قوله: (إنَّ أَبا بَكْرٍ خَرَجَ) [خ¦1241] أي: من حُجْرَةِ عائشةَ.
          والحاصلُ: إنَّ أبا بكْرٍ خرَجَ من مسكَنِه(1) حتَّى نزلَ عَن فَرَسِه عند باب المسجِد النَّبويِّ، فلم يُكلِّمْ أحداً حتَّى دخَلَ على عائشةَ فقصدَ النَّبيَّ صلعم وهو مُسجَّى _أي: مُغطَّى_ بِبُرُوْدٍ من ثيابِ الحِبَرَةِ _بوَزْن عِنَبةٍ_ وهي ثيابٌ يَمانيةٌ مخطَّطةٌ، فكشفَ أَبو بكْرٍ عن وَجْهِه صلعم، ثمَّ أكبَّ عليه فقبَّلَه بين عَيْنَيْه، ثمَّ بكى.
          وفَعَلَ ذلك اقْتداءً به صلعم حين دخَلَ على عُثمان بنِ مَظْعُوْنٍ وهو ميِّتٌ، فكشفَ وَجْهه وأكبَّ عَلَيه وقبَّلَه وبكى، ثمَّ قالَ أبو بكْرٍ: «بأَبِي أَنتَ يا نَبِيَّ الله _أيْ: أفْديكَ أو أنت مفديٌّ بأَبي ... إلى آخرِه(2)_ لا يجمع اللهُ عليك مَوْتتَيْنِ».
          أي: في دارِ الدُّنيا.
          فَفي هذا ردٌّ على مَن قال: إنَّ اللهَ يُحيي محمَّداً حتَّى يقطع أيدي رِجالٍ، أيْ: منَ الكفَّار، لأنَّه لو فعَلَ اللهُ ذلك بِه لَزِمَ أنْ يموتَ المُصطفى صلعم مَوْتةً أُخرى، فأخبر بأنَّه أكرم على الله مِن أنْ يجمعَ عليه مَوْتتَين، كما جمعهما على غيره كسيِّدِنا العُزَيْر الذي أَخْبر عنه المولى جَلَّ جلالُه في قولِه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ...} [البقرة:259] الآيةَ.
          ثمَّ قال أبو بكْرٍ: أمَّا الموْتةُ التي كُتبتْ عليك فقد متَّها.
          ثمَّ إنَّ أبا بكْرٍ خرَجَ فوجَدَ عُمر ╠ (يُكَلِّمُ النَّاسَ...) إلى آخرِ ما ذكَره المصنِّف في الحديثِ.
          قوله: (يُكَلِّمُ النَّاسَ) أي: فيقول: «مَنْ قالَ: إنَّ محمَّداً ماتَ، قطعْتُ عُنقَه بهذا السَّيْف، وإنَّما رفَعَه اللهُ، وسيَعُودُ ويقتل قَوْماً ويقطع / أيْدي قَوْماً».
          وقالَ ذلك القوْلَ حين أخبر أنَّ رسولَ الله صلعم تُوفِّي، وضجَّتِ الصَّحابةُ ═ للأمْرِ الذي أَصابَهُم مِن ذلك، فقالَ ذلك القَوْلَ المتقدِّمَ، ولم يدخُلْ على النَّبيِّ صلعم ولا نَظَر إليْه.
          قولُه: (فَقَالَ) أي: سَيِّدُنا أبو بكْرٍ لعُمَرَ ☻ (اجْلِسْ).
          وقوله: (فَأَبى) أي: امتنعَ عُمر مِن الجلوسِ لما حصلَ لَهُ مِن الدَّهْشةِ والحزْنِ.
          قوله: (فَتَشَهَّدَ أَبو بكْرٍ) أي: أَتى بالشَّهادتَيْن.
          قوله: (قَالَ اللهُ ╡) إنَّما قرأَ أبو بكْرٍ هذه الآيةَ تعزِّياً وتصبُّراً وتَسلِّياً للحاضِرين.
          قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ}.
          وفي بعض الرِّوايات: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ...} إلى {الشَّاكِرِينَ}.
          وفي بعض النُّسخ ذِكْر الآيةِ بتمامِها.
          قوله: (والله...) إلى آخرِه، هذا مِن كلام ابنِ عبَّاسٍ.
          قوله: (أَنْزَلَ هذِهِ الآيَةَ) وفي رِوايةٍ: «أَنْزَلَها».
          قوله: (فَلَمْ يَسْمَعْ بَشَرٌ) أي: بهذه الآية.
          وفي بعضِ النُّسخ: «فَمَا يَسْمَعُ بَشَرٌ»، بالبناءِ للفاعلِ على كُلٍّ منْهما.
          وإنَّما تكلَّمَ أبو بكْرٍ بما في الحديث لِما وَقَرَ في صدْرِه من قوَّة اليقين، ومَن كان كذلك لا تحرِّكه قوَّة الحوادِث ولا يهتز لها، وينبني أمرُه كُلُّه على الأحْوطِ والأقْوى.
          وإنَّما تكلَّمَ عُمر بما تقدَّمَ وسَلَّ سَيْفَه؛ لأنَّ مقامَه الشَّجاعةُ، وهي القوَّةُ في الدِّين، فلمَّا أُخبِر بوَفاة النَّبيِّ صلعم ورأى ما النَّاس فيه لم يدخلْ عَليه، وجعَلَ ☺ الوفاةَ في ذلك الوقْت مُحتملة لأنْ تكون حقيقةً وأنْ لا تكون حقيقةً.
          وأمَّا عثمانُ ☺ فكانَ يدخل ويخرجُ ولا يتكلَّم؛ لأنَّ صِفَتَه الحياءُ، ومَن كان كذلك لا يمكنه الكلام مِن أجْلِ الحياءِ.
          وأمَّا عليٌّ، فأُقعِد ولم يَتكلَّم، لاختصاصِه بمزيدِ العِلْم، ومَن كانَ كذلك إذا رأى شيئاً مِن آياتِ الله جاءَهُ الخوْفُ والإذْعانُ، ولا يُبدي مِن عِنْد نَفْسِه شَيئاً تأدُّباً حتَّى يرى حُكم الله فيه، قال صلعم:
          «أَنا مَدِيْنةُ السَّخاءِ وأبو بكْرٍ بابُها، وأنَا مديْنةُ الشَّجاعةِ وعُمر بابُها، وأنا مدِينةُ الحياءِ وعثمانُ بابُها، وأنا مَدينةُ العِلْم وعليٌّ بابُها»(3).
          وكثرة السَّخاءِ لا تكون إلَّا منْ قوَّةِ اليقين.
          والمرادُ ﺑ «الشَّجَاعَةِ» هنا: الشَّجاعةُ في الدِّيْن.
          وهذا الحديثُ ذَكَره البُخاريُّ في باب: الدُّخول على الميِّت بعْدَ الموْتِ إذا أُدْرِجَ في أكْفانِه.


[1] كذا في الأصل و«م»، وفي «ز5»: منزله.
[2] كذا في الأصل و«ز1» و«ز5»، وسقطت من «م».
[3] نقله في نزهة المجالس ░2/164▒ قال رأيت في شرح البخاري لابن أبي جمرة وهو في بهجة النفوس 2/105، ولم يعزه لأحد.